البيروني

منوعات


البيروني شهد له الناس في الشرق والغرب بعلمه وفضله،ولد (أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني) في شهر ذي الحجة سنة 362هـ/ 3 من سبتمبر 973م، في إحدى ضواحي خوارزم، وهي مدينة (كاث) التي توجد مكانها حاليا بلدة صغيرة تابعة لجمهورية أوزبكستان، وكانت مدينة (خوارزم) مركزًا عظيمًا من مراكز الثقافة الإسلامية، ازدادت شهرتها بعد انهيار الخلافة الإسلامية في بغداد. ونشأ (البيروني ) في هذا الجو الذي يحث على طلب العلم ويدفع إلى التعلم، فحفظ القرآن الكريم ودرس الفقه والحديث النبوي الشريف، وفي (بيرون) خالط أبو الريحان التجار الهنود واليونانيين وغيرهم، فتعرف على طباعهم، وتعلم لغتهم، فاتسع إدراكه وازدادت خبرته وتعمقت تجارته، التقى أبو الريحان بمعلم أعشاب استطاع أن يتعلم منه شيئًا عن تحضير النباتات الطبية، وأن يعرف أسماء النباتات، الأمر الذي دفعه إلى الاهتمام بالعلوم الطبيعية. وتمكن (أبو الريحان) من أن يتصل بأبي نصر منصور بن علي، ذلك العالم الذي يمت بصلة قرابة إلى العائلة المالكة بخوارزم، وكان عالمًا كبيرًا في الرياضيات والفلك، فأطلعه على هندسة إقليدس، وفلك بطليموس، فأصبح العالم الشاب أبو الريحان مؤهلاً لدراسة الفلك، كما اكتسب دراية كبيرة بالعلوم الهندسية والفلك والمثلثات من أبي الوفاء العالم الفلكي الشهير وصاحب مرصد بغداد. اشتهر (البيروني) وذاع صيته حتى وصلت أخباره إلى أمير (خوارزم) فأعجب به، وضمه إلى علماء قصره، وضمن له ما يكفيه للعيش عيشة كريمة ليتفرغ للعلم والاستنباط والاستكشاف، وفكر (أبو الريحان) في بناء مرصد فلكي، فعرض الأمر على الأمير، فرصد له ما يشاء من مال، وأحضر له جميع المستلزمات التي طلبها، ثم شرع (البيروني) مع أساتذته في بناء المرصد.

كان البيروني يجلس كل ليلة في مرصده، يتابع حركات الشمس والقمر والنجوم ويرسم على أوراقه خريطة لقبة السماء الزرقاء، يضع عليها مواقع المجرات والنجوم وأخذ كل يوم يكتشف الجديد في علم الفلك، وتغيرت الأحوال عندما رحلت العائلة المالكة في خوارزم والتي كانت عونًا له وسندًا، بعد أن جاءت العائلة المالكة الجديدة عائلة (مأمون بن محمد) فكان عليه أن يرحل هو الآخر من (خوارزم) فرحل عنها وظل يتنقل من بلد إلى بلد، وإذا سمع بعالم رحل إليه وأخذ العلم عنه. وأخذ يكتب في أوراقه كل ملاحظاته عن المد والجزر في البحار، وعن حركات النجوم والأفلاك وغيرها مما يتعلق بعلم الطبيعة، وكان الملوك والأمراء يتنافسون في إكرام العلماء، ومن بينهم أمير (جرجان وطبرستان) (شمس المعالي قابوس) ذلك الأمير الذي شغله العلم، وامتلأ قصره بالعلماء، ولما علم ذلك الأمير بقصة أبي الريحان وكثرة ترحاله، شمله بعطفه ورعايته وأعطاه الأموال الكثيرة، حتى تفرغ للعلم واستطاع أن يكتب كتابه الشهير (الآثار الباقية عن القرون الخالية) وقدم هذا الكتاب هدية إلى الأمير (قابوس) سنة 390هـ.baironi البيروني

كان أبو الريحان البيروني على اتصال بابن سينا الذي كان من أشهر علماء عصره وكثرت الرسائل بينهما في خدمة العلم، فأعجب به ابن سينا إعجابًا شديدًا واستمرت رسائلهما حوالي خمس سنوات يتبادلان الرأي حول قضايا علمية كثيرة، ولـمَّا عُزِلَ قابوس عن الإمارة سنة 400هـ/1009م لم يجد أبو الريحان البيروني إلا أن يعود إلى بلده (خوارزم) مرة أخرى.

