بقلم المستشار سامح المشد : أبو العز الحريري.. وداعا صديقي المناضل
(ِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)، وداعا صديقي الحبيب، وأبي الودود، ومعلمي الرشيد، وأستاذي المنيب، المناضل البطل، المجاهد الصلب، السياسي المحنك، أبو العز الحريري. (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إرْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي). وداعا يا رمز النضال الوطنى، ورمز النقاء الحقيقى، ورمز الأمانة، والشرف، والضمير. وداعا مصارع الفساد، وعدو الإفساد. وداعا أبا العز، ياصاحب العزة، والمعزة. أكتب عنك وتفيض عينايا من الدمع حزنا، على غيابك في نضالك العتيد، وخطابك الشديد. إني أراك أيها الصديق المخلص، والأب الناصح، والحبيب الصافي، والمعلم الواعي، تغادر في هدوء، تاركا وراءك رصيدا حافلا من الكفاح السياسي، والبرلماني. أشهد الله، وأسجل هذه الشهادة لمصر، والتاريخ، يا أبي الحبيب، أنك كنت نموزجا رائعا، للمناضل المثالي، العاشق لوطنه، وكنت مدافعا عن مصر كالأسد الهائج على الفساد. فأنت نائب الشعب، ومازلت محتفظا بهذا اللقب حتي وفاتك، رغم إقصائك من البرلمان قديما، لأسباب باتت معروفة للجميع. عشت شريفا، ومت شهيدا. وداعا أيها المصري المنغرس روحا بأرض الوطن، وداعا أيها المكافح. رحل جسدك، وتبقى رائحتك محلقة بين نخيل بلادنا، أريجا، يعالج جروحات بلادنا، في ظلمة وطن، لا بد وأن ينجلي ليله، في وجود أمثالك، لنخرج بصباح يضئ أملا للأجيال القادمة. وداعا يا درع الأسكندرية، وداعا ياهرم مصر، وداعا يا تاج الرأس.
كنت دوما بالنسبة لى قائدا عملاقا، عند كل مرة ألقاك فيها، في إجتماعات ماقبل ثورة 25 يناير، وكذلك عندما نلت شرف زيارتك ببيتك بكرموز بالأسكندرية، ونلت شرف تناول الإفطار معك في رمضان، بصحبة عظيمة الأسكندرية المناضلة، زينب الحريرى. كنت قائدا رائعا عندما كنت ألقاك دوما في ميدان التحرير، في الثمانية عشر يوما الأولى من الثورة، وفي مليونيات الثورة العظيمة بوجودك، ووجود أمثالك من الثوار، وأبطال الثورة الحقيقيين. كنت دوما قائدا كبيرا، عندما كنت أستمع إليك في الندوات، والمؤتمرات، واللقاءات السياسية، كنت قائدا قويما عندما كنت تصر على أن أغادر ميدان التحرير كل يوم، لأنني كنت أكتب الأحداث الحقيقية للثورة، دون تعديل أو تزييف، وكان إصرارك بمغادرتي يوميا، لأتمكن من الراحة، حتى أستطيع التركيز في كتاباتي الثورية. فكيف تكون الأسكندرية، والقاهرة دون ضحكة أبو العز الحريرى القوية الرنانة؟ وداعا أيها المناضل العظيم، فقد دافعت عن مبادئك، وقيمك، طوال 40 عاما قضيتها في النضال والكفاح الشعبي، رافعا شعار (عدالة، حرية، ديمقراطية). وعلى المستوى الشخصي، فلن أنسى أبدا عندما تبرعت لأخيك بكليتك، ولم تبخل عليه بجزء حيوي وهام من جسدك أيها الإنسان.
