البدائل المتاحة وصولاً إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة

عربي ودولي


حينما توجه السيد محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، منذ أسابيع مضت إلى مقر الأمم المتحدة فى نيويورك ليتقدم بطلب انضمام الدولة الفلسطينية المستقلة إلى عضوية المنظمة الدولية، فقد بات واضحاً أن «أبو مازن» قد اقتنع فى النهاية بعدم جدوى ما كان يسمى بعملية السلام، أو عملية المراوغة الإسرائيلية التى مارستها الدولة العبرية لسنوات طويلة بدعم من الإدارة الأمريكية ومباركة بعض الحكومات العربية التى لم تع دروس التاريخ وحقائق الجغرافيا، والتى أكدت مع مر الأيام أن تجاهل حقوق الشعب الفلسطينى المشروعة على هذا النحو هو أمر لا يمس الأمن القومى العربى فقط، وإنما هو يمس أيضاً، وفى الصميم، الأمن الوطنى لدول الجوار العربى وفى مقدمتها مصر.

بل إن تجاهل حق الفلسطينيين فى إقامة دولتهم المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس، والاعتراف الدولى بها فى ضوء قرارات الأمم المتحدة السابق صدورها عن المنظمة الدولية منذ عام 1947، قد أصبح عقبة حقيقية فى سبيل التوصل إلى سلام دائم بالمنطقة، لأن تحقيق السلام واستمراره يفترض أن يكون هذا السلام واقعيا وأن يكون قائما على العدالة الدولية فى نفس الوقت، وهكذا يرتبط الحل الواقعى والعادل للقضية الفلسطينية بالسلام العالمى على نحو يستدعى الاختصاص المباشر لمنظمة الأمم المتحدة.

على أن الالتجاء للمنظمة الدولية فى هذا الإطار يجب ألا يتم من خلال مجلس الأمن حيث تتمتع الدول الكبرى ذات العضوية الدائمة فيه بحق النقض أو حق الاعتراض أو «الفيتو» لأسباب تاريخية ترتد إلى ظروف نشأة الأمم المتحدة فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، وإنما يتعين أن يكون الالتجاء إلى المنظمة الدولية من خلال جمعيتها العامة حيث تتساوى كل الدول الأعضاء من حيث حقها فى التصويت، مما يخول للطلب الفلسطينى فرصة حقيقية فى الحصول على موافقة الأغلبية دون التعرض لعقبة حق الاعتراض الذى قد تمارسه الدول الخمس الكبرى.

ومن هنا تبدو أهمية اختيار الطريق القانونى المناسب الذى يتعين على السلطة الفلسطينية أن تسلكه وصولاً إلى ما تسعى إليه من اعتراف دولى بدولتها المستقلة، وقد اختارت هذه السلطة طريق التقدم بطلب انضمام دولتها إلى عضوية الأمم المتحدة، وهو طريق يصعب معه تجنب تدخل مجلس الأمن بما يؤدى إليه من احتمالات الاصطدام بحق النقض الذى تتمتع به الدول الكبرى وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التى أعلنت بالفعل عن نواياها فى هذا الصدد دعما لإسرائيل.

وسوف نتصدى فى الفقرة (أولاً) من هذا المقال للمصير القانونى المتوقع للطلب الفلسطينى بانضمام عضو جديد للمنظمة الدولية، وقبل أن نعرض فى الفقرة (ثانياً) منه للاقتراح الخاص بتجنب عرض المشكلة على مجلس الأمن على هذا النحو، ومحاولة استصدار قرار مباشر بشأنها من الجمعية العامة من خلال إجراء قانونى مختلف فيما لو فشلت المحاولة الأولى للأسباب التى سنوضحها فى الفقرة التالية.

(أولاً) المصير القانونى المتوقع للطلب الفلسطيني

بانضمام دولة جديدة لعضوية الأمم المتحدة..لعله من الإنصاف أن نشير من البداية إلى أنه ورغم العقبات القانونية التى ستواجه الطلب الفلسطينى الحالى بانضمام دولة جديدة إلى عضوية الأمم المتحدة، فإن هذا الطلب سيحقق فى ذاته نتائج سياسية مهمة. فبالإضافة إلى كونه قد حرك المياه الراكدة منذ سنوات طوال مارست فيها الدولة العبرية كل سبل المراوغة فيما يسمى بعملية السلام، فإن تقدم السلطة الفلسطينية بهذا الطلب سوف يكشف المواقف الحقيقية للدول المختلفة إزاء الحقوق المشروعة للفلسطينيين، كما أنه سيساعد على تكوين رأى عام عالمى مناصر لقضيتهم العادلة، خاصة أن السلطة الفلسطينية قد أحسنت توقيت تحركها السياسى، بعد قيام ثورات الربيع العربى المناصرة للديمقراطية وحقوق الإنسان، والتى لاقت تأييداً شعبياً عالمياً وإقليمياً، ومثل هذا الرأى العام المؤيد للقضية الفلسطينية سيكون داعما لها، حتى لو لم يدرك الطلب الفلسطينى الحالى النجاح لأسباب قانونية، ما دامت هناك بدائل أخرى متاحة كما سنرى فيما بعد.