وفي جرجان عاصمة الدولة الخوارزمية، لقى أبو الريحان كل التقدير من أمير البلاد أبو العباس مأمون بن مأمون، وأتيحت له الفرصة لأن يجتمع بكبار العلماء مثل ابن سينا وغيره، وبدأ العالم الكبير (أبو الريحان البيروني) في إجراء بحوثه ودراساته الفلكية والجغرافية، وشرع هو وتلاميذه في إنشاء مرصد في القصر الملكي لرصد حركة الشمس والقمر والنجوم.

وفي حديقة القصر بنى نصف كرة من الحجارة والطين قطرها أربعة أمتار تقريبًا ووضع عليها صور البلدان كما تخيلها، ورسم على تلك البلدان خطوط الطول والعرض، كما اشتغل مع علماء المجمع في حساب مساحة الكرة الأرضية، لكن الحياة لا تستقر على حال، فقد قتل الأمير عاشق العلم، واستولي السلطان محمود الغزنوي على البلاد سنة 407هـ/1016م، فأخذ كل الذخائر العلمية التي تضمها مكتبة القصر، كما اصطحب معه العلماء، وكان من بينهم أبو الريحان البيروني، حيث استقر في القصر الملكي بغزنة (أفغانستان حاليًّا ).

وفي قصر السلطان (محمود الغزنوي) التقى البيروني بعدد من الفلاسفة والأدباء المشهورين، وأتيحت له الفرصة أن يشهد غزوات السلطان التي قادها، وصحبه في أكثر من ثلاث عشرة غزوة، وكانت إقامة البيروني بغزنة من العوامل التي ساعدته على القيام بعدة رحلات علمية إلى الهند، وكان قصده من ذلك القيام بدراسة علمية دقيقة على الطبيعة لأحوال هذه البلاد، من حيث تاريخها وثقافتها وأديانها، ورأى البيروني أن الفرصة لن تتهيأ له إلا إذا درس اللغة السنسيكريتية (لغة الهند)؛ ففتحت له هذه الدراسة أبواب الثقافة الهندية من جميع نواحيها العلمية والدينية، ووضع كتابًا مهمًّا عن حضارة الهند وتاريخها، أسماه (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) ذكر فيه الجغرافيا الخاصة بالهند، كما ذكر لنا العقائد الدينية والمعارف العلمية عند الهنود، من رياضة وفلك وتاريخ وغيرها من علوم مختلفة.


وقد كتب البيروني أكثر من (146) كتابًا في علوم مختلفة، فقد كتب في الحساب وشرح الأرقام الهندسية شرحًا وافيًا، وهي الأرقام التي اتخذت أساسًا للأرقام العربية كما يعد الواضع الحقيقي للقواعد الأساسية لعلم الميكانيكا، وكانت له نظريات في استخراج الأوتار من الدائرة، واستطاع أن يبتكر معادلة لمعرفة محيط الأرض. ويعد البيروني أبا الصيدلة العربية في العالم الإسلامي، فقد كتب عن الصيدلة كتبًا عديدة جعلته يحتل هذه المكانة المهمة في تاريخ الطب الإسلامي، وقد سجل البيروني في كتبه كثيرًا من فوائد النباتات الطبية والعقاقير والأدوية، كما كتب كتابًا أسماه (الصيدلة في الطب ) وتجمعت لدي البيروني معلومات جغرافية كثيرة وضعها في كتاب سماه (نهاية الأماكن ) وأثبت فيه أشياء لم تكن معروفة من قبل مثل: أن وادي السند كان في العصور القديمة حوض بحر قديم كونته الرواسب التي حملها النهر. وقال البيروني بدوران الأرض، وأنكر أن تكون الأرض مسطحة، وأنشأ مرصدًا خاصًّا به، وافترض أن الأرض ربما هي التي تدور حول الشمس، كما قال إن الأزمان الجيولوجية تتعاقب في صورة دورات زمانية.