أبو العز الحريري، رجل يغذيك بمعلوماته الغزيرة، بآدائه البديع، بأدبه الرفيع، بذوقه الجم، بسيرته القويمة، بصوته الرخيم، الذي إستخدمه في الدفاع عن قضايا وطنه، يطرح قضايا مصيرية، تتعلق بتاريخ أمة، ومصير وطن. هذا الرجل رحمه الله، صاحب تاريخ مملوء بالويلات والعثرات، بالبطولات والفداءات. طرق أبواب الكرامة، ونوافذ الحرية، برذاذ دامٍ من المشاعرِ، وايماءات الروح. طرق خلال طريقه الطويل، موضوعات تثبت عشقه لتراب بلده، وعمل طوال عمره على مقاومة الدكتاتورية، والإستبداد. تمكن الحريري أن يرتقي سلالم العلى من السمو، والإبداع، فعكس أجمل صدى، وأروع أثر، في إثراء المعارضة الحقيقية، في عصر كان الشعب أحوج اليها، بل ملهوف عليها، أو متعلق بقشتها. كانت مصر بجبالها، وبحارها، وأرضها، وسمائها، بالنسبة له التراث، والأمل، فتناغمت أهرامات مصر، بنيلها، وأريج ترابها، وبقي ذلك الأريج نبعا دائم الغليان، لا ينضب، ولا يهدأ، رغم مروج لياليه الحالكة، مطاردا بقايا مَن كانوا طرائد أحلامه.
أذكر أنني في أول تعارف مع المناضل الثائر، أبو العز الحريري، عام 2005، وإذا بي أفاجأ بالرجل ينظر إليَ، وعلى وجهه إبتسامة أذكرها جيدا، وأراها في كل مقابلة، أو ندوة، أو مؤتمر، إنها «ابتسامة الأنقياء، الأصفياء»، إنها إبتسامة (الرجال الطيبيين)، طفل لا يتجمل، برئ لا يتصنع. وأمام الإعلام، والصحفيين، لا يشعر أبدا أنه أمام الكاميرات، فيتحسب لحركاته، وكلماته، وإيماءاته، ولكنه يتحدث بتلقائية، وعفوية، أمام وخلف الكاميرا سواء. وعندما كنا نتناقش في فعاليات، وإجتماعات ثورة 25 يناير، كنت أنظر بإهتمام، وحب شديدين إلي هذا الأسد، الذي يبدو وكأنه أب مصري، في إجتماع عائلي، يتشاور مع أبنائه، حول أمور العائلة، والمشكلات التي تواجهها، وما عزز من إنطباعي هذا لوالدي أبو العز، أنه كان دائما ما يأتي بالطعام، والشراب، على نفقته الخاصة، الى الشباب الساهرين على مداخل ومخارج ميدان التحرير. كنت دائما حريصا على وجودي بصحبته، في المؤتمرات، والمظاهرات، التي كان ينظمها، أو يساعد في الدعوة لها. وكان دائما تلقائيا، بسيطا، واضحا، صريحا، منحازا لحقوق الفقراء، دون متاجرة أو مزايدة.
هو مصري تعارك مع الحياة، وإشتبك مع السياسة، وصارع أعداء الوطن. أثقلته التجارب، وأكسبته صلابة، تليق برجال صدقوا الوعد والعهد، فلم يهدأ له بال، ولم يسترح يوما. فمنذ عرفته شهما، صاحب نخوة وضمير. كان حتى وفاته، يتوهج حياة، وفي مرضه، يتدفق دفئا، ممزوجين بأمل التغيير، والإصلاح. فلم تنل منه الزنازين يوما، ولم يمل ظلم الحزب الحاكم، فكان يخرج كل مرة من سجنه، أصلب مما كان عليه، ويزداد حبا للناس، فلم يسترح إلا وسط الجماهير. فضل حياة المهالك والأخطار، من نظام مبارك والإخوان الفاشيين، ولم تنحن هامته الباسقة يوما، فكان صوتا، ولغةً، وقيمة، وقامة، في المعارضة الشريفة، والإصلاحات العفيفة، والنقد البناء، في زمن بلا عطاء.
المتحدث الرسمي بإسم النادي الدبلوماسي الدولي [email protected]