حسام زيدان يكتب: الإسلام لا يعرف الحكم الديني
(1)
يبدو أن لدى المثقفين بشكل عام أو لدى المصريين أو من الممكن العرب وكذلك المتدينين أو الإسلاميين كما يحلو للبعض تسميتهم، خلط دائم ما بين مصطلحين كبيرين وهما العلمانية، والمدنية.
ففريق يعتبر أن العلمانية والمدنية سواء بسواء، وفريق آخر يعتبر العلمانية كفر بالمولي عز وجل ودينه الحنيف، وهناك من يعتبر أن المدنية أشد كفراً وخطراً على البشر من الشرك والإلحاد، وهناك من يعتبر أن العلمانية والمدنية مصطلحين مترادفين وأن فيهما الخلاص في الدنيا والآخرة.
أولاً علماني أو عالماني هو من يفصل الدين عن السياسة، وظهرت العلمانية في عصور أوربا الوسطي للرد على سيطرة الكنيسة على مقاليد الحكم في ذلك العصر، وهو الأمر الذي عاد على الحياة المدنية بالضرر والذي ارتأى بعده الأوروبيون ضرورة فصل الدين عن السياسة وألا تتدخل المؤسسة الدينية وهي الكنيسة في شؤون الحكم والسياسة، وألا يتولي شؤون الحكم سوى المتخصصون في ذلك أو من اصطلح على تسميتهم بالمدنيين.
الغريب هنا أن في أثناء هذا العصر كان الشرق العربي والإسلامي ينعم باستقرار وتقدم وازدهار في ظل حكماً أسماه البعض في أيامنا الحالية حكماً دينياً.
فما الفارق؟
ما اعتقده وما تدلل عليه الشواهد التاريخية أن الغرب أخذ من الشرق المدنية وطورها بما يتناسب وفق تقاليده وفكره، وقد يسأل سائل وهل الشرق الإسلامي كان مدنياً؟ فيأتي الجواب بل الدين الإسلامي نفسه ديناً مدنياً إن صح التعبير.
العلمانية في العصر الحالي مرفوضة لأنها تعني لدي الكثيرين التحلل من كل القيود الدينية والتقاليد المجتمعية وهو أمر مرفوض تماماً، ورغم أنه يخالف أصل العلمانية إلا أن الكثير من العلمانيين يتبنون هذا الاتجاه وبشده.
أما المدنية فهي تتشكل حسب المجتمع وعاداته بل وحسب دينه وتقاليده.
المدنية لا تقترب من الدين وتأخذ منه فقط ما يُراد به إصلاح عموم المجتمع وليس المسلمين فقط ، بمعني أنه من المدنية اختيار الحاكم بطريق الانتخاب، وهذا ما يقره الإسلام بل ويأمر به حيث يقول الله تعالي "وأمرهم شوري بينهم".
من المدنية أن يُترك الناس يديرون أمور دنياهم كالتجارة والبيع والشراء والصناعة والتطوير والتقدم على طريق الاختراع والعلم، وهذا أمر يحض عليه الدين بمواضع كثيرة كحديث الرسول عليه الصلاة والسلام "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، والآية "وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون".
المدنية تحض على التفكير والإبداع بكل المجالات وكذلك الدين فهو يحض على التفكر والإبداع بل ويأمر بهم "أفلا تتفكرون" ويأمر بالتعلم والأخذ بالتثقف في مختلف شتي ونواحي الحياة "اقرأ"، وقد وعى المسلمون الأوائل هذه الأمور وأبدعوا أيما الإبداع في كل مجالات الحياة علماً وفناً وثقافة وابتكاراً واختراعاً، يكفينا فقط كتاب "الحيل الميكانيكية" مثلاً والذي فيه وضعت أصول الميكانيكا وعلم الحركة على يد ثلاثة من الباحثين بأمر من الخليفة المأمون، واستقوا فيه ممن سبقهم وزادوا عليه وأخرجوا لنا كتاباً يعتبر فتحاً في علم "نقل الحركة"، أما كارثة العصر الحالي أنه يعتبر التحلل والتعري إبداعاً وفناً، أنتج لنا الفنان العربي المسلم أو حتى غير المسلم –فمن الفنانون من لم يكن مسلماً ولكنه تحضر بحضارة المناخ الموجود فيه- ألواناً من الفن على الزجاج والمعادن والنسيج وألواناً من الموسيقى الراقية، ومن العمارة التي أبدع في تصميماتها وتراكيبها ما تشهد به الآثار التي خلفها ولا زالت شاهده على عظمة الحضارة العربية والإسلامية.
الدول المدنية تعاقب المخطئ وتعمل على الحد من انتشار الفواحش والشهوات والدين أيضاً يحارب ذلك، ويجعله من أولى أولوياته كتحريم القتل والزنا والخمر والتعري والشذوذ والربا والاحتكار وغيرها من الجرائم في حق النفس أو المجتمع.
المدنية تأمر الحاكم بالعدل وتدشن من القوانين ما يضمن ذلك، وكذلك الدين الذي يُلزم الحاكم بالعدل ويجعله الركيزة الأساسية للحكم ويضمن له عقاباً بالدنيا والآخرة إن ظلم الناس.
فإن كانت هناك إفهام لا تفقه دينها فهذه مشكلتها وليس مشكلة الدين نفسه، الدين الإسلامي لم يحرم الموسيقي ولا اللعب ولا التمتع بزينة الحياة الدنيا، فقط وضع إطار يفصل بين الحلال والحرام في هذه الأمور فما كان منها سافلاً عن الذوق العام والخلق القويم كان مرفوضاً، وما كان منها يرتقي بالنفس ويهذبها ويسمو بها فهو محموداً مرغوباً.
