بطرس دانيال يكتب: لا إسراف فى الكلام
«إن فن الحديث هو الاستماع دائماً والكلام أحياناً». نحن نعيش فى عالم غارق فى الكلام بشتّى الوسائل التى تحيط بنا. فالكلمة لها أهميتها وقدسيتها ومفعولها، ولا نستطيع أن ننكر أن الله تعالى خلق الكون بكلمةٍ منه مبيّناً لنا غنى الكلمة وتأثيرها، لكن ما نراه اليوم هو أن الإنسان أهدر قيمتها، وأصبحنا كالغريق فى بحرٍ من الكلام والثرثرة. يقول المثل اليابانى: «فكّر فى سنة، وتحدّث فى ثانية». ولكن واقعنا يُظهر لنا خلاف ذلك من كلامٍ ووعودٍ حتى فقدت الكلمات معناها الحقيقى. نحن جميعاً نعلم بأن الكلمة لها قيمتها الثريّة وهدفها الحقيقى هو التحاور والتواصل مع الآخر، ولكنها تُكَبّل وتُقَيّد وتتوحش فى حالة فراغ الضمير وظلام العقل وبلادة الروح. كم هو مؤسف ومزعج عندما تصطدم بآذاننا شلالات من الكلمات الجوفاء المُهينة! إنها كلمات لا معنى لها وضررها أكثر من نفعها، تهدم لا تبنى، تجرح الآخرين لا تُضمّد جراحهم. إذاً يجب علينا أن نطهّر كلماتنا وألفاظنا من السطحية والأحاديث التى لا جدوى منها. نعيشُ الآن فى عالم يُفضّل الثرثرة والإسراف فى الكلام، والتى تدمّر الصمت وتسجن الكلمة تماماً. ويقول الكاتب الساخر ﭼوفانّى بابينى: «هناك أشخاص لا يقولون شيئاً ولكنهم يقولونه جيداً، وآخرون يقولون أشياءً كثيرة ولكنهم يقولونها برداءة، لكن الأسوأ من هذا وذاك الذين لا يقولون شيئاً على الإطلاق ويقولونه بطريقة سيئة». مُعظمنا واجه هذه الأنواع الثلاثة، فقد تقابلنا مع مَنْ لا ينطقون كلمات كثيرة ولكنها غنية تشبع فضولنا وتطلعاتنا وتساعد على البنيان، ومع أشخاص لا يكفّون عن الكلام ونتيجة أحاديثهم الدمار والخراب. فالحكيم يمتحن ويفحص كلماته ويبنيها على أساسٍ متين، أما الجاهل فيصب من فمه شلالات من الثرثرة لأن حياته كلها فراغ. نحن محاطون بأشخاص ذوى النية الصافية ولكنهم يرددون كل ما يعرفونه دون أن يعرفوا ما يقولونه. لذلك نطلب من الله أن يغفر لهم لأنهم لا يعرفون ما يقولون.
ويقول الكاتب الإنجليزى أوسكار وايلد: «يوجد أناس تعشق أن تتحدث فى اللا شىء، وهذا هو موضوعهم الوحيد الذى يعرفونه». ذات مرة اعترض أحد طالبى الحكمة قائلاً لأحد تلاميذ معلمٍ عظيم: « أتيتُ من أقاصى البلاد لأصغى إلى المعلم الجليل، ولكنى لم أجد شيئاً مميزاً قى كلامه». أجابه التلميذ: «لا تسمع كلامه، لكن إصغِ إلى الرسالة الناتجة عنه». فسأله: «كيف أستطيع فعل ذلك؟» رد الشاب: «اصطاد عبارة من كلماته وغربلها حسناً حتى تقع الكلمات الأخرى، وفيما بعد يتبقّى ما يدخل قلبك ويمسّه». إذاً يستطيع الإنسان أن يتمسك بكلمات بسيطة تمر على أذنيه وتعود عليه بالمنفعة والفائدة حتى يقاوم ما يقابله من بهلوانية الكلام والشعارات الجوفاء والشائعات، لأن كل هذه أصبحت غذاءً لآذاننا وعقولنا وأفهامنا. للأسف توجد بعض وسائل الإعلام والإتصال تفرض علينا لغةً وكلمات ومصطلحات دون المستوى. إذاً، فالدرس الأول الذى يجب أن نتعلّمه من هذا المثل هو أن نغربل الكلمات التى تصل إلى آذاننا حتى تقع المصطلحات التى لا معنى لها ولا تليق بأخلاقياتنا ومستوانا. أما الدرس الثانى هو أنه من الممكن أن نتقابل مع أُناسِ بسطاء، لكنهم ذوى عمق وحكمة ومعلمين حياة حتى ولو كانت لغتهم ومفرادتهم ضعيفة. كم من مرةٍ تصادفنا مع وعّاظ وخطباء يعطون شهادة بحياتهم أكثر من كلماتهم؟ إذاً... يجب أن نذهب أبعد من الكلمات لأنه عندما نقتلع الأوراق من الشجرة سنكتشف الثمار أمامنا، وكل ماسيبقى هو الذى يوهج قلوبنا.
ويقول الله فى سفر إرميا النبى: «أليست كلمتى كالنار، وكالمطرقة التى تُحطّم الصخر؟» (23: 29). فالكلمة المقدسة سيفٌ ونارٌ وصخرٌ ومطرٌ يروى ونورٌ يخترق الظلام وطعامٌ لذيذٌ كالعسل، يكفى الإنسان استعداد بسيط وقلب منفتح وإنصات بإحساسٍ ليتأثر بهذه الكلمات ويتفاعل معها. فالكلمة هى عطية عظيمة من الله للبشرية، ولكن يوجد من يبدّلونها بأخرى تحجب الحقيقة وتصبح طريقاً للكذب والخداع بدلاً من أن تكون أداةً لكشف الصدق ووسيلة اتصال بين البشر. ويقول سفر الأمثال: « كثرة الكلام لا تخلو من زَلّة ومَنْ ضبط شفتيه فهو عاقل». فكلما تضاءلت المعرفة عند الشخص، ازداد ولعاً بالحديث عن هذا القليل الذى يعرفه. إذاً لنجعل محبساً للساننا ونتكلم أقل مما نفكّر، لأن من صفات الجاهل الإجابة قبل أن يسمع، والمعارضة قبل أن يفهم، والحُكم بما لا يعلم. ونُكلل كلامنا بهذه الحكمة: «خيرُ الكلام ما قل ودل».