كما اهتم البيروني أيضًا بدراسة التكوين الطبقي للصخور والأنهار والمحيطات، وابتكر نظامًا خاصًّا لرسم الخرائط رسمًا مجسمًا، وللبيروني جهود علمية طيبة في الترجمة عن لغات أخري مثل: اللغة الهندية والفارسية .. وغيرها، وقد قام بترجمة اثنين وعشرين كتابًا إلى اللغة العربية أهمها: ترجمة كتاب (أصول إقليدس) وكتاب (المجسطي) لبطليموس الفلكي.. وغيرهما. وكان البيروني مفكرًا وفيلسوفًا إسلاميًّا؛ فهو يرى أن طلب العلم هو أسمى هدف للحياة البشرية، وأن مطالب الحياة تستلزم مراعاة أداء الفرائض الدينية والتمسك القوي بالدين الإسلامي، لكي تساعد الإنسان المسلم في تصريف الأمور، وتمييز الخير من الشر والصديق من العدو، وكان البيروني يقدر آراء العلماء الذين سبقوه ويسجلها في كتبه بأمانة وموضوعية، ويرُجع الفضل إلى أهله، كما كان يحترم تقاليد الشعوب الأخرى وعاداتها، وطرائقها في التفكير والمعيشة، ويظهر تسامح البيروني ومرونة عقله ونزاهته وموضوعيته في تقديره لعلوم اليونان والهنود والفرس..وغيرهم .


ولم يلق البيروني تقديرًا من المسلمين فحسب، بل إن الأوربيين كانوا يرون أن البيروني أكبر عقلية علمية في التاريخ، وأنه من أعظم العلماء الذين ظهروا على مر العصور، وأن اسمه يجب أن يوضع في لوحة الشرف التي تضم أكابر العلماء، وأنه من المستحيل أن يكتمل أي بحث في الرياضيات أو الفلك أو الجغرافيا أو المعادن أو العلوم الإنسانية، دون الإقرار بإسهاماته العظيمة في كل علم من تلك العلوم، ومرت الأيام وأصبح البيروني شيخًا كبيرًا؛ فأراد أن يجمع تجاربه ومشاهداته العلمية في كتاب فكتب كتابًا أسماه (القانون المسعودي) وهو موسوعة ضخمة في العلوم نسبة إلى السلطان (مسعود) وفاءً وإخلاصًا له، فكافأه السلطان بأن أرسل له ثلاثة جمال محملة بالنقود والفضة، فرد أبو الريحان الهدية قائلاً: إنه يخدم العلم للعلم لا للمال.


وظل أبو الريحان يكتب البحوث المفيدة والقيمة، وينتقل من اكتشاف إلى اختراع إلى كتابة مؤلفات جديدة، وظل وفيًّا للعلم؛ فيذكر أنه وهو على فراش الموت زاره أحد أصدقائه فسأله البيروني عن مسألة سبق أن ناقشه فيها، فقال له صديقه: أفي مثل هذه الحال تسأل ؟!! قال البيروني: يا هذا، الأفضل أن أودع الدنيا وأنا عالم بهذا المسألة !! وقد أشاد بمكانة البيروني العلمية كبار مؤرخي العلم، وأنشئت باسمه جامعة في (طشقند ) عاصمة جمهورية أوزبكستان الإسلامية تقديرًا لمآثره العلمية، كما اختير من بين (18 ) عالمًا إسلاميًّا أطلقت أسماؤهم على بعض معالم القمر، ومات البيروني وشيعه كبار رجال العلم ومحبوه ممن تتلمذوا على يديه، وكان ذلك سنة 440هـ.. رحم الله ذلك العالم المسلم الكبير بقدر ما قدم للإنسانية من علم ومعرفة .


