احمد فايق يكتب : التجربة المغربية
كان المشهد مهيبا في مطار محمد الخامس بالدار البيضاء طوابير كبيرة من المسافرين تنتظر خاتم الدخول، منذ اللحظة الاولى تستطيع أن تتوقع أنك تحتاج إلى ساعتين على الاقل كي تدخل الاراضي المغربية، فهناك 7 طائرات هبطت في نفس التوقيت، الواقفين امامي في الطابور من جنسيات مختلفة، مابين افارقة واوروبيين واسيويين، تستطيع أن ترى فيهم هذا التنوع الذي يعبر عن المغرب الان، فالضيوف إما قادمين سياحة أو مهرجانات أو مؤتمرات، في هذه اللحظة يجب أن تقف إعجابا بالملك محمد السادس هذه الشخصية الإصلاحية التي إستطاعت تقديم الكثير للوطن، لقد أصبحت المملكة المغربية تجربة ونموذجا هاما للعرب .
هذه المرة وفي مهرجان سلا الدولي لأفلام المرأة جربت متعة إكتشاف التجربة المغربية بجوار متعة مشاهدة الافلام، صدق أو لا تصدق أستطيع أن أقول لك بكل ثقة أن الرباط الان أصبحت أكثر نظافة من باريس ...!
نعم هناك مدينة عربية تفوقت على باريس، لقد مكثت في باريس 15 يوما، شعرت بالإحباط لأن باريس لم تعد تلك المدينة الخلابة التي وقع في غرامها وودي الان في فيلم منتصف الليل في باريس ، إن باريس أصبحت مدينة تمتلئ بالقاذورات والمتسولين والنصابين، طوال 15 يوما في باريس إستخدمت فيهم مترو الانفاق على الاقل 3 مرات يوميا لم أدخل عربة واحدة إلا ووجدت فيها متسولا...!
لست من هواة نظرية أن العرب هم من أفسدوا باريس، أكاد أجزم أن معظم المتسولين الذين وجدتهم في فرنسا فرنسيين وليسوا عربا أو افارقة وافدين، إن سبب إختناق الاقتصاد الفرنسي وتحولها إلى دولة تعاني من الشيخوخة هو الالتزامات الاجتماعية الكثيرة التي تتحملها ميزانية الدولة والتي تحولت إلى أداة لدفن أي محاولة للتطور، لقد إكتشفت أن دولة مثل فرنسا لا تستطيع أن تعيش أو تستمر بدون إستخدام أدواتها الاستعمارية في افريقيا والشرق الاوسط، الفرانكفونية ماهي إلا وسيلة لسرقة أموال دول العالم الثالث إلى فرنسا .
في المغرب ومن خلال سنوات كثيرة سافرت فيها عشرات المرات إلى هذا البلد الرائع أيقنوا أنه لا تقدم دون ثلاثة أشياء طرق ومواصلات وصحة وتعليم، عمل ملك المغرب طوال السنوات الماضية على خريطة الطرق والمواصلات، وأستطيع أن أقول أن كل المدن الان مربوطة بشبكة طرق لا تقل جمالا وجودة عن تلك الطرق التي إنبهرت بها في المانيا، هناك تخطيط حقيقي للمدن والطرق والمواصلات، في الطريق من الرباط وحتى مطار الدار البيضاء دفع سائق الباص الذي كنا فيه حوالي 40 جنيه رسوم عبور، لكنه في المقابل حصل على خدمة طريق امن وسليم وحضاري ليس به خطأ واحد.
لقد أصبحت مدينتي الرباط وسلا الان مغطيتان بشبكة كاملة من المواصلات العامة التي فيها الحد الادنى من المعاملة الانسانية، ترام رائع مثل الذي كنت أشاهده في المانيا، مكيف فيه اماكن جيدة للجلوس، زمن التقاطر ترام كل 5 دقائق، لوحة إليكترونية فيها مواعيد وصول الترام، تقطع تذكرة بواسطة الماكينة وثمنها 6 دراهم للرحلة الواحدة أي حوالي 5 جنيهات وللطلبة إشتراك شهري 150 درهم، لاحظ أن الحد الادنى للأجور في المغرب تقريبا 3 الاف درهم ، وهناك اتوبيسات عامة ادمية لا تقل عن الاتوبيسات التي شاهدتها في باريس، هناك شبكة مواصلات كاملة داخل المدينة تجعلك لا تحتاج لسيارتك الخاصة.
وحينما وفرت الدولة هذه الشبكة هنا أصبحت السيارة الخاصة رفاهية لا يتحملها سوى الاغنياء فقط، ثمن لتر البنزين يبدأ من 8 جنيهات ويصل إلى 12 جنيها، رسوم العبور في الطرق السريعة بين المدن كبيرة جدا، هناك ضرائب رفاهية على السيارات الفارهة، أسعار السيارات نفسها باهظة جدا، قواعد مرور تطبق بدقة وحزم، لدى كل من يحمل رخصة القيادة 22 نقطة لو إستنفزهم يسحب منه تصريح قيادة السيارات، ومن يتجاوز السرعة القانونية يتحول لمحكمة الجنايات .
