حسين معوض يكتب : الملحدون
الدكتور محمد المهدى أستاذ الطب النفسى بالأزهر يحلل الظاهرة الأخطر بين الشباب
■ تقدموا ببلاغات لرئيس حى عابدين بأسماء المقاهى التى يتجمعون عليها أملا فى مزيد من المطاردة التى تمنحهم جماهيرية
انفجرت مواقع التواصل الاجتماعى بحكايات الملحدين.. تحولوا الى أبطال يبحث عنهم رجال الأمن فى شوارع وسط البلد.. حدث ذلك صباح الأحد الماضى بعد إعلان حى عابدين عن نجاحه فى اغلاق بؤرة للملحدين داخل مقهى بوسط البلد.
لا يعرف رئيس حى عابدين ومحافظ القاهرة الذى بارك غزوة الملاحدة أن الشباب الملحدين أصبحوا يمتلكون شوارع فى وسط البلد.. وعدداً كبيراً من المقاهى والارصفة التى تتسع لأفكارهم المتمردة ولشخصياتهم التى كفرت بالمجتمع قبل الكفر بالدين.. منحهم رئيس الحى مساحة أكبر للانتشار وترويج أفكارهم.. بعض الملحدين تطوعوا بإبلاغ رئيس الحى بأسماء عدد آخر من المقاهى التى يتجمعون عليها، فلن ينالوا شهرة أوسع الا من خلال مسئولين حكوميين لا يعرفون ماذا يفعلون.. أحدهم وجه رسالة لمحافظ القاهرة قائلا: مقهى.. يتجمع عليه الملحدون وأنا أخشى على إيمانى من الفتنة!
صاحب الرسالة ملحد يسعى لاستفزاز السلطة لترتكب مزيداً من الأخطاء التى تمنحهم أرضا جديدة.
قبل أيام من تلك الواقعة كان مرصد «دار الإفتاء» قد فاجأنا بتقرير جريء يتحدث عن تنامى ظاهرة الإلحاد، وتصدر مصر قائمة الدول العربية التى تنتشر فيها الظاهرة.. ووصلت جرأة التقرير إلى الإقرار بأن هناك شباباً تحولوا من الاسلام إلى ديانات أخرى.. واعترف التقرير بأن الارقام المعلنة عن أعداد الملحدين فى مصر أقل بكثير عن الاعداد الحقيقية.. جرأة اعتقدنا انها مقدمة لتعامل مختلف مع الملفات الشائكة.
الدكتور محمد المهدى رئيس قسم الطب النفسى بجامعة الأزهر فرع دمياط قدم لنا دراسة تحلل ظاهرة الإلحاد.. ولا تستسلم الدراسة للفكرة السائدة عن ارتباط الالحاد بصعود تيار الإسلام السياسى، وإن كانت لا تنفيها، لكنها تقدم أسباباً كثيرة للظاهرة.
يبدأ محمد المهدى دراسته بالتأكيد أن الظاهرة ليست خاصة بمصر فقط.. فهى ظاهرة عالمية.. ولا تنكر الدراسة وجود جذور تاريخية لظاهرة الإلحاد حتى فى وجود الأنبياء والرسل، فالله قد منح الإنسان الاختيار الحر فيما يخص معتقداته الدينية.. والبعض يرى أن الإلحاد بدرجة معينة يعتبر فيروس مناعة (كالتطعيم فى الطب) يقوى حالة الإيمان ويوقظها ويصحح أخطاء المتدينين.
1
أنواع الإلحاد
وتفرق دراسة الدكتور محمد المهدى بين أنماط ومستويات الالحاد، فمثلا هناك «الإلحاد المطلق (إنكار الألوهية والربوبية وما يتفرع عنهما من رسل ورسالات)، و«الإلحاد الجزئى» (الاعتراف بوجود إله مع إنكار تصرفه وسيطرته على شئون البشر، أى إنكار الربوبية)، و«اللاأدرية» (تأجيل الإيمان لعدم توافر الأدلة)، و«العدمية» (اليأس من عدالة الأرض والسماء والشعور باللاجدوى)، و«الإلحاد العابر» (فى مرحلة من مراحل العمر خاصة المراهقة والشباب)، والإلحاد الباحث عن اليقين (الخروج من دائرة الإيمان والنظر فى الأمر بلا ثوابت أو مقدمات دينية ولتحقيق أكبر قدر من الموضوعية والعقلانية واليقين المحايد)، والإلحاد الكيدى الانتقامى (الموجه ضد رمز أو رموز أو ممارسات دينية مكروهة أو مرفوضة أو مفروضة)، والإلحاد التمردى (تمرد على السلطة أيا كان نوعها)، والإلحاد الابتزازى (ابتزاز الأسرة أو المؤسسة الدينية أو المجتمع بهدف تحقيق مكاسب مادية أو معنوية)، والإلحاد الاستعراضى (لجذب الانتباه وإثبات التميز)، والإلحاد الاستهزائى (السخرية من المقدسات والثوابت ومن الكبار)، والإلحاد بالنمذجة (التقليد لشخص أو أشخاص محبوبين).
