احمد فايق يكتب : نقاب الست أم كلثوم

مقالات الرأي

احمد فايق يكتب :
احمد فايق يكتب : نقاب الست أم كلثوم


فى قسم الكلاسيكيات بأحد أشهر محلات الموسيقى فى مدينة «كان» الفرنسية، وجدت مجموعة موسيقية ثمنها 80 يورو تتضمن سى دى وكتابا وبعض البوسترات، وتحمل عنوان «حفل أم كلثوم فى باريس»، فقد كانت المجموعة الأغلى ثمنا وقيمة ضمن هذا المحل الفرنسى الشهير، سألت المسئول عن قسم المبيعات، فقال إن أم كلثوم مازالت تحقق أعلى المبيعات فى كلاسيكيات الموسيقى العالمية، والكتاب ألفه ناقد فرنسى عن مسيرتها، أعجب بها وانبهر بصوتها، بقدر انبهار الشركة المنتجة للمجموعة، فمازالت هذه المرأة تحقق لهم الأرباح بعد عشرات السنوات من موتها..!

فى المغرب كنا نتناول العشاء فى مطعم فرنسى بمدينة تطوان أقصى الشمال، حيث نستمع للإيقاعات الموسيقية الفرنسية، وجدت ذلك المخرج الفرنسى جالسا منتفخا بجانبى، يشعر بالفخر لأن ثقافة بلده تغزو المغرب، جاءتنى حيلة بسيطة، فقد أخرجت جهاز الكمبيوتر الخاص بى، وبدأت فى تشغيل أغنية ألف ليلة وليلة، فجاء العامل المغربى فى المطعم، وأخذ منى جهاز الكمبيوتر ونقل الأغنية على التسجيل الخاص بالمحل، ليسمع الجميع صوت الست، ليتمايل ويتراقص المغاربة فى المكان على إيقاعات بليغ حمدى، ويستمتعون بصوت أم كلثوم، فنظرت للمخرج الفرنسى مبتسما بخبث، وقال لى : من هذه المطربة ؟ ، قلت له هذه السيدة أقوى من الثقافة الفرنسية، وأكثر صدقا من السياسيين، وقبلة العاشقين، ومعنى الوطنية، تعيش بداخلنا، تلعب فى مشاعرنا، تغزو وجداننا، علمتنا العشق وحب الوطن والبكاء والضحك والمقاومة، فنظر لى باسما قائلا «واو لديكم ثقافة قوية، يبدو أنك فرعون أصيل».

«تيتة بهيجة» هى شقيقة جدتى التى تقترب الآن من أواخر الثمانين، فقدت زوجها بعد عامين من الزواج، وفقدت ابنها الوحيد وهو طالب فى كلية الهندسة فى حادث أتوبيس، عاشت وحيدة طوال خمسين عاما، والآن أصابتها أمراض الشيخوخة لا تتذكر شيئا، سوى زوجها وابنها وحفل أم كلثوم الذى كانت تحضره مع زوجها أول خميس من كل شهر.

حينما ماتت أم كلثوم قالت عنها صحيفة «زت دويتش سايتونج» الألمانية إن مشاعر العرب اهتزت من المحيط إلى الخليج، الصحف العربية رددت النبأ فى الصفحات الأولى بينما سيطر الوجوم على العرب، كانوا يعرفون أنهم فقدوا آخر رابط حقيقى بينهم، لقد فقدت مصر هرمها الرابع، وفقد العالم العربى كوكبه المشرق لقد ماتت أم كلثوم، قال العدو الإسرائيلى إن العرب إفطارهم الفول وغداؤهم الكرة وعشاؤهم أم كلثوم.

لقد سخرت أم كلثوم حنجرتها وحياتها من أجل مصر، غنت لها فى كل مكان فى العالم، جمعت أموال حفلاتها لصالح المجهود الحربى بعد نكسة 67، ذهبت للجبهة كى تغنى للجنود وسط القصف، حفظت القرآن الكريم وهى طفلة صغيرة، كانت أفضل من ترتل القرآن الكريم، قربت بين الوطن العربى على مستوى الشعوب والأنظمة، حينما ماتت أرسل لها ملك السعودية ماء زمزم كى تغتسل به قبل الدفن، كانت تستطيع أن تجمع مال قارون بمكالمة تليفون لأى أمير أو ملك عربى، لكنها لم تفعلها، فقد سخرت مالها من أجل مصر، غنت فى ليلة الأربعاء 15 نوفمبر 1967على مسرح «الأولمبياد» فى باريس «الأطلال»، والطريف أنها سقطت من على خشبة المسرح وهى تقول «هل رأى الحب سكارى مثلنا كم بنينا من خيال حولنا» عندما أصر أحد السكارى الفرنسيين تقبيل قدمها.

كتب جودون جسكيل فى مجلة «لايف»: إن تغييرا يشمل حياة الناس فى الشرق الأوسط على اختلاف طبقاتهم وأعمارهم وعقائدهم مرة فى كل شهر ودائما فى العاشرة مساء، فالمرور يكاد يتوقف فى القاهرة وفى مقاهى الدار البيضاء تختفى الطاولة وفى بغداد يترك الأغنياء تجارتهم والمثقفون كتبهم وتفرغ الشوارع من المارة وكلهم آذان تتركز على إذاعة القاهرة فى انتظار أم كلثوم».

شاركت فى ثورة 25 يناير بأغانيها التى لا تموت، هل تتذكرون رائعة حافظ إبراهيم «مصر تتحدث عن نفسها» بصوت أم كلثوم» أنا إن قدر الإله مماتى.. لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدى ما رمانى رام وراح سليماً.. من قديم عناية الله جندى، كم بغت دولة عليّ وجارت.. ثم زالت وتلك عقبى التعدى، إننى حرة كسرت قيودى.. رغم أنف العدا وقطعت قيدى»، لقد كان الميدان يرتج بالحماس فى أكثر لحظاته إحباطا، فقد ألهبت الست كل الميادين من الجبهة أثناء حرب الاستنزاف وحتى ميدان التحرير.

هذه هى أم كلثوم التى غطى رأسها متطرف تافه بالنقاب فى المنصورة، لقد فعلت أم كلثوم مالم يفعله رئيس مثل محمد مرسى، وقدمت لمصر أكثر مما أخذه منها مرشد الإخوان المسلمين، وأخلصت للمصريين ولحريتهم بقدر خيانة المشير طنطاوى للثورة، شكلت وجدان المصريين بقدر برود مبارك، لم تسلم الست أم كلثوم من سخرية الشيخ كشك الذى قال لها «ياولية خدك ربنا»، وبعد سنوات بقيت أم كلثوم وذهب الشيخ كشك، مثلما سيبقى تمثال أم كلثوم فى المنصورة وسيذهب المتطرف الذى غطاه.