يقول المستشرق ساخو بأن البيروني امتلك أعظم عقلية عرفها التاريخ، وهذا العبقري الفذ من ألمع وأبرز مفكري الحضارة العربية الإسلامية، كتب في الرياضيات والفلك والجغرافيا والفيزياء والفلسفة والطب والشريعة والأدب واللغة، فترك ما يقارب مائة مؤلف نذكر منها مقاليد علم الهيئة، تحقيق منازل القمر، تقسيم الأقاليم، العمل بالإسطرلاب، المسائل الهندسية، النسب بين الفلزات والجواهر في الحجم، الجماهر في الجواهر، التطبيق إلى حركة الشمس، الصيدلة في الطب، جدول التقويم، تصور أمر الفجر والشفق في جهة الشرق والغرب من الأفق، رؤية الأهلة، وأشهر الكتب التي ترجمت إلى لغات عديدة: كتاب تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، وكتاب القانون المسعودي في الهيئة والتنجيم، والأكثر شهرة على الإطلاق كتاب الآثار الباقية في القرون الخالية .

أهم منجزات البيروني في الرياضيات والفيزياء :

. ساهم في تقسيم الزاوية ثلاثة أقسام متساوية وعمل في الجداول الرياضية للجيب

table des sinus والظل table des tangentes.

. ضلوعه بعلم المثلثات بشكل عام وبقانون تناسب الجيوبsinus بشكل خاص .

. وضع معادلة رياضية لاستخراج مقدار محيط الأرض وعُرفت بقاعدة البيروني .

. أكّد البيروني قبل كوبرنيكوس (الذي ينسب إليه بأنه أول من قال عن حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس ) بخمسمائة عام، ويقول بشكل واضح وصريح: ليست الشمس هي سبب تفاوت الليل والنهار بل إنّ الأرض ذاتها هي التي تدور حول نفسها وتدور مع الكواكب والنجوم حول الشمس .

. توصل البيروني إلى استخراج الثقل النوعيpoids specifique لكثير من الأجسام الصلبة والسائلة مستعيناً بمبدأ أرخميدس، حيث ابتكر آلة سماها الآلة المخروطية أو الميزان الطبيعي وهي أقدم آلة استعملت لقياس الثقل النوعي وأعطت نتائج مذهلة تتناسب تقريباً مع الأرقام الحديثة، وتتلخص طريقته بوزن جسم المادة المراد تعيين ثقلها النوعي في الهواء أولاً ثمَّ وزنه ثانية في الماء داخل الآلة المخروطية، وبعد ذلك يزن الماء الذي أزاحه ذلك الجسم، فيصل إلى معرفة حجم الجسم الموزون، ومن قسمة وزن الجسم في الهواء على وزن الماء المزاح حصل البيروني على الثقل النوعي للجسم الموزون.

في كتابه المسعودي يتحدث البيروني عن نوعين من الجاذبية هما: جاذبية الأرض لما عليها وحولها، وجاذبية السماء للأرض، وقال بأن الجاذبية القصوى تقع في باطن الأرض، لكنه لم يستطع التوصل إلى قانون يحدد قوة الجاذبية، لكن لا يخفى على أحد بأن اكتشافاته مع ثابت بن قرة والخازني في هذا المجال قد مهَّدت الطريق أمام نيوتن لأن يحدِّد قانون قوة الجاذبية .

. أثبت البيروني بأن الضوء أسرع من الصوت .

. تحدث عن ضغط السوائل وتوازنها، ووضع أسس ما يسمى بعلم الهيدروستاتيك، وشرح كيفية صعود مياه الفوّارات والينابيع من أسفل إلى أعلى، وكيفية ارتفاع السوائل في الأوعية المتصلة إلى مستوى واحد بالرغم من اختلاف أشكال هذه الأوعية وأحجامها .

منهجه العلمي: في مقدمة كتابه الآثار الباقية من القرون الخالية يحدد البيروني المنهج الذي اعتمده، فنجده بلغ بهذا المجال مستوى متطور جداً قياساً إلى عصره وإمكانياته، فيشير بوضوح بأن طبيعة الموضوع المعالج هي التي تحدِّد المنهج الملائم وليس العكس، ويقول :

. إن العالِم لا يستطيع أن يبدع بالعلم فجأة وبدفعة واحدة بل عليه أن يعود إلى مناهل العلم في الآثار التي تركها السلف .