2
لماذا؟
هى ليست بالضرورة دوافع أو بواعث دينية، حسب الدراسة.. من خلال التعامل مع أعداد كبيرة من الملحدين بشكل متعمق يتضح أن أغلب الحالات وراءها دوافع نفسية أو عائلية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو فلسفية أو فكرية.
وعلى الرغم من أنه يبدو على السطح أنها مسألة دينية عقيدية إلا أن الأبعاد سالفة الذكر تكون كامنة ومحركة لسلوك صاحبها حتى دون أن يدرى، وكأنه يختزل كل صراعاته ومعاناته ومشكلاته فى الشكل الدينى (أو اللادينى) يحاول أن يحقق من خلاله توازنه النفسى، ولهذا يجب أن تدرس كل حالة إلحاد على حدة، ويتم التعامل معها على أنها حالة متفردة لها خصائصها المميزة من حيث النشأة والظروف البيئية والأحوال النفسية.
يقول المهدى: إن الكثير من حالات الإلحاد لدى الشباب لا تجدى معها الحوارات الدينية ولا يجدى تقديم الأدلة والحجج والبراهين، لأن الأصل فى المشكلة ليس دينيا، بل إن تقديم الحجج والبراهين الدينية من جانب بعض العلماء والوعاظ الذين لا يدركون عمق حالة الإلحاد قد يغرى الملحد بالكثير من الجدال (الذى يتقنه جيدا) لا لشىء إلا لإثبات قدرته على إفحام محدثه وتحقيق انتصار على الرموز الدينية التى يكرهها وعلى المجتمع الذى يرفضه وعلى السلطة التى يتمرد عليها.
ومن العوامل الدافعة للإلحاد لدى المراهقين والشباب الهوة العميقة بين القيم المعلنة والقيم السائدة فى المجتمع، وهنا يشعر المراهق أو الشاب بأن المجتمع الذى يعيش فيه مجتمع منافق يقول شيئا ويفعل شيئا آخر، يتغنى بالصدق ويكذب ليل نهار، يتحدث عن العفة والفضيلة فى العلن بينما يأتى أبشع المنكرات فى الخفاء، وهنا تسقط مصداقية المجتمع وتسقط مصداقية السلطة وعلماء الدين والآباء والكبار عموما، وأخيرا تسقط مصداقية الدين ذاته الذى يصله عبر هذه الرموز المرفوضة.
3
مرحلة ما قبل الإلحاد
وقبل أن يصل الشاب إلى مرحلة الإلحاد يعيش فترة يعانى فيها من الإحباط والغضب وفقدان المعنى فى كل ما حوله، ويعيش صراعا هائلا بين متناقضات عديدة فى حياته لا يجد لها مخرجا من وجهة نظره إلا إنكار كل الثوابت وتحطيمها وعلى رأسها الدين لكى ينطلق متحررا من كل القيود التى تسببت فى معاناته. وبعضهم يتوجه نحو الإلحاد بحثا عن الحرية والتحرر من كل القيود، فهو يرى أن المؤسسات الدينية والمجتمع يستخدمان الدين بشكل نفعى ويوظفان السلطة الروحية لسلب حريته.
وقد يكون الإلحاد رد فعل عنيفاً على حالات التطرف الدينى السائدة فى المجتمع، وكأنه تحقيق لقانون التوازن فى الكون الذى تضبطه قاعدة: لكل فعل رد فعل مساو له فى القوة ومضاد له فى الاتجاه. وتزداد الرغبة فى الإلحاد كلما كان التدين السائد فى المجتمع ظاهريا أو انتهازيا أو نفعيا أو هروبيا أو تسلطيا.
