كيف ترعرعت "داعش" داخل سجن أمريكي؟
في مارس 2009 اجتاحت حالة من البلبلة مدينة الكرمة الواقعة جنوب العراق التي تضم أحد أسوأ سجون العراق من حيث السمعة. وقد ضم هذا السجن الضخم المعروف بسجن بوكا بعض أخطر العناصر الأصولية المتطرفة النشطة على امتداد الحدود مع الكويت. وتلك الفترة، كان قد تم الإفراج عن المئات منهم للتو، ووقف في انتظار المفرج عنهم أفراد عائلات محلية مبتهجين بالإفراج عن أبنائهم وأشقائهم وآبائهم الذين قبعوا في بوكا لسنوات. إلا أنه في المقابل، شعر البعض بالقلق، ومنهم أحد المسؤولين المحليين.
في حديث له مع أنتوني شديد، مراسل «واشنطن بوست»، قال رئيس الشرطة سعد عباس محمود نقلا عن الشرق الأوسط: «هؤلاء الرجال لم يسجنوا لزراعتهم ورودا مخالفة بإحدى الحدائق»، وأعرب عن اعتقاده بأن 90 في المائة من السجناء المفرج عنهم سيستأنفون القتال قريبا. وأضاف: «هؤلاء لم يقبض عليهم لتسكعهم بالشوارع. إن هذه المشكلة كبرى وخطيرة. وللأسف لا يبدو أن الحكومة أو السلطات العراقية مدركة لأي مدى بلغت فداحة هذه المشكلة».
بمرور الوقت، أثبتت الأيام نفاد بصيرة التقييم الذي طرحه محمود، حيث أصبح السجن الآن بمثابة فصل مفتوح في تاريخ «داعش» - حيث التقى الكثير من قيادات الجماعة، بما في ذلك أبو بكر البغدادي، ببعضهم البعض هناك. وحسبما أفاد مسؤولون سابقون بالسجون ومحللون وجنود، فإن سجن بوكا وفر بيئة فريدة تتيح تحول السجناء نحو الراديكالية وتواطؤهم مع بعضهم البعض - وشكل السجن فترة مهمة في مشوار تطور «داعش» وبلوغها ما هي عليه الآن.
بصورة إجمالية، قضى 9 من كبار قيادات «داعش» بعض الوقت في بوكا، تبعا لما ذكرته «مجموعة صوفان»، وهي مؤسسة معنية بتحليل قضايا الإرهاب. وبخلاف البغدادي، الذي قضى 5 سنوات بهذا السجن، كان من بين قيادات «داعش» الأخرى التي سجنت هناك الرجل الثاني في الجماعة وهو أبو مسلم التركماني، وحاجي بكر، القيادي العسكري البارز الذي توفي مؤخرا، وأبو قاسم قائد المقاتلين الأجانب، حسبما أفادت المؤسسة. وأضافت المؤسسة أنه رغم احتمالات أن يكون هؤلاء الأشخاص قد تحولوا للتطرف بعد دخولهم السجن، يبقى الأمر المؤكد أنهم خرجوا جميعا من السجن متطرفين.
وفي مقال لهما نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» هذا الشهر، أوضح أندرو ثومبسون، العسكري السابق، والأكاديمي جيرمي سري أنه «قبل احتجازهم، كان البغدادي وآخرون من الراديكاليين الذين يميلون للعنف والعازمين على مهاجمة أميركا. وجاءت فترة احتجازهم في السجن لتعمق تطرفهم ولتمنحهم فرص توسيع دائرة أتباعهم.. وتحولت السجون لجامعات إرهابية فعلية، حيث لعب الراديكاليون المخضرمون دور الأساتذة، بينما كان باقي السجناء الطلاب. أما سلطات السجن فلعبت دور الحارس الغائب».
الملاحظ أن هذا السيناريو حير سلطات فرض القانون منذ أمد بعيد. ومن التساؤلات التي يثيرها: كيف يمكن التعامل بصرامة مع التطرف من دون خلق المزيد منه؟ من التحول نحو الراديكالية في صفوف العنصريين البيض داخل السجون الأميركية إلى محاولة المملكة المتحدة الكارثية لسجن أعضاء الجيش الجمهوري الآيرلندي، تبقى المشكلة كما هي: أن السجون معاقل للتطرف في انتظار شرارة واحدة للانفجار.
