عادل حمودة يكتب: خطايا رجال البيزنس!

مقالات الرأي


■ السيسى لرجال الأعمال: «شقيتم» فيما جمعتم.. ونسى أن أغلبهم له ملفات فى النيابة العامة والرقابة المالية والرقابة الإدارية


■ الرئيس تحدث عن «سيف الحياء».. والأدق أن يتحدث عن «سيف القانون»

■ طالبهم بالمشاركة معاً فى مؤسسات قابضة متناسياً أنهم فى الغالب لا يطيقون بعضهم البعض ويسخرون من بعضهم البعض

■ الكبار منهم نقلوا أجزاء كبيرة من ثرواتهم واستثماراتهم إلى الخارج مكتفيا بأن تكون مصر المقبرة التى سيدفن فيها

■ قبل اللقاء كان أغلبهم يرتعش من الرئيس لكن بعد كلماته المطمئنة عادوا إلى سيرتهم القديمة يبحثون عن مزيد من الفرص مقابل أقل ثمن!

■ دخلت مصر مرحلة الشيخوخة.. لذلك.. لا تستوعب بسهولة جرأة وحيوية عبد الفتاح السيسى

■ عاشت مصر عقودها الأخيرة غارقة فى واقعية مريرة.. تقبلت فيها كل ما فرض عليها من قبح وفساد وإرهاب.. لذلك.. لا تفهم رومانسية رئيسها الجديد


لقد تصوره البعض شيخا من شيوخ الصوفية بينه وبين الله جسر من الشفافية.. ويتصوره البعض شاعرا حالما جاء بقصائده الوطنية فى زمن تمسك بزمامه بورصة الأوراق المالية.. ويتصوره البعض حاكما متمردا خرج عن طوع العالم.. يرفض الالتزام بقواعد اللعبة المفروضة عليه.. دون اعتراض.. ويتصوره البعض عنيدا يغطى قراراته بطبقة من الحرير.. لكنه.. يصر على تنفيذها مهما كان الثمن الذى سيدفعه.

إن السيسى ليس رئيسا تقليديا لنطبق عليه قواعد النقد الكلاسيكية.. ليس تمثالا محدد القسمات فى متحف شمع نتبارى لالتقاط الصور التذكارية بجواره.

إنه ظاهرة استثنائية.. غير تقليدية.. وغير متوقعة.. وعلى هذا الأساس يجب أن نفهمه.

وما أكتبه عنه ليس رشوة.. فلا أنا أحترف فن التبخير.. ولا أنا ممن يستريحون كثيرا للتعامل مع السلطة.. كل ما فى الأمر أن الرجل يشغل تفكيرى كما يشغل تفكير الدنيا كلها بمراكزها البحثية وأجهزتها الخفية ومؤسساتها السياسية.. وكلها تتفق على أنه يرفض السيناريو المرسوم.. المحفوظ.. لأنه مكتوب بلغة «أجنبية».. من الشمال إلى اليمين.. وهو يقرأ من اليمين إلى الشمال.

وهو يفكر بطريقة مختلفة.. مقتنعا بوجهة نظره.. مأخوذا بها.. كما يؤخذ المتصوف بكشوفاته ورؤاه الداخلية.. لكنه.. فى الوقت نفسه ليس متعصبا لتفكيره.. فهو مستعد فى أى وقت لأن يجادلك فيما يقول.. ويستمع إلى ما تقول.. بروح رياضية نادرة.. ورغبة فى معرفة لا ترتوى.

لقد جلست معه أكثر من مرة.. تأملت ملامحه بنفس القدر من الاهتمام الذى سمعت به كلماته.. ورصدت ردود أفعاله بنفس التركيز الذى قرأت به انفعالاته.

