أحمد فايق يكتب: كيف أصبح الشعب الياباني سعيدًا؟
24 يومًا فى بلاد الكابتن ماجد ومازنجر وأوشين - 2
ليست اليابان كوكبًا كما نعتقد لكنها بلد تعمل وفق نظام صارم ولا يولد اليابانى كائنًا فضائيًا لكنه يعمل وفق منظومة وليس مطلوبا من جميع الشعب هناك أن يكون مفكرا وقائدا بل لاحظت أن ٩٥ فى المائة منهم جنود
لقد رأيت كل ما أمرتنا به الأديان السماوية الثلاثة فى دولة بلا دين
كان لدينا موعد مهم مع مديرة مدرسة ابتدائى بطوكيو، الموعد فى الثامنة إلا ربع صباحا، وعلينا أن نستيقظ فى الخامسة، نجمع معداتنا ونلملم حالنا، فريق عمل «دى أم سى» بدا عليه الإرهاق، فهم يعملون يوميًا ١٦ ساعة، نجمع قوتنا لتصوير موسم جديد من برنامج «مصر تستطيع»، نواصل رحلة الانبهار بالشخصية المصرية التى تخطت إبداعاتها الخيال، من السيارات ذاتية القيادة وحتى مفاعلات الاندماج النووى فى بلد لا يقبل الأجنبى إلا إذا كان ذو كفاءة نادرة، هناك قابلت ٢٠ شخصية مصرية يحملون إقامة تحت مسمى «ذو كفاءة نادرة» ولنا فيهم حديث آخر.
الشوارع فى طوكيو ليست واسعة مثل القاهرة، المساحات هناك ثمينة لأن اليابان ليست بالدولة الكبيرة على مستوى المساحة، وهى عبارة عن آلاف الجزر، عدد السكان فى طوكيو ضخم ويصل إلى ١٠ ملايين متفوقا على عدد سكان نيويورك، مساحات الشوارع فى طوكيو لا تصل إلى نصف شوارع القاهرة من حيث الاتساع، لكنها أكثر انسيابية وانتظامًا من مصر.
هناك بدائل كثيرة فى الطريق من الفندق إلى المدرسة تستطيع أن تجدها على جوجل ماب، أكثرها دقة هو المترو، لأنه الوسيلة الوحيدة التى تضمن لك أن تصل فى موعدك، اليابانيون يستقلون تاكسى من منزلهم إلى أقرب محطة مترو ثم يستقلون المترو، التاكسى هناك باهظ جدا ولا يستخدمه إلا الأثرياء جدًا.
لا تتعجب إذا دفعت ٥٠ دولارًا فى مشوار لا يزيد على ٥ كيلومترات، حينما تستقل التاكسى فى طوكيو من مسافة طويلة فإنه يظهر أمامك خياران إما أن تسير فى الطريق التقليدى وذلك دون رسوم، أو تسير فى طريق أكثر سرعة مقابل ١٣ دولارًا رسومًا تتم إضافتها على الفاتورة، فهناك طريق يشبه الدائرى فى مصر عبارة عن حارتين فقط القطاع الخاص يديره بنظام الاستغلال وتدفع ١٣ دولارًا رسوما فى كل مرة تسير فيه!
فى اليابان الرفاهية لها ثمن باهظ جدا، وهذا نمط حياة، هناك سوبر ماركت كبير بنظام الهايبر يغلق فى مواعيد مبكرة وأسعاره معقولة، وبجوار منزلك تجد سوبر ماركت آخر صغير يعمل ٢٤ ساعة ولكن بضعف ثمن الأسعار.
تستطيع أن تصل إلى أبعد نقطة فى طوكيو مقابل ١٥ دولارًا تذاكر مترو وقطارات وتستطيع أن تصل إليها بالتاكسى مقابل ٥٠٠ دولار، وتستطيع أن تذهب بسيارتك مقابل ٣٠ دولارًا ثمن البنزين والجراج ورسوم الطريق!
الشوارع ليست مزدحمة لأنها منظمة، ولأن هناك قواعد وضغوطًا مالية تجبرك على استخدام المواصلات العامة، السيارات هناك أسعارها رخيصة جدا لكنها بالنسبة لمواطن دخله قليل أو متوسط قد تتحول إلى عبء عليه، فهو بحاجة إلى جراج يصطف فيه بمقابل ضخم وبالساعة وأسعار البنزين مرتفعة جدا والتأمين ضخم جدا على السيارات، وحتى جهات العمل لا تمنح جراجًا مجانيًا أو بمقابل رمزى إلا إذا كنت تقطن فى مكان بعيد عن المترو، وطبعا المترو يغطى طوكيو بأكملها.