أما عن احتمالات فشل الطلب الفلسطينى الحالى فى إدراك غايته فيرجع لسببين رئيسيين، أولهما أن طلب الانضمام لعضوية الأمم المتحدة تحكمه المادة (4) من ميثاق المنظمة الدولية التى تشترط فى الدولة طالبة الانضمام-وبالإضافة إلى كونها دولة محبة للسلام وتقبل الوفاء، بما يقرره الميثاق من التزامات على أعضائه- أن يكون قبول طلبها بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة بناء على توصية مجلس الأمن.

وقد سبق لمحكمة العدل الدولية أن أكدت فى رأيها الاستشارى الصادر فى 3 مارس 1950، ضرورة أن تنطوى موافقة المنظمة الدولية على طلب العضوية على المرحلتين السابقتين، أى صدور توصية من مجلس الأمن أولاً ثم قرار من الجمعية العامة بناء على هذه التوصية.

ويجب أن تصدر توصية مجلس الأمن بأغلبية 9 دول من أعضاء المجلس، بشرط ألا يكون من المعترضين أى من الدول الخمس الكبرى صاحبة الحق فى «الفيتو»، وإذا صدرت توصية ايجابية على هذا النحو من مجلس الأمن يعرض الأمر على الجمعية العامة، ويكون قرارها بالموافقة بأغلبية الحاضرين من الدول الأعضاء.

ووفقاً لما أكدته محكمة العدل الدولية فإنه لا يكفى حصول الدولة طالبة العضوية على موافقة الحاضرين من الدول الأعضاء فى الجمعية العامة، حتى لو كان طلبها قد سبق له الحصول على أغلبية 9 دول من أعضاء مجلس الأمن، ما دام أن هناك دولة واحدة من الدول الخمس الكبرى قد مارست حقها فى الاعتراض فى المجلس، ولو كانت هذه الدولة قد تعسفت فى استخدام هذا الحق، فممارسة دولة واحدة لحق الاعتراض الذى تملكه فى إطار مجلس الأمن، يحول فى ذاته دون حصول طلب الانضمام على الموافقة المتطلبة.

ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية سوف تمارس حقها فى الاعتراض على القرار فى مجلس الأمن دعما للموقف الإسرائيلى، وهو ما صرح به بالفعل الرئيسى الأمريكى باراك أوباما، مما سيحول قانونا دون قبول الطلب الفلسطينى بالانضمام لعضوية الأمم المتحدة.

بل إن هناك سبباً قانونياً ثانياً قد يعد عائقاً فى طريق قبول الطلب الفلسطينى بالانضمام للمنظمة الدولية، وهو ضرورة أن تكون مقدمة طلب العضوية الجديدة «دولة» وفقا للمفهوم القانونى التقليدى لهذه الفكرة فى القانون الدولى، وهو المفهوم الذى يفترض فيها وجود إقليم وشعب يسكن هذا الإقليم وسلطة حاكمة تمارس سيادتها الإقليمية، ومثل هذه السيادة الإقليمية هى ما تفتقر إليه حتى الآن الدولة الفلسطينية، على الأقل فى تاريخ تقدمها بطلب العضوية، رغم ما قد يقال من امتلاكها لسيادة شخصية وأدبية على جموع شعبها الفلسطينى.

وإذا كانت احتمالات رفض الطلب الفلسطينى للسببين المتقدمين هى الأكثر توقعا ما دام هذا الطلب قد اتخذ شكله الحالى بوصفه طلباً للانضمام إلى عضوية الأمم المتحدة، فعلى رجال القانون العرب، ومن بينهم الفلسطينيين بطبيعة الحال، أن يبحثوا عن بدائل قانونية أخرى ليضعوها تحت تصرف السلطة الفلسطينية، لتتخذ قرارها السياسى المرتقب فى حال رفض طلبها الحالى بالانضمام إلى عضوية المنظمة الدولية، وفى هذا الإطار يأتى الاقتراح الخاص بتجنب عرض المشكلة الفلسطينية على مجلس الأمن واستصدار قرار مباشر بشأنها من الجمعية العامة، وهو ما نعرض له فى الفقرة (ثانياً) من هذا المقال.