. ينبغي أن ندرس ما وصل من السلف ونخضعه للنقد وللمقاييس العقلية وللمراقبة والاختبار لتمييز الخطأ عن الصواب وأن نحذر الثقة العمياء بالآراء ومصادرها .

. للتأكد من صحة الأدلة العقلية لا بد من تطبيقها على المحسوسات تطبيقاً مادياً وذلك في كافة حقول العلم المتنوعة .

. العالِم الحقيقي هو الذي يبتعد عن التعصب لرأي ويبتغي الحقيقة المطلقة بمعزل عن الأهواء والرغبات، وهو الذي يسعى وراء الحقيقة لأنها حقيقة، لا للتظاهر والمفاخرة بالمعرفة، فالتواضع من أهم صفات العالم .

ولأهمية وشهرة كتاب الآثار الباقية في القرون الخالية سنقدم في هذه العجالة إطلالة على هذا الكتاب القيِّم للبيروني .


كتاب الآثار الباقية في القرون الخالية

احتوى كتاب البيروني معارف شتى ومتنوعة عن الأمم السالفة، ويشير في مقدمته بأنه سُئل من قبل أحد الأدباء عن التواريخ التي تستخدمها الأمم والاختلاف الواقع في الأصول التي هي مبادئها والفروع التي هي شهورها وسنيها والأسباب الداعية لأهلها إلى ذلك وعن الأعياد المشهورة والأيام المذكورة للأوقات والأعمال وغيرها، ومن فحوى هذه الأسئلة التي كانت سبباً لتأليف الكتاب نتعرف على مضمون أبحاثه .

أهم محتويات الكتاب :

أ. كما ذكرنا سابقاً فقد أوضح في المقدمة المنهج العلمي الذي اتبعه أثناء تأليفه للكتاب .

ب. بحث في اليوم والشهر والسنة عند مختلف الأمم، وخلص إلى وجوب اعتماد اليوم أساساً للبحث، لأن اليوم وحدة زمنية ثابتة بينما الأشهر والسنون يختلف مقدارها باختلاف الأمم، واليوم هو عودة الشمس بدوران الفلك إلى دائرة فرضت ابتداءً لذلك، والعرب تبدأ حساب اليوم الكامل منذ الغروب لأن أشهرهم تبدأ بظهور الأهلة ولا تبنى على الحساب، أما الروم والفرس قالوا بأن النهار سابق الليل وأن كامل اليوم هو من أول طلوع الشمس من المشرق إلى طلوعها منه في الغد، ومعظم علماء الفلك فرضوا أن اليوم يبدأ من موافاة الشمس فلك نصف النهار إلى موافاتها إياه في نهار الغد .

ج. ينتقل بعد ذلك إلى ما يركّب من الشهور والأعوام ويقول بأن السنة هي عودة الشمس في فلك البروج إلى أي نقطة فرضت ابتداء حركتها وذلك بعد أن تستوفي الفصول الأربعة وتنتهي إلى حيث ابتدأت، وتتفاوت نتائج الأرصاد في كمية السنة من الأيام وكسورها تفاوتاً غير محسوس، لكنه عند امتداد المدة يصبح خطاً كبيراً تنبه إليه العلماء، حيث أنه من خلال عودة الشمس من فلك البروج يكون القمر قد استوفى 12 عودة وأقل من نصف العودة وبعد إسقاط الكسر الذي يساوي 11 يوماً على التقريب، أخذت عوداته 12 أساساً للسنة القمرية وصار للناس سنتان قمرية وشمسية وعليهما بنوا سائر سنيهم .

فالروم والسريان والكلدان والفاطميون أخذوا بالسنة الشمسية التي هي 365 يوماً وربع اليوم، وجعل الروم شهورهم 12 شهراً وكبسوا ربع اليوم كل أربع سنوات على شهر فبرايوس ليصبح 29 يوماً وسموا السنة سنة كبيسة .