لاحظت أن نفسه طويل فى الشرح والتفسير.. مثل مدرس متمكن فى مدرسة مشاغبين.. ولاحظت أنه يملك ردا سريعا عندما تفاجئه بقضية خارج دائرة النقاش الدائر.. مما يعنى أنه طالب يدرس كل الملفات والمقررات.. كما أنه يسجل ما يسمع من أفكار يراها مناسبة.. ظاهرة لم أشهدها من قبل.. رئيس جمهورية أمامه ورقة وقلم.. يستخدمهما بالفعل.. وليسا مجرد ديكور.. كما أنه يتمتع بحرص ظاهر.. فهو يجمع أوراقه بنفسه فور أن ينفض الحوار.

ولأنه واسع الصدر.. لا يعتبر كل كلمة ينطق بها قرارا جمهوريا يصعب مخالفته.. فإننى سوف أناقشه فيما قال لرجال الأعمال مؤخرا.. أمام منتدى صحيفة الأخبار.. وليسمح لى بالاختلاف معه فى معظم ما قرأت منسوبا إليه.. فلا خير فينا إن لم نقلها.. ولا خير فيه إن لم يسمعها.

لكن.. قبل أن أخوض فى دروب الخلاف أسجل عدة ملاحظات أراها مفتاحا يصلح لكل الأبواب السميكة الموصدة فى وجه النظام القائم (ماستر كى):

إن الذين وجه إليهم الحديث ممن ينتسبون إلى كريمة «البيزنس» هم خليط من البشر.. فيهم الطيب.. والشريف.. والجاد.. والفاسد.. والمتلون.. والمزيف.. والمنافق.. والمغرور.. والعميل.. والمجنون بالشهرة مهما كان ثمنها.. والمجنون بالثروة مهما كان مصدرها.

وليس بينهم سوى قليل لم يتهم فى قضية ما.. يؤكد ذلك أرشيف النيابة العامة.. والرقابة الإدارية.. والكسب غير المشروع.. والرقابة المالية.. غالبيتهم لهم فى الملفات الرسمية «سوابق».. وما يأخذه المحامون منه أكبر أحيانا مما تبرع به.. إذا تبرع.

وبعضهم لا يعرف حجم ما يملك.. وأغلبهم يرفض أن يتذكر السنوات الأولى لتكوينها.. طبقا للقاعدة الرأسمالية المعتمدة.. لا تسألنى عن عفن الخميرة.. اسألنى عن النتيجة.

وليس بينهم سوى القليل الذى نجا من مرض النرجسية.. فهو يؤمن فى قرارة نفسه بأنه مبعوث للعناية الإلهية.. لذلك.. نجد أعماله سمك لبن تمر هندى.. بلا تخصص.. صناعة وزراعة وسياحة وتجارة.. فهو جامع مال أكثر منه رجل أعمال.. أو هو دولة داخل دولة.

ورغم حجم أموالهم وتنوع مشروعاتهم فإنهم يديرونها بأنفسهم مباشرة.. يتدخلون فى كل كبيرة وصغيرة.. ويعجزون عن تقبل نظم الإدارة الحديثة.. فاستثماراتهم فى البداية والنهاية شخصية.. وفى أفضل الأحوال عائلية.. لذلك.. يصعب عليهم تقبل فكرة الرئيس بأن تكون مجموعة منهم شركة قابضة.. فكل شيخ وله طريقة.

ولو تأملنا ما قاله أغلبهم فى اللقاء سنجده نسخة صوتية مكررة لما سبق أن نطق به من قبل.. بنفس الحماس.. وبنفس الكلمات.. وفى نفس المكان (القصر الجمهورى) حين كان محمد مرسى يسكنه.. مات الملك.. عاش الملك.. دون أن يتوقف أحد عند الفرق بين ملك وملك.

وأظن أن الرئيس بحكم خبرته القديمة فى المخابرات الحربية يعرف جيدا أن بعضا ممن جلسوا أمامه قدم نور عينيه للإخوان.. واستضاف قيادات التنظيم الدولى للجماعة فى قصوره.. وتبرع لهم بملايين شهرية من أرباحه.. وعندما غرقت سفينة المرشد قفزوا منها إلى سفينة المنقذ.