لن تجد شرطيًا فى الشوارع وإذا وجدته سترى عسكرى درك يقود دراجة يلف بها الشوارع، أما الشرطة التقليدية فلا تظهر إلا فى الأزمات الكبرى، وتجدها فى ثوان، السر ليس فى الثقة، ولكن فى التكنولوجيا، لا يوجد شارع أو حارة فى اليابان دون أحدث كاميرات مراقبة ترصد صوتًا وصورة ما يحدث بداخله، حتى تجاوز قوانين المرور الكاميرات ترصده فى نفس اللحظة والعقاب فورى، إذن أنت مراقب طوال ٢٤ ساعة بسلطة القانون، ولا تستطيع أن تفعل فعلتك دون عقاب، القانون الذى لا يميز بين غنى وفقير كبير وصغير وزير وغفير.
ليست اليابان كوكبًا كما نعتقد لكنها بلد تعمل وفق نظام صارم، ولا يولد اليابانى كائنًا فضائيًا لكنه يعمل وفق منظومة، ليس مطلوبا من جميع الشعب هناك أن يكون مفكرا وقائدا، بل لاحظت أن ٩٥ فى المائة منهم جنود يعملون وفق منظومة دقيقة، لا يجتهد فيها ولا يزيد أو ينقص عما يطلب منه، هكذا تم تربيته فى المدرسة، بيوتهم صغيرة جدا وضيقة، لا يوجد فيها خدم، العمالة المساعدة هناك تقريبا غير موجودة، فلا يوجد «سايس» ولن تجد من ينظف لك سيارتك أو منزلك، أنت ملزم بكل شىء، عليك أن تفعل كل شىء بنفسك حتى ولو كنت وزيرا.
المترو ليس خاليا بل مزدحم طوال الوقت وتقف على رجلك فى أغلب الأحيان، لكن ممنوع أن تتحدث فى الموبايل وأنت بداخله، وممنوع أن تشغل فيديو بصوت الهاتف، عليك أن تشغله وتضع السماعات فى أذنك، هذا ليس قانونا لكنه عرف أقوى من ألف قانون، لو تحدثت فى الموبايل داخل المواصلات العامة الجميع ينظر إليك باحتقار، تشعر برغبة شديدة فى أَن تلقى نفسك من المترو «حدث هذا معى».
هم يصنعون التليفونات كى نستخدمها ولا يستخدمونها كثيرا، هم يصدرون لنا التكنولوجيا ونحن نضر بها أنفسنا، أولادنا يستخدمون الموبايل والكمبيوتر فى الألعاب وتشغيل الفيديوهات وأولادهم يستخدمون الكمبيوتر فى تصنيع سوفت وير الألعاب.
السر يبدأ من الحضانة التى تحدثت عنها فى الحلقة الأولى، ويصل إلى المدرسة الابتدائي، يخرج الطفل من الحضانة يعرف كل شىء عن البيئة المحيطة به، علاقته بالمؤسسة التعليمية أكبر من علاقته بأهله، لأنه يجلس فى الحضانة يوميا من الثامنة صباحا وحتى الثامنة مساء.
فى المدرسة الابتدائى تبدأ الرحلة، المدرسة ليست مبهرة كما توقعت، بل مبنى عادى مثله مثل المدارس التجريبية فى مصر، فصول متوسطة الحجم، وملعب بحجم المبنى نفسه، لكنه النظام يا سادة، النظام الذى يجعل منها أعظم مدرسة فى الدنيا.
الشوارع المحيطة بالمدرسة تلاميذ قادمين من الحى المحيط، مجموعة من المتبرعين من الأهالى وأصحاب المعاشات يقفون فى الشوارع حاملين أعلام، يجمعون الأطفال مجموعة مجموعة ويمرون بهم الشارع حفاظا عليهم، تخيلوا معى هذا المظهر المبهر، بمجرد نزول أطفالك من باب البناية يسيرون فى خطوط مستقيمة وراء المتطوعين حتى يصلون إلى باب المدرسة.
على باب المدرسة تقف المديرة والمدرسون يستقبلون التلاميذ يحبونهم ويمنحوهم الثقة، يدخل الأطفال المدرسة بعد أن يخلعوا الحذاء، ثم يدخلون إلى فصولهم، فى نهاية الفصل تجد دولابا للأطفال يعلقون عليه حقائبهم وملابسهم، الحقيبة المدرسية ليست كما نتخيل يتم جرها على الأرض بعجلات مثل أطفالنا، بل هى شديدة التقليدية تشبه الحقائب التى كان يرتديها الآباء والجدود فى عهد الملك فاروق!
ويحملها الأطفال على ظهورهم وأكتافهم دون أن يشكون، فقد تعودوا فى الحضانة على المجهود والقدرة على التحمل والاستمتاع بما يفعلونه، حتى الصف الرابع يدرسون فقط اللغة اليابانية، وهى لغة معقدة جدا وكثيرة التفاصيل، أساليب التخاطب والاحترام تختلف من طرف لآخر، وفِى الصف الخامس يدرسون اللغة الانجليزية.