بالتأكيد ستقول لي هناك دولة مثل الامارات فعلت هذا منذ سنوات، نعم هذا حقيقي، لكن عظمة التجربة المغربية أنها بلد لا تمتلك موارد طبيعية مثل الامارات من بترول وغاز، المغرب بلد غير بترولي، منحها الله أرضا طيبة وامطار لا تتوقف طوال العام وملكا شابا حداثيا وطني يحب بلده وشعبا شديد الطيبة والود مثل المصريين .
من لديه خيال يصنع المستقبل، ومن يحب السينما لديه خيال، وهذه مواصفات ستجدها في ملك المغرب محمد السادس، هذا الشاب الذي تولى العرش وارثا بلدا تحتضر إقتصاديا وموروث قمعي من عهد والده الحسن الثاني، لكنه بدأ بالمصالحة وتجاوز أخطاء الماضي لصناعة المستقبل، وحينما أيقن الشعب أنه لديه حلم فقد منحوه ثقتهم، وتحملوا قرارات إقتصادية صعبة إلى أن أصبحت المغرب قوة قادمة تحقق أحلامنا .
الملك محمد السادس يحب السينما، وأعاد للسينما المغربية رونقها وصنع حالة من الزخم الفني والمهرجاناتي والسينمائي غير مسبوقة، فالسينما تنتصر على التطرف ووسيلة لمواجهة الارهاب وأداة للقوى الناعمة، المغرب الان تنتج مالايقل عن 25 فيلما في السنة تتلقى دعما من الدولة، وفيها مالايقل عن 50 مهرجان سينمائي، قال لي عمدة مدينة سلا أن اليوم هو يوم حظه، ولما سألته لماذا ؟ قال إفتتحت سينما جديدة، قلت له عليك أن تكون فخورا لأن الاجيال القادمة ستذكر لك أنك إفتتحت دار عرض سينمائية، وهذا يذكرني بمشهد هام رأيته بعيني .
في الطريق إلى حي الحبوس قالوا لي إنهم سيغلقون الشوارع اليوم لأن توم كروز يصور فيلمه الجديد، لا تتعجل وتكون رأيا تندم عليه، فربما تسألني لماذا تغلق الشوارع من أجل توم كروز، هذا يجيب عليه المشهد الثاني حينما وجدت قطعة ارض كبيرة فيها خيم ضخمة جدا تأوي الاف البشر وبداخل الارض عشرات من السيارات والاتوبيسات، ولما سألت ماهذا ؟
قالوا هذا فريق عمل فيلم توم كروز، لقد أصبحت المغرب تربح المليارات من تصوير الافلام الاجنبية بها، حتى الثقافة المغربية أصبحت جزء هام من السينما الامريكية من لهجة وطعام وملابس، وصورة العربي في السينما الفرنسية والامريكية تقريبا هي صورة المواطن المغربي، وأصبحت الثقافة في المملكة المغربية صناعة يقف وراءها ويدعمها نظام الحكم، لذا لا تتعجب حينما تجد مهرجانا لسينما المرأة مثل مهرجان سلا يحمل الرعاية السامية من الملك المغربي، تخيل ملك المغرب يمنح رعايته لمهرجان سينما، وهذا يؤكد أنه لديه الخيال الذي يجعل من المغرب الحلم الذي ننتظره في عروبتنا .
في سلا والرباط وأي مدينة مغربية عليك أن تكون فخورا وأنت تمشي في الشارع بأنك مصري، فهناك عمالقة صنعوا إسم بلدك في هذه المملكة العظيمة، عليك أن تشكر عبد الحليم حافظ وام كلثوم ويوسف شاهين واسماعيل يس .
وعليك أن تصب لعناتك على يوسف شعبان واماني الخياط وغيرهم ممن لا يعرفون قيمة وأهمية مصر ولا المغرب، ستجد عتابا من الناس البسيطة في الشارع، فحينما يسب يوسف شعبان المغرب في لحظة سكر، فهذا يجرح كرامة ملايين من الاشقاء، هل تعلم لماذا ؟
لأنهم تربوا على السينما المصرية ويحبونها ولديهم صورة ذهنية عن مصر تجعل الاساءة من أي مواطن منها جرحا عميقا، لقد وجدت غضبا في عيون المغاربة من افعال يوسف شعبان واماني الخياط بنفس قدر حزنهم وبكائهم على فراق خالد صالح، يوم وفاة خالد صالح كانت الناس تعزينا في الشارع لمجرد أننا مصريين، ولا أستطيع أن أنسى بكاء الكثير من الفنانين والصحفيين والنقاد المغاربة على خالد صالح حينما علموا الخبر، فقد تحول المهرجان فجأة إلى مأتم، هم يعشقون فن خالد صالح ويحبونه، ويقدرون أنه كنجم حينما أتى إلى مهرجان تطوان لم يتعالى على المغاربة بل كان سفيرا لمصر وفنها .
العقل نعمة منحها الله لكثير من عباده، ولم يمنحها ليوسف شعبان وامثاله، ولكل من يحاول تدمير الهوية الثقافية المصرية والعربية .
في مهرجان سلا الدولي لافلام المرأة تباينت المشاعر بين نساء تعاني في كل بلدان العالم، لينتهي حديث السياسة ونبدأ معا متعة السينما ..
وفي هذا حديث اخر .............