(ثانياً) الاقتراح الخاص بتجنب عرض المشكلة الفلسطينية على مجلس الأمن واستصدار قرار مباشر بشأنها من الجمعية العامة

يتجنب هذا الاقتراح شرط أن يكون مقدم الطلب إلى المنظمة الدولية «دولة» وفقاً لمفهومها القانونى الذى حددناه، فالسلطة الفلسطينية لن تتقدم بطلب انضمام دولة جديدة إلى عضوية الأمم المتحدة، وإنما بطلب اتخاذ الإجراءات المتطلبة لقيام هذه الدولة قانوناً عملاً بالقرارات السابق صدورها عن المنظمة الدولية، وباعتبار أن هذا الطلب يمس- وفى الصميم- ضرورات الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، وهو ما تملك الجمعية العامة التصدى له بطريق مباشر بمقتضى قرارها السابق المؤكد لهذا الإجراء والمسمى «بالاتحاد من أجل السلام» الصادر برقم 377 فى دورتها الخامسة فى أكتوبر/نوفمبر 1950، والذى يخول للجمعية العامة أن تواجه حالة عجز مجلس الأمن عن التصرف أو اتخاذ قرار بسبب استخدام إحدى الدول الكبرى لحق الاعتراض - الفيتو- فى شأن أى مسألة تتعلق بعدوان أو خرق للسلام العالمى أو تهديده.

ورغم أن قرار الجمعية العامة الخاص بالاتحاد من أجل السلام قد خول لها عند التعرض لمسألة ماسة بالسلام العالمى أن تصدر توصيات إلى الدول الأعضاء. باتخاذ تدابير جماعية لصيانة السلام والأمن الدوليين، فإن السوابق الدولية قد أكدت حقها فى اتخاذ هذه التدابير بنفسها، وهو ما سبق لمصر ودول عدم الانحياز أن استثمرته لصالحها عام 1956 فى حالة العدوان الثلاثى بعد أن تعذر على مجلس الأمن إصدار قرار بسبب «الفيتو» البريطانى والفرنسى فى ذلك الوقت.

بل إن الجمعية العامة قد تمكنت فى وقت لاحق من استغلال قرارها السابق والخاص بالاتحاد من أجل السلام وأصدرت قرارها عام 1966 باعتبار سيطرة دولة جنوب إفريقيا العنصرية على الإقليم الجنوبى الغربى غير قانونى، وسمحت بإعداد دستور جديد للإقليم، وأشرفت على انتخابات حرة لسكانه، ومكنتهم من إقامة حكومة لدولة جديدة سميت فيما بعد بدولة «ناميبيا» عام 1989، وقد تمت كافة هذه الإجراءات بقرارات من الجمعية العامة، وبإشراف سكرتير عام الأمم المتحدة، وبمعاونة قوات عسكرية تابعة للمنظمة الدولية مكنتها من وضع ما اتخذته من تدابير موضع التنفيذ العملي.

وبناء على هذه السابقة الدولية يمكن للسلطة الفلسطينية التقدم للجمعية العامة للأمم المتحدة بطلب إخضاع قطاع غزة والضفة والقدس الشرقية وغيرها من الأراضى المحتلة بعد 1967 لوصاية قوات الأمم المتحدة لفترة محددة تمهيداً لاستقلالها عن دولة إسرائيل وإقامة الدولة الفلسطينية الجديدة فى ضوء القرارات السابق صدورها عن المنظمة الدولية منذ عام 1947، ما دام أن مجلس الأمن قد عجز عن حل هذه المشكلة الماسة مباشرة بالسلام العالمى، على غرار ما حدث فى «ناميبيا» عند تقرير انفصالها عن دولة جنوب افريقيا وإعلانها دولة مستقلة، وذلك عملاً بسلطات الجمعية العامة للأمم المتحدة بمقتضى قرارها رقم 377 لسنة 1950 والخاص بالاتحاد من أجل السلام.

وعلى السلطة الفلسطينية دعوة كافة القانونيين العرب وغيرهم من مؤيدى قضيتها العادلة لتدارس هذا الاقتراح أو غيره من البدائل القانونية المتاحة، والاستعداد من الآن لكافة الاحتمالات المستقبلية على نحو تمتلك فيه زمام المبادرة لتضع إسرائيل فى موقع رد الفعل وليس العكس كما كان الحال فيما مضى. وعلى العرب انتهاز فرصة ربيع الثورات العربية التى أعادت إحياء التوجهات الوطنية والقومية المناصرة لحقوق الانسان والتى لاقت تأييداً شعبياً عالميا يجب استثماره لصالح أمن المنطقة.

وأخيراً فليتذكر الفلسطينيون أن هذه هى فرصتهم التاريخية للتوحد والالتفاف حول قضيتهم وصولاً إلى حلول واقعية وعادلة ينهون بها هذه المرحلة من مراحل كفاحهم الطويل، حتى يتفرغوا لبناء دولتهم المستقلة على نحو تصبح فيه إضافة حقيقية لجبهة عربية قوية ومتماسكة.. آن الأوان لأن تلحق شعوبها بركب العصر.