من أهم الحصص الدراسية بالنسبة لهم هى «توكاتسو» وهى حصة يديرها الأطفال بأنفسهم، من خلال اختيار مدير ومساعدين له، ويتم إدارة حوار ديمقراطى بين الأطفال، والمدرس لا يتدخل فيه، ولكن هناك أصولاً يجب أن تتبعها، ليس من حقك أن تتحدث دون أن ترفع يدك وتطلب الإذن من مدير الحصة، يتم التصويت على أى قرار والأطفال مغمضين أعينهم حتى لا تتأثر أراؤهم ببعضهم البعض، القضايا التى يتناقشون فيها حول المدرسة والفصل والعلاقة مع المدرسين، وعلاقتهم ببعضهم البعض.
هذه الطريقة منذ المدرسة تجعلهم يصنعون برلمانا متحضرا فى المستقبل، وحوارا محترما داخل شركاتهم ومؤسساتهم، فى المرحلة الابتدائية يدرسون مواد الأخلاق والتوكاتسو واللغة اليابانية والموسيقى والرياضة والرياضيات.
فى حصص الرياضة أو الألعاب يتم عمل ملف لكل طفل لقياس تقدمه فى السرعات وإجادة الألعاب، السنوات الأولى بالنسبة لهم ترفيه فقط مع قليل من العلم وكثير من اللغة، فى هذه البلاد يعتزون بلغة أهلها ويضعونها قبل كل شىء، والمدارس هناك نوع واحد ليست متنوعة، بعض المدارس القليلة للجاليات الأجنبية التى تفضل تدريس وطنى لأبنائهم، وهذه المدارس معظمها تابعة للسفارات والكنائس.
الدين كمظهر غير موجود تقريبا فى اليابان ولا فى التعليم لكن موجود أخلاقيات الأديان كلها، لقد جمعوا من كل الأديان أخلاقها وطبقوها فى معاملاتهم اليومية فتقدموا على بلاد دور العبادة مزدحمة فيها طوال الْيَوْمَ.
فى المدرسة يأكلون، يبدأ الأطفال بتحضير السفرة بأنفسهم، ولكل طفل نصيب يعرفه جيدا من بوفيه مفتوح، ولا تبدأ الترابيزات الطعام قبل أن يجلس عليها خمسة أطفال، فقد تعودوا على الأكل الجماعى، قبل أن يأكلوا تتذوق مديرة المدرسة الطعام بنصف ساعة حتى تطمئن على مستواه، وتأكل وجبتها قبلهم، بعد تناولهم الطعام ينظفون الفصول ويعودون للدراسة، كل حصتين يجب أن يحصلوا على راحة فى «حوش المدرسة» فليس مطلوبا من المدرسة أن تحول الأطفال إلى آلات يتم ملء خزاناتها بالمعلومات والدروس فقط.
ينتهى الْيَوْمَ الدراسى ويعمل المتطوعون على إعادة الأطفال إلى بيوتهم.
لقد رأيت كل ما أمرتنا به الأديان السماوية الثلاثة فى دولة بلا دين، لقد عرفت أن اليابانيين يمارسون البوذية تقريبا بعد خروجهم على المعاش، المعابد موجودة فى كل مكان لكنها مليئة بالسائحين!
هل تريد أن تعرف إلى أى مدى يُؤْمِن هذا الشعب بالأديان الثلاثة ؟
لم أجد مواطنًا على هذه الأرض يقبل البقشيش، بل يعتبروه إهانة، إنهم ينحنون احتراما لبعضهم البعض، وهناك ثلاثة أنواع من الانحناء طبقا لنوع التقدير، إنهم يحترمون الكبير، يهتمون بنظافتهم الشخصية ونظافة بلدهم، يرتدون ملابس بسيطة ليست فيها بهرجة، بيوتهم صغيرة ومتواضعة مهما كانوا أثرياء، يعاقبون الفاسد ويسمعون بعضهم البعض، يحترمون الكبير ويبجلون الصغير، يحترمون المعلم،ويقدرون العالم، يحنون على بعضهم، لا يعلو صوتهم فى الأماكن العامة، يتقبلون الآخر ولا يحكمون عليه بسبب جنسه أو لونه أو ديانته.
اليابان دولة بلا موارد ولا تخلو من الكوارث الطبيعية، لكنها استثمرت فى شعبها، وآمن ناسها بالأخلاق والنظام، كيف تتوقع من الله أن يتقبل حجا أو عمرة من مرتشى أو من قبل على بيته مالا حراما؟
من الأقرب إلى الله هذا اليابانى الذى يحترم من حوله ولا يرتشى ولا يقبل بقشيشًا ولا يتحرش بالنساء أم من يصلى ويقبل الرشوة ويصوم ويتحرش بالفتيات؟
لقد رأيت فى هذه البلاد كل ماتعلمته فى دينى وأخلاقى ولم أجده فى بلدى...
لقد شعرت بالغيرة على الوطن والحسرة على ناسنا
نحن نستحق مانحن فيه لأننا لم نجتهد ولم نطبق تعاليم وأخلاق الدينين الإسلامى والمسيحى واكتفينا فقط بمظاهر الغش والمتاجرة بالله وفِى هذا حديث آخر.