ويشجع على الإلحاد رؤية الدين كنوع من التفكير الخرافى الذى لا يثبت أمام المنطق والعقل النقدى، خاصة حين يحاول الشخص أن يقيس الخبرة الدينية والمعتقدات الدينية بنفس مقاييس العلم التجريبى ولا يراعى الفارق بين هذا وذاك واحتياج الخبرة الدينية لمنهجية مختلفة فى النظر والقياس نظرا لاختلاف المجال.
4
خطيئة المشايخ
بعض علماء الدين تكون لديهم الرغبة فى إقحام الدين فى كل تفاصيل الحياة البشرية، وحجتهم فى ذلك أن الدين يدخل (أو يجب أن يدخل) فى كل شىء لأنه منهج كامل متكامل لحياة البشر، وهذه كلمة حق يراد بها باطل، إذ تسمح للدعاة والمشايخ بأن يتسلطوا على حياة البشر ويتحكموا فيهم ويصبحوا أوصياء عليهم، ويبدو بقية الناس ضعفاء قاصرين جهلاء سفهاء لا يعرفون ما يصلحهم لذلك يلجأون إلى وعاظهم ومشايخهم فى كل صغيرة وكبيرة خوفا من الوقوع فى الخطأ والمحظور، وهنا تتضخم ذوات القادة الدينيين ويزداد تأثيرهم على العامة والخاصة، وتتسع دائرتا الحلال والحرام لتحتل كل مساحة النشاط البشرى وتتضاءل أو تختفى دائرة المباح التى تمنح الإنسان حرية التفكير والتصرف فى شئون دنياه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم حين سألوه عن تأبير النخيل «أنتم أعلم بشئون دنياكم».
وهذه التسلطية الدينية تدفع الشاب الراغب فى الحرية لأن يتخلص ليس فقط من سلطة القادة الدينيين بل من سلطة الدين نفسه الذى يتحدثون عنه.
5
الكبت الجنسى الوجه الآخر للتطرف
لا تخلو دوافع الإلحاد من الجانب الجنسى، حيث لوحظ تحرر الملحدين من كل التابوهات ومنها الجنسية والدخول فى علاقات لا يحكمها سوى الرضا والقبول والتوافق الشخصى بين الطرفين، وفى اعتقادهم أنهم حرموا أنفسهم من نعمة الجنس سنوات بناء على اعتبارات دينية وهاهم بعد أن ألحدوا تحرروا من تلك القيود وعاشوا كما يريدون ويحبون، وهذا أمر شديد الجاذبية لدى المراهقين والشباب الذين تضغط على أعصابهم احتياجات جنسية يضع المجتمع أمامها عراقيل من العادات والتقاليد تمنع إشباعها لسنوات طويلة.
ويرى علماء الاجتماع أن الإلحاد هو حالة من الخلع الاجتماعى، حيث يمر الإنسان بثلاث مراحل: المرحلة الأولى وهى «الاجتماعية العامة» حيث ينتمى الشخص لعموم الناس وتكون فكرة الدين مقبولة لديهم ولديه، والمرحلة الثانية هى «الاجتماعية الخاصة» وفيها ينتمى الشخص إلى «شلة» أو مجموعة خاصة تقبل أو تشكك أو ترفض الدين، والمرحلة الثالثة هى الخلع التام حيث ينكفئ الشخص على ذاته ويتبنى قناعة شخصية ذاتية تماما ليس لها علاقة بالسياق الاجتماعى.
6
الثورة
تؤكد دراسة الدكتور محمد المهدى وجود ارتباط بين ثورات الربيع العربى وموجات الالحاد بين الشباب، والسبب هو تعثر الثورات واختطافها أو إجهاضها بواسطة قوى يمينية أو يسارية أو نظم قديمة فاسدة فى شكل جديد، وقد جعل هذا الشباب يكفرون بقيم الحرية والكرامة الإنسانية وإمكانية تغيير مجتمعاتهم إلى الأفضل، فهم قاموا بالثورات وقدموا شهداء ثم ضاعت جهودهم هباء، ومن هنا كفروا بكل شىء وتمردوا على كل شىء.