ويندر أن تجد واحدا منهم يثق فى الآخرين.. أو لا يسخر منهم.. علاقتهم ببعضهم البعض مثل زواج المتعة ينتهى بنهاية المصلحة المشتركة.. ولو سمعت ما تناثر من أحاديث بعد الاجتماع ستعرف أن النميمة شيمة من شيمات أغلبهم.. بجانب شيمات أخرى تتناقض مع الثياب الأنيقة.. والسيارات الفارهة.. والقصورة المترفة.. والكلمات المنمقة.. والحاشية متعددة الجنسيات.. فتحت الجلد أحيانا شخصية أخرى مختلفة تماما.. نحن أمام حالة فصام على طريقة دكتور جيكل ومستر هايد.

لكن.. الرئيس الذى يعرف الكثير.. تجاهل ذلك كله.. أو تجاهله مؤقتا.. حتى لا يجرح مشاعرهم المرهفة فى شهر الصوم.. أو ربما ليمنحهم فرصة جديدة لمراجعة أنفسهم.. لعلهم يستجيبون.

لقد فتحت التبرعات فى صندوق «تحيا مصر» فى الأصل ليضع فيه رجال الأعمال 100 مليار جنيه.. لكن.. الرئيس شعر بأنهم سيخذلونه.. ففتح الباب للجميع.. وبدأ بنفسه.. وتنازل عن نصف ما يملك ونصف ما يتقاضى.. واستجاب البعض.. واشمأنط البعض الآخر قائلا: «إنه يحرجنا».. لا تبرع بالمال ولا اكتفى بالسكات.. لم يرحم ولم يترك رحمة ربنا تنزل على عباده.

لم يضغط السيسى على أحد.. مقتبسا من الفقه الإسلامى قاعدة: «ما أخذ بسيف الحياء فهو باطل».. أو حرام.. لكنها.. قاعدة تسرى على المعاملات التى بين الأفراد.. أما القاعدة التى تسرى على المعاملات بين الدولة والأفراد فهى «ما أخذ بسيف القانون فهو حق».

إننا ضد «سيف الحياء».. لكننا.. مع «سيف القانون».. وسيف القانون منذ أن طفح القطاع الخاص على جلد الوطن كان معهم وليس عليهم.. كان فى يدهم وعلى رقابنا.. لذلك.. كان جهدهم أقل من مكاسبهم.. وعرقهم أقل مما لديهم.. لذلك.. لا أوافق الرئيس حين يقول لهم: «شقيتم».. لا يا سيدى.. لقد تكونت ثروات كثيرة بعلاقات فاسدة مع السلطة.. افتح ملفات المصانع والشركات التى خصخصت.. والأراضى الزراعية والسكنية التى خصصت.. وقروض البنوك التى منحت.. وكواليس البورصة التى تشهد على العمليات القذرة التى دبرت.. افتح هذه الملفات.. لتعرف كيف تراكمت المليارات.. ثم هربت.. أو هربت.

ولو كان الرئيس يقصد من عبارات مثل «شايفكو ناس مخلصين» أن يحنن قلوبهم.. ويقوى انتماءهم.. فقد أخطأ.. فغالبيتهم لا يسمع إلا صوت «القرش وهو يرن على المائدة».. ومن تبرع بنصف ماله أو بجزء مقبول منه لم يكن فى حاجة لمثل هذه الجمل الرومانسية ليشعر بالمسئولية.. فهو وحده مؤمن بها.

أما من يصر على صر المال فسوف يهرب بوضع العقدة فى المنشار.. سيطالب بقانون جديد للاستثمار.. وباستراتيجية مختلفة للطاقة.. وسيشكو من تشويه الإعلام لصورته.. منفذا للمثل القائل: «ضربنى وبكى وسبقنى واشتكى».