. أما الأقباط قد اعتمدوا السنة الشمسية لكنهم فصلوا الأرباع وكبسوها سنة كاملة كل 1460 سنة، والفرس اعتمدوا السنة الشمسية غير أنهم جعلوا الشهر 30 يوماً والسنة 360 يوماً وألحقوا الكسور بها وكبسوها كل 6 سنوات بشهر وكل 120 سنة بشهرين، أحدهما بسبب الخمسة أيام والثاني بسبب ربع اليوم .

. وأخذ اليهود والصابئة سنتهم من مسير الشمس وشهورهم من مسير القمر، فجعلوا سنتهم 12شهراً وعدد أيامها 354 يوماً وهي أيام السنة القمرية، وألحقوا الأيام الباقية بالشهور إذا استوفت أيام شهر واحد وسموه آذاراً الأول وسموا آذاراً الأصلي بالثاني والسنة الكبيسة سموها عبوراً، فكبسوا كل 19 سنة قمرية بسبعة أشهر .

. وكان العرب في الجاهلية يحسبون فرق السنة الشمسية والقمرية البالغ 10 أيام و20 ساعة و12 دقيقة ويكبسون سنتهم بشهر كامل كلما تم منها ما يستوفي أيام الشهر، وكانوا يلجأون إليه كل سنتين أو ثلاث ليثبِّتوا حجَّهم على حالة واحدة وقت أفضل الأزمنة وأخصبها، ومنهم من كان يكبس كل 24 سنة قمرية بتسعة أشهر، وبقيت شهور العرب ثابتة مع الأزمنة لا تتأخر عن أوقاتها ولا تتقدم حتى حجَّ النبي محمد ص حجَّة الوداع ونزلت الآية الكريمة إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين، فأهملوا النَّسْءَ، أي: الكبس، وزالت شهورهم عمَّا كانت عليه وأصبحت غير مؤدية لمعانيها، ومنذ السنة السابعة للهجرة النبوية من مكة المكرَّمة إلى المدينة المنورة (23/ 9 / 622م) بُدئ التأريخ بالسنة الهجرية وتقوم على رؤية الأهلَّة، وشهور العرب اثنا عشر شهراً، وهي: محرّم، صفر، ربيع الأول، ربيع الآخر، جمادى الأول، جمادى الآخر، رجب، شعبان، رمضان، شوال، ذو القعدة، ذو الحجّة، وكانت سنتهم تبدأ في الخريف ويسمونه الربيع، ثم الشتاء، ثم الصيف أو الربيع الثاني، ثم القيظ، والأشهر (محرم، رجب، ذو القعدة، ذو الحجة) سمَّوها الأشهر الحرم لأنهم حرموا القتال فيها، وسمي صفر لوباء كان يصيبهم فتصفرّ وجوههم، وقيل لاصفرار الأرض، أما جمادى الأول والآخر فيتناسبان مع البرد والشتاء والتجمّد، ورجب لأنهم أرجبوا أي كفُّوا عن القتال، وشعبان لانشعاب القبائل فيه إلى المناهل وطلب الغارات، ورمضان حينما يبدأ الحسر وترمض الأرض، وشوال لأنهم شوَّلوا أي ارتحلوا وقيل لأن الإبل تشول فيه أذنابها من شهوة الضراب لذلك كرهت العرب التزويج فيه، ذو القعدة لما قيل فيه: اقعدوا وكفوا عن القتال، ذو الحجَّة لأنه الشهر الذي يحجُّون فيه .

وأطلق الروم أسماءً لأشهرهم منها: يوريوس، فبرايوس، أغسطس، مرطيبوس، … .

ونصارى بلاد الشام والعراق وخراسان مزجوا شهور اليهود والروم، وأول سنتهم شهر طمبريوس وهو تشرين الأول ليكون أقرب إلى سنة اليهود، ثم سموها بأسماء يونانية وهي: تشرين قديم، تشرين حراي، كانون قديم، كانون حراي، شباط، آذار، نيسان، آير، حزيران، تموز، أيلول، وأخذ المسلمون هذه التسميات بعد أن عدلوا بها قديم إلى أول ، حراي إلى آخر ثم إلى ثان، وزادوا ألف على آير لتصبح أيار .

