عصام زكريا يكتب: مصر تتحرك.. رغمًا عن الجميع!
كنت أتجول فى أحد أركان بيع الصحف بمطار شارل ديجول فى باريس، استعدادا للعودة إلى القاهرة، وأفكر فى مصر التى سأعود إليها بعد ساعات قليلة، حيث تدور انتخابات الرئاسة الجديدة، وحيث تجرى عملية مخاض شاقة لفترة تاريخية جديدة من عمر البلد العجوز.. عندما لمحت على الأرفف عددا من مجلة «لوموند ديبلوماتيك» الشهيرة يحمل على غلافه صورة لشباب مصريين ثائرين فى ميدان «التحرير»، مع عنوان عريض على سطرين يقول «مصر تتحرك».
كنت قد شاهدت هذا الغلاف قبل يومين مكبرا بحجم إعلان على حائط أحد أكشاك الصحف فى مدينة «كان». وربما لأننى كنت مشغولا بالمهرجان الذى أغطى فعالياته والأفلام التى أشاهدها يوميا، لذلك لم أركز كثيرا مع الغلاف متصورا أنه لعدد قديم يعود إلى أيام ثورة يناير.
فى مطار شارل ديجول تناولت المجلة وبدأت فى تصفحها. هى أحد الأعداد الخاصة التى تصدرها «لوموند ديبلوماتيك» بعنوان «وجهة نظر» Maniere de voir، وهو عدد يحمل تاريخ يونيو ويوليو 2014، مكرس بالكامل، من الجلدة للجلدة، لمصر، وبالتحديد مصر الحديثة منذ ثورة يوليو 1952 وحتى ثورة يناير، مع بعض «الفلاشباك» القليلة لفترة محمد على وحفر قناة السويس وغيرها.
«وجهة نظر» هى سلسلة من الأعداد الخاصة تصدر فى مئة صفحة تتشكل عادة من مقالات قديمة سبق نشرها فى «لوموند ديبلوماتيك» بالإضافة إلى مقالات أخرى حديثة، تتناول موضوعا سياسيا بعينه، يمكن أن يكون بلدا أو ظاهرة ما أو حدثا مهما. من الموضوعات السابقة التى تناولتها تلك الأعداد الخاصة: ألمانيا، الصين، الجزائر، تاريخ اليسار الأوروبى، العنف فى المدارس، أزمة الطاقة، الأنواع الثقافية الجديدة، تاريخ تحرر المرأة.. إلخ
العدد الجديد يحمل عنوان «مصر تتحرك».. يبدو أنه الموضوع الملائم فى الوقت المناسب.
من حفر قناة السويس إلى إسقاط الإخوان، قلت إن الأعداد الخاصة من «وجهة نظر» تحتوى عادة على مقالات قديمة وأخرى جديدة، الهدف من الجمع بينها رسم صورة كاملة، أو متكاملة، للموضوع الذى يتناوله العدد. وسوف تتضح هذه الصورة عند الحديث بالتفصيل عن محتوى العدد المخصص لمصر.
معظم الكتاب الذين ساهموا بمقالاتهم فى العدد متخصصون فى الشأن المصرى، على رأسهم آلان جريش، المصرى الأصل، ورئيس تحرير «لو موند ديبلوماتيك» السابق، وهو بالمناسبة الابن غير الشرعى لهنرى كورييل، أحد مؤسسى اليسار المصرى ومنظمة «حدتو» الشيوعية. جريش لم ينس انتماءه لمصر يوما، وقد زار مصر عدة مرات بعد الثورة للاطلاع على الأوضاع، كما حل ضيفا على عدد من القنوات الفضائية العربية.
الاسم البارز الثانى فى كتيبة العدد الخاص عن مصر هو إيريك رولو، الذى هاجر من مصر إلى فرنسا بعد ثورة يوليو، ولكنه ظل مصريا ناصريا يتبنى الدفاع عن مواقف مصر عبد الناصر فى عقر دار الامبريالية الغربية.
الاسم الثالث هو الأمريكى جويل بينين، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط فى جامعة ستانفورد، ومؤلف كتاب «شتات اليهود المصريين» الصادر عن «دار الشروق»، وغيره من الكتب المتخصصة فى تاريخ مصر الحديث.
هناك أيضا عدد من الكتاب المصريين منهم عبد العظيم رمضان الذى نشرت له المجلة مقالا قديما يعود إلى عام 1977 عن الصعود الجديد للإخوان المسلمين فى الحياة السياسية، وكذلك مقال للكاتب حسام تمام عن المراجعات الفكرية للإسلاميين عقب ثورة يناير، ومقال آخر مشترك بين كلير طولون وفادى عوض عن «الانقسامات داخل النخبة الثقافية المصرية» نشرته «لوموند ديبلوماتيك» فى ديسمبر 2013.