داخل سجن بوكا، كان هناك فيض من الشرر. وقد كتب المأمور السابق لسجن بوكا، جيمس سكيلر غيروند، في رسالة عبر «تويتر» مع تزايد الاهتمام بالفترة التي قضاها البغدادي في سجن بوكا، إن «الكثير منا داخل سجن بوكا ساوره القلق من أنه بدلا من احتجازنا للسجناء، فإننا واقع الأمر كنا ندير مفرخة للمتطرفين». يذكر أن غيروند عمل بالسجن بين عامي 2006 و2007. عندما كان يعج بالآلاف من الراديكاليين، بينهم البغدادي.
وقد أدين الكثير من السجناء بمهاجمة جنود أميركيين، لكن كثيرين آخرين لم يدانوا بمثل هذه الجرائم، وإنما سجنوا «لمجرد أنهم ذكور شباب ذوو مظهر مريب وجدوا في منطقة محيطة بهجوم ما»، تبعا لما ورد بمقال رأي نشرته «تايمز». وتناول شادد هذا الأمر بصورة مكثفة عام 2009. مشيرا إلى أن الكثيرين اعتبروا هذا الأمر «خطأ جسيما في تطبيق العدالة حيث لا يواجه السجناء اتهامات ولا يسمح لهم بالاطلاع على الأدلة القائمة ضدهم، ولذا فإن المفرج عنهم منهم قد ينتهي بهم الحال في صفوف جماعة متمردة».
لذا فإن ظهور حركة التمرد تلك نهاية الأمر على السطح لم يكن مثيرا للدهشة. في ذروة أعمال العنف بالعراق عام 2007، عندما تضخم عدد نزلاء السجن بصورة هائلة بلغت 24.000 سجين، اعتملت جنبات السجن بمشاعر التطرف. وجرى تقسيم السجناء تبعا لانتماءاتهم الطائفية، أملا في تخفيف حدة التوتر، حسبما ذكر تقرير عسكري. وعمد السجناء للجوء إلى الشريعة الإسلامية في تسوية خلافاتهم. وأضاف التقرير: «خلف هذه القضبان متطرفون إسلاميون مستعدون لتشويه أو قتل زملائهم المسجونين لإتيانهم بأي سلوك يعتبرونه ضد الإسلام».
وذكر أحد الجنود في ثنايا التقرير أن «محاكم الشريعة تفرض الكثير من القواعد داخل جدران السجن. ويتعرض أي شخص يأتي بسلوك يعد (غربيا) لعقاب شديد من قبل العناصر المتطرفة داخل السجن.. ويصبح الأمر مرعبا للغاية بعض الأحيان».
من جانبهم، لاحظ بعض رؤساء السجون مثل غيروند ظاهرة تنامي التطرف. وفي تصريح لمجلة «مذر جونز»، قال غيروند: «كان هناك ضغط جماعي هائل يمارس على السجناء كي يتحولوا نحو مزيد من الراديكالية في أفكارهم.. لقد لجأ السجناء لبعضهم البعض طلبا للدعم. وحال وجود راديكاليين في الدائرة الداعمة لهم، تظهر حينئذ دوما احتمالية اعتناقهم مزيدا من الراديكالية».
ومهدت البيئة الفريدة داخل سجن بوكا التي جمعت علمانيي حزب البعث الخاص بصدام حسين بأصوليين إسلاميين الساحة أمام ظهور ما هو أسوأ: التواطؤ بين الجانبين. داخل السجن، انضمت هاتان المجموعتان معا لتشكيل اتحاد «تجاوز كونه زواج مصلحة»، حسبما أوضحت مؤسسة «صوفان».
وتوصلت «صوفان» إلى أن كلتا المجموعتين عرضت على الأخرى شيئا تفتقده، ففي داخل معسكر البعثيين السابقين وجد الجهاديون المهارات التنظيمية والانضباط العسكري. في المقابل، وجد البعثيون السابقون في صفوف الجهاديين الهدف. وأوضح تقرير صادر عن «صوفان غروب»: «داخل بوكا، تبدلت الأماكن، مع انتهاج الآيديولوجيين للخصال العسكرية والبيروقراطية، وتحول البيروقراطيون إلى متطرفين ينتهجون العنف».
ومن بين رماد ما سماه سجناء سابقون «مدرسة القاعدة» ولدت «داعش». وبالفعل، ذكرت «واشنطن بوست» من قبل أن هؤلاء السجناء عندما أفرج عنهم عام 2009 وعادوا إلى بغداد، تحدثوا عن أمرين: تحولهم للراديكالية - والانتقام.