أما أيام الأسبوع فكانت عند العرب على الشكل التالي : أوَّل (الأحد)، أهْوَن، جُبَّار، دبَّار، مؤنس، عَرُوبة، سيَّار، ثم استحدثوا أيام الأسبوع المعروفة حالياً .

كذلك يذكر البيروني في كتابه أعياد العرب وأسواقهم ومواقيتها ومددها وأعياد المجوس والصابئة، كذلك أورد مختلف التقاويم التي تعتمدها مختلف الأمم وما طرأ عليها من تعديل، وأورد جداول تاريخية لملوك أشور وبابل والكلدان والقبط واليونان وفارس وفترات حكمهم وبيّن اختلاف أقوال الناس فيهم، وتكلم عن أعياد الطوائف المختلفة وأسمائها وتواريخها وعن الوثنيين وأصحاب البدع في سائر الأمم، كذلك تحدث عن منازل القمر، طلوعها وسقوطها، وعن العناصر والأزمنة والنجوم وحركاتها وعن الفلك وحركته، وأفرد فصلاً للحديث عن قاعدة أوجدها لتسطيح الكرة وأدى اكتشافه هذا إلى تقديم خدمة كبيرة لمصممي الخرائط الفلكية ومكّنتهم من الرسم على جسم كروي.

تعرّض البيروني لأمور كثيرة وهامة في كتابه، كمسألة حقيقة لقب الإسكندر بذي القرنين فيذكر الروايات المختلفة بهذا الشأن، وينتقل في فصل آخر إلى كيفية تحريف الأنساب ثم يحدد نسب النبي محمد ص ونسب شمس المعالي ثم يتوسع في مسألة الألقاب لدى الخلفاء وحدد بعضها ولي الدولة، عميد الدولة، عضد الدولة ....

كما يورد البيروني في كتابه مجموعة كبيرة من الجداول الهامة جداً منها :

جداول أوائل الشهور وأيامها عند مختلف الأمم مع إشارات على السنين الكبيسة وجداول استخراج ومعرفة التواريخ وحسابها عند جميع الأمم كما يحتوي على جداول يعيّن رأس السنة عند مختلف الشعوب وفطر صومهم الكبير والفصح المصحح وشهر الفصح والصوم الأوسط وأيام الأعياد والمناسبات الخاصة بكل شعب وعاداتهم الخاصة .

وبجداول أخرى يوضح الفصول ويعيّن بدء كل فصل من الفصول عند الروم والسريان والفلكيين واليونان والكلدان والعرب والقبط والطبيعيين .

وأخيراً أنهى البيروني كتابه قائلاً: قد آن أن نختم القول، فقد أنجزنا الوعد من علم ما سُئلنا عنه على قدر الوسع وما أوتينا من العلم بذلك … .

قيمة الكتاب: تأتي أهمية كتاب الآثار الباقية في القرون الخالية للبيروني في إطار أهمية التراث، ومسألة التراث تحتل اليوم مركز الصدارة وبخاصة عند الشعوب التي لا تزال في بداية نهضتها، فهي ملزمة شاءت أم أبت بأن تعود إلى تراثها لتتعرف على أصالتها وهويتها، وتحت هذا العنوان تصبح أهمية الكتاب عظيمة جداً وبالأخص إذا عدنا إلى مضمونه الذي يعتبر ذو قيمة تاريخية وعلمية وثقافية كبيرة، حيث نجد أن البيروني قد ضمّن كتابه معلومات ضخمة ومن مصادر مختلفة لأمم متعددة، ليصبح كتابه عبارة عن موسوعة تاريخية هامة لكثير من الشعوب، ونراه لم يكتفِ بجمعها، بل فحصها ونقدها وأقام الموازنات بينها وخرج باستنتاجات منها، ثم عرضها مبسطة ومرتبة قريبة من أذهان الناس، وكفى الباحثين مؤونة مطالعة المصادر الأصلية التي فقد معظمها، وبذلك يكون البيروني قد حفظ تراث الأمم السابقة من الضياعن وقدم خدمة كبيرة للحضارة الإنسانية، وهذا ما دفع العالم ساخو إلى ترجمة كتاب البيروني إلى الإنكليزية في أواخر القرن التاسع عشر .