ينقسم العدد إلى أربعة ملفات رئيسية كل منها يضم عددا من المقالات والموضوعات، بالإضافة إلى المقال الافتتاحى الذى كتبه آلان جريش بعنوان «الناس اللى فوق، الناس اللى تحت». الملف الأول تحت عنوان «الحلم الناصرى بالاستقلال»، ويضم عشرة مقالات تتناول ثورة يوليو وما تبعها من صعود للقومية العربية وكتلة عدم الانحياز الدولية وأزمة السويس التى توجت بالعدوان الثلاثى، وأيضا مشاريع النهضة وإنجازات ثورة يوليو وخيباتها على مستوى الحريات والديموقراطية.
الملف الثانى بعنوان «الركود الطويل لحقبتى السادات ومبارك» ويضم ستة مقالات حول انتصار أكتوبر وما تلاه من تقارب مع أمريكا، وتغير وضع الأقباط بين حماية الدولة واعتداء الإسلاميين، وتحقيقًا حول آثار مصر التى لا مثيل لها فى العالم، وآخر حول أوضاع الفلاحين وكفاحهم المستمر من حقبة إلى أخرى، ومقالاً للباحث الأمريكى جويل بينين عن إضراب 2008 الذى مهد لثورة يناير 2011، ومقالاً آخر لصوفى بوميير، الباحثة المتخصصة فى الشئون المصرية، حول تراجع دور مصر خارجيا خلال فترة مبارك.
الملف الثالث بعنوان «اسلاموية متجذرة» عن تاريخ ونشاط جماعة الإخوان المسلمين منذ تأسيسها على يد حسن البنا عام 1928، ويضم أربعة مقالات الأولى حول المواجهة بين عبد الناصر والإخوان، ثم عودة الإخوان إلى المشهد بعد وفاة ناصر وتولى السادات، ثم ازدياد شعبيتهم بعد «كامب ديفيد» وسياسة الانفتاح الاقتصادى. وأخيرا مقال عن «المراجعات المؤلمة» لفكر الإخوان.
الملف الرابع والأخير بعنوان «الثورة»، ويتناول فى سبعة مقالات أحداث ثورة يناير وتداعياتها المختلفة فى مصر على المستويين السياسى والثقافى، وتختتم المجلة بمقال كتبه آلان جريش عن لوحات الفنان التشكيلى حامد عبد الله بعنوان «مصور الأمل الحى دائما»، مزود بعدد من الصور لأجمل لوحات حامد عبد الله.
الثورة بين الناس اللى فوق واللى تحت
المقال الافتتاحى للعدد الذى يحمل عنوان «الناس اللى فوق.. الناس اللى تحت»، وهو يذكرنا بعنوانى مسرحيتين للكاتب نعمان عاشور تحملان هذين العبارتين، ولكن جريش اقتبسه فى الحقيقة من عبارة للمفكر الشيوعى الروسى فلاديمير لينين يقول فيها: «فقط عندما لا يرغب الناس الذين تحت فى الاستمرار، وعندما لا يستطيع الناس الذين فوق الاستمرار، فى مواصلة حياتهم وفقا للطرق القديمة، ساعتها فقط يمكن أن تنجح الثورة»!
وجهة نظر جريش، مثل كثير من اليساريين، ترى أن الإطاحة بالإخوان ربما تكون عودة إلى الوراء، إذا لم تمض مصر فى طريق الديمقراطية الحقيقية والإصلاح، وهو يرى أن العالم العربى لا يمكن أن يعود إلى ما قبل الثورات العربية مهما فعل أنصار الثورة المضادة، ومهما بدت الشعوب خائفة ونافرة من التغيير.
الملف الأول، كما ذكرت، يتناول الفترة الناصرية ويضم مقالا آخر لآلان جريش بعنوان «مصرى اسمه ناصر» يحمل الكثير من التقدير والحب لعبد الناصر ومواقفه المعادية للامبريالية الغربية.
يكتب إيريك رولو فى هذا الملف مقالا عن الصول التاريخية لأزمة السويس التى بدأت تقريبا منذ اليوم الأول للاتفاق على حفر قناة السويس بسبب الشروط المجحفة التى فرضها الفرنسيون، ولأن القناة نفسها حفرت من أجل تحقيق أهداف استعمارية حيث كانت تسعى فرنسا، ثم بريطانيا، إلى تقصير الطرق بين المستعمرات، وهو ما أثار حنق وجنون البلدين عقب اعلان عبد الناصر عن تأميم القناة.
تتضح هذه الأفكار أكثر من خلال المقال التالى الذى يتناول قصة فيردناند ديليسبس والإمبراطورة أوجينى مونتيجو التى أغرم بها الخديو إسماعيل ومشروع قناة السويس، وكيف أثرت هذه العلاقات الشخصية بين الثلاثة على مستقبل مصر وسقوطها تحت براثن الاستعمار بعد عدة سنوات!
المقال الرابع هو مجرد وثيقة لنصوص مؤتمر باندونج لدول عدم الانحياز الذى مثل ضربة قوية من مصر ويوغسلافيا والهند للدول الغربية المستغرقة فى حربها الباردة والساخنة ضد الكتلة الشرقية.