وحاول الرئيس جاهدا استمالتهم بكلام يتفجر حماسا.. «أنا بكلمك عن ضميرك الوطنى».. لكنه.. شعر أن الجملة لم تجد صداها المناسب.. فاضاف: «الكلام ده بعيد عن الناس اللى بتسمعنى؟».. نعم.. بعيد عن أغلبهم.. والدليل على ذلك خريطة الاستثمارات المصرية والحسابات البنكية القائمة فى أربع أنحاء من العالم.. إنها تفوق فى كثير من الأحيان حجم ما يمتلكون وما يديرون فى مصر بالرغم من أن النعمة التى يعيشونها فى الخارج سببها ما كسبوه فى الداخل.. خاصة أن أغلبهم بدأ وهو على فيض الكريم.

إن الجيل الحالى من رجال الأعمال بدأ مشواره فى منتصف ثمانينات القرن الماضى.. منذ 40 سنة تقريبا.. فى ذلك الوقت لم يكن بعضهم ليملك ضمانات كافية لاقتراض نصف مليون دولار.. واسألوا مسئولى البنوك الحكومية ساعتها.. هو نفسه الآن الذى تملك عائلته نحو 20 مليار دولار.. يستثمر معظمها الآن فى الصناعة والسياحة خارج البلاد.. وكان هناك من بدأ حياته فى مطعم ليلى.. قبل أن يفتح الشيطان عليه بطرق مبتكرة للتحايل جعلت منه ديناصورا.. مغرورا.. متعاليا.. فى حاجة إلى علاج نفسى.. ولم يكن فى مواجهته ما يمنع أن يحلم بالسلطة بعد أن حقق الثروة.. بجانب شخصيات نفخ الفساد فى صورتها.. فتحول واحد منها من بائع فى محل إلى مالك لمصانع.. وتحول آخر من مقاول صغير إلى تايكون كبير.. وتحول ثالث من موظف متواضع الذكاء فى بنك إلى مساهم فى شركة كبرى للاستشارات والصناديق المالية.

وكثير منهم رتب حياته للمعيشة خارج بلاده.. اشترى بيوتا.. وحصل على جنسية أخرى.. وحصن نفسه بما يضمن له البقاء عند أعلى مستوى من الترف فى الغرب.. هو وعشرة أجيال قادمة من صلبهم.. وعندما يأتى ذكر مصر يقشعر بدنه وهو يقول: «لن ندفن فى غيرها».. وكأنها بالنسبة إليه مجرد مقبرة.

وقبل هذا اللقاء كانت الغالبية ممن حضروه تشعر بالقلق من السيسى.. وتفكرون فى استرضائه خشية البطش بها.. لكن.. بعد أن سمعوا منه كلماته الطيبة المهدئة التى تحدث بها إليهم اطمأنوا.. واسترخوا.. وعادت السكينة إليهم.. وهو ما يعنى أنهم لن يتنازلوا عن شىء.. ولن يقدموا ما طلب منهم.. ولن يخرجوا بعد الآن جنيها من جيوبهم إلا إذا تأكدوا أنه سيعود إليهم بمائة.. إلا قليلا منهم.

إن هناك بالقطع رجال أعمال شرفاء.. مخلصين.. تجنبوا الشهرة.. وابتعدوا عن الضوء.. وقنعوا باقتسام الربح بينهم وبين وطنهم.. هؤلاء هم من يجب أن يتحدث إليهم الرئيس.. أما النجوم الكبار فلا أمل فيهم.. إلا فيما ندر.

يا سيادة الرئيس.. لا تضيع وقتك مع من لا يسمع.. ادرس تجربة صندوق (306306) لتعرف من قلبه على البلد ومن قلبه على جيبه؟.. أعد للقانون سيفه.. افتح الملفات.. لتقرأ كيف تكونت المليارات الحرام فى مصر.. أضئ النور.. لتعرف الخفافيش الذين أدمنوا مص الدماء فى الظلام.