الجارديان : تونس : ديمقراطية على مفترق الطريق

عربي ودولي



مباشرة بعد الاستقلال في 20 مارس 1956 ، تنادى التونسيون لأول مجلس تأسيسي في تاريخهم الحديث وحددوا له هدف رمي أسس النظام السياسي المقبل وملامح المجتمع الذي حلموا به عقودا تحت الاستعمار الفرنسي. لم يكن من باب الصدفة أن يضمّ المجلس 101 عضوا وكان ذلك صدى لذاكرة تاريخية تتذكر أن قرطاج حكمت بجمعية كانت تضمّ هذا العدد من ممثلي الشعب للأسف لم يبني هذا المجلس التأسيسي الذي انعقد ثلاث سنوات الدولة الديمقراطية والمجتمع العادل وإنما اسس لنظام سياسي كان شكلا جمهوريا وفي الواقع كان ملكيا وبورقيبة ملكه السوقي. لقد فرض الرجل الذي لا ينكر أحدا دوره في الاستقلال وفي تحرير المرأة وفي انطلاق التعليم العمومي والمجاني سنة1974 بندا في الدستور يشرّع للرئاسة مدى الحياة في ظلّ نظام الحزب الواحد وسطوة البوليس السياسي. إضافة لهذا كان بورقيبة لا يهتمّ بالمناطق الداخلية فركّز كل جهود التنمية على المناطق الشرقية للبلاد وخاصة منطقته هو أي '' الساحل''. كل هذا أدى لاختلال متزايد بين المناطق في ظل تفاقم الأزمة السياسية الناجمة عن تصلّب نظام استبدادي لم يكن يتناسب مع صعود برجوازية متعلمة وشديدة الالتصاق بالغرب. سنة 1987بلغت الأزمة السياسية والاجتماعية ذروتها فتمّت إزاحة بورقيبة ليأتي بن علي الذي شهد عهده تفاقم الاستبداد السياسي و تصاعد تهميش وفقر الجهات الداخلية في ظلّ فساد غير مسبوق. كل هذا أدى لاندلاع الثورة من سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر 2010 انتقلت لمدن داخلية مثل القصرين وتالة ودوز لم تعد تتحمل الفقر والإهانة وعاضدتها مدن الساحل المتطورة التي لم تعد تتحمل الفساد وقمع الحريات.

لقد كانت الثورة التونسية بانتصارها السريع على الطاغية الذي فرّ يوم 14 يناير - والتي لم تكن باهظة الثمن بالقياس للثمن الذي دفعته ليبيا وتدفعه سوريا – بمثابة الشرارة التي الهبت نار الثورة العربية.

فهل تونس قادرة على أن تعطي للعالم العربي لا فقط نموذج ثورة شعبية سلمية بلا أيدولوجيا ولا صنم وإنما أيضا نموذج دولة ديمقراطية عربية ناجحة .

إنه رهان المجلس التأسيسي الثاني الذي تنادى التونسيون لانتخابه يوم 23 أكتوبر المقبل لينهي فترة انتقالية لأكثر من تسعة أشهر شهدت ولا تزال مرحلة صعبة من توقف الاقتصاد وعدم الاستقرار وتفاقم نفاذ صبر الشباب أمام بطء الإصلاحات المنشودة.

ما ينتظره التونسيون من هذا المجلس التأسيسي هو أن يضع أخيرا اسس الجمهورية وأن يبني نظاما يحمي الأجيال القادمة من عودة الاستبداد ، أن يعطي للتونسيين نفس الآليات التي تسمح للغربيين بقصّ الأعشاب الضارة للفساد وهي تنبت باستمرار وعلى رأسها صحافة حرّة وقضاء مستقلّ ثم إعادة التوازن بين الجهات بتنمية المناطق المهمشة وخاصة محاربة الآفة التي تنخر في المجتمع وهو بطالة الشباب خاصة المتعلمين منهم.

من يراقب عملية الاستعداد لانتخاب هذا المجلس التاريخي مكتشف أن تونس مجدّدا أمام تقاطع طريق وكل شيء وارد . ثمة الكثير من المؤشرات السلبية التي تجعل المرء متشائما. هناك اليوم أكثر من مائة حزب اصابوا الناخب المسكين بالدوار وهو لا يعرف من يختار وكل الأصوات تنطق بنفس الخطاب . هناك ظاهرة بالغة الخطورة عن تدفق المال المشبوه على بعض هذه الأحزاب التي أصبحت تتصرف كشركات سياسية تعمل للدخول إلى المجلس التأسيسي بالإشهار التجاري ويعتقد الكثيرون أن من استثمروا فيها من فلول العهد البائد يأملون منها الحماية من المحاسبة . ثمة أيضا وسائل إعلام خاصة تمارس التدخل الفجّ في الشأن السياسي بالتحريض على هذا الطرف أو ذاك دون التقيّد بأخلاقيات المهنة من حياد وموضوعية . ثمة أيضا دلائل على أن البوليس السياسي الذي يخشى أكثر من غيره المحاسبة والذي لم يتمّ تطهيره لحدّ الآن ، لاعب اساسي من وراء الستار يحرّك بعض الأحزاب ويخترق أخرى وقد يلعب لعبة الأرض المحروقة إذا شعر بإمكانية انتصار أحزاب معينة يخشى وصولها للسلطة مثل حزب النهضة الإسلامي أو حزب '' المؤتمر من أجل الجمهورية '' وهما اليوم من أكثر الأحزاب إصرارا على القطع مع الماضي.

ما يخشاه التونسيون أيضا أن نظام الاقتراع المعتمد أي النسبية التامة سيولّد مجلسا فسيفسائيا غير قادر على التفاهم على أي دستور أو على تشكيل حكومة وحدة وطنية تدحل مباشرة في تطهير الأمن والقضاء وإرساء الإصلاحات الضرورية وخاصة إرجاع الثقة للمستثمرين المحليين والأجانب لتعود العجلة الاقتصادية للدوران وهي الحال شبه متوقفة مما يفاقم أزمة البطالة التي كانت شرارة الثورة.

وفي المقابل هناك مؤشرات إيجابية تبعث على الأمل فالدولة سخرت كل الطاقات لكي تكون هذه الانتخابات فعلية لا المسخ الذي عرفته تونس لأكثر من نصف قرن . أما الحملة الانتخابية فتمرّ بسلام ولم تشهد أي احداث عنف . أضف لهذا أن التونسيون في نقاش سياسي لا يتوقف ويتابعون اللقاءات الكثيرة التي تنظمها الأحزاب بشغف كثير أما ''شعب الفايسبوك'' الذي لعب دورا كبيرا في التحريض على الثورة -والذي يقدّر بمليونين من أصل عشرة ملايين تونسي- فهو يتابع بمزيج من السخرية اللاذعة والاستفزاز والتحريض ، النقاش السياسي وينتظر أن يكون الفيصل في الانتخابات. كل هذا يعطي صورة شعب واعي متسيّس إلى حدّ غير مسبوق وأنه سيكون مصدر كثير من المفاجآت خاصة للأحزاب التي ظنت أن في تونس ديمقراطية للبيع.

هل ستنجح تونس أول امتحان ديمقراطي وتؤسس لدولة جديدة ومجتمع يقطع مع الاستبداد وموبقاته وتفتح الباب للأمل في كل البلدان العربية التي تراقب التجربة التونسية باهتمام بالغ ، أم هل ستنزلق مرة أخرى في المسار الذي سيقودها من جديد للثورة ، لكنها ثورة لن تنتظر نصف قرن آخر.