من أمثلة ذلك مثلاً كان سلاطين المماليك يعلمون أولادهم وفرسانهم وأتباعهم لعبه أشبه بلعبة "الهوكي" الحالية ولكن من فوق الفرس، حيث يمتطي اللاعبون جيادهم ويكونون فريقين كل فريق فوق مجموعة من الجياد ويمسك كل لاعب بعصي تشبه عصا الهوكي ويتبارون في دفع كرة صغيرة إلى مرمي الفريق الآخر، وكان المشرف على اللعبة يسمي "الجوكندار" وله شارة شهيرة ومكانة بين الناس بالمجتمع.
فكل ما يفيد الإنسان من اللعب هو مرغوب ومحمود بل الدين يشجع عليه ولكن بما لا يفسد الحياة العامة لذلك فالرهان والمراهنات مرفوضة لأنها تولد الكره والبغضاء والعنف عدا ذلك فهو حلال.
(2)
تمتع بالنساء ولكن عن طريق الزواج.
تمتع بكل الشاربة والأطعمة عدا الخمر ولحم الخنزير .
تمتع بكل مباهج الحياة دون أن تعتدي على أحد أو على خصوصيات أحد أو تؤذي أحد أو تنتقص من حق أحد.
هل هناك ما هو أرقى من ذلك؟!
الكارثة أننا في الأغلب نضع الخلاف السياسي الحادث في كل بلاطات العالم، ومن ضمنها البلاط العربي وكأن الدين هو من يأمر به.
الإسلام يحرم قتل الأنفس، ومن قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبو لؤلؤه المجوسي، وقُتل عثمان وعلى رضي الله عنهما بتخطيط من عبد الله بن سبأ اليهودي، أحداث الفتنة كلها بداية من عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه وحتى عام ٤٠ هـ اليهود لهم اليد الطولي في إشعالها.
ما جري من البيت الأموي بتحويل الخلافة من الشورى إلى الملك الموروث مخالفة شرعية يرفضها الدين الإسلامي بنص الكتاب والسنة وبفعل رسول الله صلي الله عليه وسلم، والآن التاريخ يحاسبهم عليها في كل رسالة ماجستير تتكلم عن جزء من تاريخهم، إذاً فما فعله البيت الأموي هو مخالفة للدين وليس لتطبيقهم الدين.
ما جري من الحجاج بن يوسف الثقفي مخالفة للدين وليس لأنه طبق الدين.
ما حدث من العثمانيين في نهاية حكمهم وتكالبهم على السلطة هو مخالفة للدين وليس لتطبيقهم للدين ولهذا سقطت دولتهم
(3)
الحاكم الذي يدعي أنه خليفة الله تعالي في الأرض هو مخالف للشرع، فلا خليفة لله تعالي في أرضه ولا قداسة لأحد على وجه الأرض وكل البشر يخطئون ويحاسبون بما في ذلك الحكام.
وقد قرر الله سبحانه وتعالي أن مقاليد الحكم الناجح هو العدل والحرية والمساواة والحق والقوة التي تحمي حقوق الناس وتفصل بينهم بالعدل، هذه نواميس الله تعالي في كونه وأيما حاكم فعل ذلك كان عصره قويماً مزدهراً ولو إلي حين .
الإسلام ديناً مدنياً، يجعل الحاكم في مصاف البشر ولا يجعل له سلطة سوي باختيار من يحكمهم، ويترك للبشر حق اختيار ما يحكمون به من قوانين في إطار ما أحل الله تعالي وهو كثير للغاية، فلم يحرم الله سبحانه سوي الظلم، والتجبر والطغيان والقتل بغير الحق .
الإسلام لا يحرم أياً من آليات الحكم الحديث كمجالس النواب والشورى وطرق الاختيار بل بالعكس هو يؤكد عليها وعلى حقوق البشر في الاختيار.
الإسلام يفرض على الناس التخصص ويُلزم المجتمع أن يولوا خيارهم شئونهم، وألا يتم السماح لغير المتخصص بالتدخل فيما لا يفقهه أو يري به.
وعلى هذا فالإسلام يرفض السلطة الدينية إن صح التعبير، أي يرفض سلطة رجل الدين، فرجل الدين مهمته نصح الحاكم، وإبداء المشورة، وتقويم الأمر إن إعوج، ولكن ليس من مهمته الحكم، ولا قداسة له.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أخطأ ردته امرأة فلم يعدهما أو يحبسها أو يتهما أنها عميلة لدولة أخري، ولم يقل أحد أن لحوم العلماء مسمومة، ولم يهتف أحد بالمسجد في المرأة ألا تتكلم في حضرة الخليفة، ولم يقل لها أحد أن صوتها عورة فلا تتكلم، ولم يهتف أحد أنها ناقصة عقل ودين وأنها لا تستطيع التفكير، فالكل يعلم أن عمراً بشراً قد يصيب ويخطئ وأنه ليس معصوما، وهو أيضاً يعلم ذلك وقد تراجع عن رأيه ونزل على رأي المرأة .
أخطأ الصحابة رضي الله عنهم في صلح الحديبية وكادوا أن يهلكوا لما خالفوا أمر الرسولعليهالصلاة والسلام في التحلل من الإحرام، ودخل الرسول عليه الصلاة والسلام عليه السيدة أم سلمة مهموماً وهو يردد هلك القوم، فما كان منها إلا أن أشارت عليه بفعل ما... وقد نفذه رسول الله صلي الله عليه وسلم، وأنقذت مشورة أم سلمة الأمة كلها على حسب وصف علماء السيرة النبوية المطهرة.
آلاف الأمثلة التي نستطيع أن نسوقها والتي يرفضها المجتمع الحالي ويلصقون هذا الرفض بالدين ويعتبرون أنه والإسلام وهو مخالف للإسلام الحنيف.