7
المؤامرة
ويرى خبراء السياسة أن موجات الإلحاد ليست كلها خيارات فردية تلقائية بريئة وإنما يكمن وراء بعضها تخطيط شبكى تدفعه بعض المنظمات والهيئات السرية والعلنية بهدف تحقيق مكاسب سياسية أو تغييرات فى الخريطة الاجتماعية لبعض الدول المستهدفة ويستشهدون على ذلك بوجود روابط منظمة وشبكات عنكبوتية تجمع الملحدين فى أماكن كثيرة من العالم، أى أن الموضوع لا يخلو من قوى دفع تآمرية، خاصة مع استخدام شعارات لبعض المجموعات تشبه شعارات الأناركية والماسونية.
ومن المفيد لفهم هؤلاء الشباب تتبع كتاباتهم فى مواقعهم على الإنترنت ودراسة حالاتهم، وتكتمل الصورة بدراسة حالات العائدين من تجربة الإلحاد مثل الدكتور مصطفى محمود وغيره حيث يصف الطريق ذهابا إلى الإلحاد وعودة منه.
8
تجربة الإسلام السياسى وأثرها على الإلحاد
يربط البعض بين صعود وهبوط تيار الإسلام السياسى إبان ثورات الربيع العربى وما بعدها وبين تنامى ظاهرة الإلحاد، فقد كان ثمة بريق لفكرة المشروع الإسلامى للنهضة وقدرة وجدارة الجماعات الإسلامية على التغيير فى مجتمعاتها بما يحقق العدل والإنصاف ويحارب الفساد ويحقق الازدهار تحت راية الإسلام، وقد أدى هذا إلى حماس الشباب فى الثورات واندفاعهم بقوة لتحقيق حلم النهضة بمرجعية إسلامية طالما حلموا به، ولكن فشل مجموعات الإسلام السياسى (أو إفشالها) أدى إلى ردة فعل عكسية نتج عنها تنامى ظاهرة الإلحاد خاصة بين الشباب (الذى كان متدينا)، حيث اتضح عدم نضج التجربة السياسية للأحزاب والجماعات الإسلامية وسقطت رموز مهمة فى أعين الشباب، وحدثت حالة من التمرد على قيادات وأفكار وممارسات تلك الجماعات من بعض الشباب المنتمين إليها أو المتعاطفين معها بينما بدا لفئة أخرى من الشباب أن الإسلام نفسه عاجز عن أداء الدور السياسى فانفلتوا منه.
وقد كانت هناك نصائح من العقلاء الحريصين على الإسلام وعلى الشباب أن تتمهل الأحزاب الإسلامية فى توغلها السياسى وأن ترضى بالمشاركة دون المغالبة وأن تعطى فرصة لإنضاج التجربة السياسية لدى هذه الأحزاب على مهل ولكن قيادات هذه الأحزاب والجماعات اندفعوا بلا حساب نحو اغتنام السلطة والتمكين فحدث ما حدث، وهنا تجددت الدعوات المخلصة للفصل بين الدعوة والسياسة لأن فى هذه الحالة سيسلم الدين من التوظيف ومن الاستغلال، إذ إن توظيف الإسلام فى العمل السياسى واستغلاله للصعود فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية ثم عدم قدرته على الاستمرار (سواء لأسباب ذاتية أو خارجية) أعطى إيحاءً لبعض الشباب بأن المشروع الإسلامى فشل وانسحب ذلك فى وعيهم على الإسلام ذاته. والأمر لم يقتصر على الشباب المسلم فقط وإنما هناك شباب مسيحى دخل دائرة الإلحاد، وربما كان تورط بعض القيادات الكنسية فى العمل السياسى وإثارة نزعات الصراع والعنصرية الدينية خلف إحباطات هؤلاء الشباب الذين شاركوا فى الثورة ضد رغبة وتعليمات الكنيسة ثم وجدوا تحالفات وتربيطات سياسية لا تتفق مع مبادئهم وطموحاتهم نحو الحرية.
9
اللوبى
هم يقومون الآن بتقوية روابطهم وزيادة أعدادهم أملا فى الوصول إلى العدد الذى يسمح بالإعلان عن أنفسهم كأفراد وكمجموعات على أساس أن الخروج إلى العلن بأعداد كبيرة يجعل من الصعب مواجهة المجتمع لهم بأى إجراءات عقابية، وهم يطمحون فى تكوين لوبى فى المجتمع يدافع عن حقهم فى الاعتقاد وحقهم فى إثبات إلحادهم فى بطاقات الهوية، وحقهم فى الدعوة لمبادئهم وأفكارهم، وأن يعقدوا اجتماعاتهم ويقيموا فعالياتهم دون أى اعتراض قانونى أو مجتمعى.