د. احمد يونس يكتب : الارتداد بيولوجياً إلى عصر ما قبل الإنسان
شىء ما تعطل أعلى الدماغ. بالضبط كما لو أن العجز عن مجابهة الواقع، قد هوى بالبعض إلى ليل الزمان السحيق. هكذا يوحى المشهد الذى يتكرر داخل القفص فى كـــل مرة. وعلى حــيـن يتشقلب العــيـاط خلف الحائط الزجاجى، كالنسناس المقــطوش الذنــب، مقدمـاً المونولوج الممل بتاع: أنا الرئيس الشرعى، تراق الدماء يوماتى على الله فى الكثير من المدن المصرية. خلف الحائط الزجاجى، أعضاء فرقة الغوريلات الاستعراضية الشهيرة عالمياً، يشاركونه حفل الزار الشقــلباظى، بقيادة الكوديا التى تتحكم فى حركــات الجميع بالريموت كونترول من الخارج. غاية ما هناك أنهم يهتفون: يسقط يسقط حكم العسكر، بدلاً من: شيخ محضر يا شيخ محضر! أظـن أن المكان الذى يتناسب أكثر من القفص الزجاجى هو جبلاية القرود، شريطة أن يوافق سكـانها على ذلك.
وقد قلت مراراً إن ما يحدث فــى مــصر الآن أخـطر من أن نكتفى حياله بالفرجة، كما لو أنه يقع هناك بعيداً فى نيكارجوا. وعلى مواقع القتل بالإنترنت، يلوكون- كاللبانةـ كلاماً مباشراً عن تمزيق الضحايا بالبلطة، أو رش ماء النار على وجوه الموتى أو التمثيل بالجثث. الإعلام الإخوانجـى على شبكة الجزيرة، التى اكتأب مذيعوها من شدة الغل، لا يتعامل إلا مع حثالة البشــر من المشوهين نفسوجنسياً. انشغلنا بكميات الدم الذى يراق منذ ما بعد التنحى بأسابيع قــليلة حتى هذه اللحظة، لا بالطريقة الوحشية التى يراق بها، ولا بالطبيعة المـرضية لمن يصدرون الأوامـر أو يحرضون أو يمولون أو ينفذون. بلغت الدهشة بالناس درجـة النظــر إلى الفراغ بعــيون زائغة، فلم يلتفت أحـد إلى الأساليب المتبعة كالشنق على الأشجــار أو الصــلب أو الطــعن أو بإلقاء الناس من أعلى الأسطح أو مدرجات ملاعب الكرة. لا أحد انتبه إلى أن ما يجرى فى الواقــع يرتد بالحياة إلى ما قبل عصور الآدمية. ما أعتقده أنا شخصياً، ولا أسعى إلى إلزام أحــد بوجهة نظرى، هو أن النتيجـة هى الانتشـار السـريع بين أفراد الإخوان، أو مستخرجات الجماعة، لواحــد من أشــرس الأوبـئـة التى تصيب البشر. وعلى مدى العــام الأســود من قرن الخروب الذى استغرقه حـكم الجماعة الإرهابية، كانت خراتيت مكتب الإرشاد تـدرب نوعين من الكلاب لاستخدامهما عند اللزوم: الموبوءون بالهوس الدينى والبلطجية. النوعان كلاهما يعانى من السعار. الذئاب المنفردة. هكذا يطلق كهنة الإرهاب على خطة الاغتيالات الدائرة حالياً. فلماذا الاستغراب إذن؟ كالكلاب السعـرانة هم بالفعل أولئك الذين يتعرضون إلى الدق داخل جماعات السمع والطاعة. لا يختلفون بالمرة فيما بينهم عن الجنيهات المعدنية التى تدقها دار سك العملة. كالكلاب السعرانة، ليس فقط لأن النـزوع الغــريزى إلى التوحش هو الذى يرونه الطريق الأوحد نحو الاستيلاء على السلطة أو الاحتفاظ بها رغم أنف الناس إلى الأبد. إنما أيضاً لأنها تشكل فى منحنى الارتقاء البيولوجى قفزة واسعة إلى ما وراء الوراء.
بالطبع اختلفت قطعان العضـاضـين من الكلاب السـعـرانة المعـدلة جينياً عن السلالات التقليدية، ليس من حيث الشكل فقط، إنما كذلك فى أنها- بالإضافة إلى الأجسادـ أصبحت تغوص بأنيابها فى مساحات البهجة أو الشجن أو مواطن الحلم أو التذكر أو القدرة على العشق. المناطق المظلمة داخل الشوارع تعج بالكلاب السعرانة، ولا يمنع العـين الخــبيرة من أن تمـيزها سوى الاعتياد.
الأفظع من كـــل هذا يكمن فى أن جميع الأمصــال أو الكــمامات ما عادت تجدى، وأن بعض المخنثين يدعون إلى التصالح مع الذئاب، وأن تلك المخلوقات بدون استثناء، مازالت تحتفظ خارجياً بملامح البشر. هنا على وجه التحديد تكمن المأساة الحقيقية. هنا، على وجه التحديد.