المقال الخامس كتبه إيريك رولو وهو أقدم مقال فى العدد حيث يعود تاريخه إلى عام 1956، ويتناول صعود القومية العربية فى عهد عبد الناصر ومدى الحب الذى حظى به الزعيم المصرى فى العالم العربى كله. ويكمل معنى هذا المقال مع قراءة المقال التالى الذى يرصد الجنون الفرنسى فى أعقاب قرار تأميم قناة السويس، وما نتج عن العدوان على مصر من انقسام سياسى حاد بين اليمين واليسار فى فرنسا. أما المقال التالى فكتبه إيريك رولو أيضا عن جنازة عبد الناصر الأسطورية التى حضرها بنفسه فى القاهرة.
المقالان الأخيران فى الملف هما أشبه بكشف حساب لإنجازات مشروع النهضة الذى قام به محمد على، ومشروع النهضة الذى قام به جمال عبد الناصر، بما لهما وما عليهما من إنجازات ومآخذ.
عهد الركود الطويل بين السادات ومبارك
الملف الثانى يختفى فيه هذا الشعور بالتأييد والزهو، ليحل محله إحساس بالقلق والترقب للكارثة أو الكابوس القادم الذى عاشت فيه مصر لأكثر من ثلاثين عاما خلال نهاية عهد السادات وطوال عهد مبارك. وذلك باستثناء المقال الأول الذى كتبته ماري- كريستين أولاس عام 1977 حول بدايات الصلح بين السادات وبين الأمريكان وإسرائيل منذ زيارة نيكسون لمصر عام 1974 وحتى زيارة السادات للقدس وبداية التفاوض على معاهدة السلام.
المقال الثانى فى الملف الذى يحمل عنوان «الأقباط بين حماية الدولة والإسلاميين» كتبته ويندى كريستيانسين ويتناول سياسة الدولتين الساداتية والمباركية فى اللعب بالملف الطائفى منذ أحداث الزاوية الحمراء وحتى مذبحة ماسبيرو، وهو من أطول مقالات العدد وأشملها فى تغطية الموضوع الذى يتناوله. ولا يزيد عنه طولا سوى المقال الذى يتناول مشكلة الفلاحين فى مصر عبر العهود السياسية المختلفة وصراعهم المتواصل ضد التهميش وضد القضاء على دورهم كطبقة رئيسية فى مجتمع زراعى بالأساس...وكيف تحول حلم الإصلاح الزراعى الذى دشنه عبد الناصر إلى كابوس يجثم فوق فقراء الفلاحين.
تتبلور أفكار المقالين السابقين فى المقال الذى كتبه جويل بينين عن إضراب العمال الذى هز مصر عام 2008 وكان إرهاصة لثورة يناير 2011، حيث شارك فيه عدد كبير من عمال المحلة وبعض المدن الأخرى بجانب أعداد كبيرة من الشباب المثقفين من مختلف التيارات السياسية.
يختتم هذا الملف بفصل عن السياسة الخارجية فى عهد مبارك ويبين كيف أن مصر لم تتراجع فقط على مستوى الاقتصاد والخدمات والحياة الكريمة بشكل عام، ولكنها تراجعت أيضا على المستوى الدولى بسبب سياسات مبارك الخارجية خاصة انبطاحه تجاه أمريكا وإسرائيل، وضعفه أمام الدول العربية، وخيبته فى إدارة علاقات مصر بإفريقيا وبقية دول العالم.
الملف الثالث يتناول، كما ذكرت، تاريخ الحركات الإسلامية وخاصة الاخوان المسلمين وعلاقتهم بالسلطة منذ عهد عبد الناصر وحتى ما بعد ثورة يناير.
المقال الأول يتناول صراع الاخوان وعبد الناصر، بينما يتناول المقال الثانى الذى كتبه المؤرخ عبد العظيم رمضان «أعوام السبعينيات التى شهدت عودة الاخوان إلى المشهد السياسى». وهو ما يتبين أكثر عبر المقال التالى الذى يرصد كيفية صعود الإسلاميين واستغلالهم لفقر المصريين البسطاء وجهلهم فى غياب دولة مبارك التى أقرت الفقر والجهل فرض عين على الشعب المصرى.
لو بطلنا نحلم...
تحت عنوان «لو بطلنا نحلم..» يفتتح آلان جريش الملف الرابع من العدد بمقال بديع عن ثورة يناير 2011، وحلم التغيير للأفضل الذى زرعه شباب الثورة فى ميدان التحرير وسائر ميادين مصر، وهو يتوصل من خلال تحليله إلى أن هذا الحلم لن يموت ولن يخبو مهما حدث، وهو ما يؤكده عنوان المقال التالى «الربيع العربى سيظل حيا إلى الأبد» الذى كتبه الباحث العربى هشام بن عبد الله العلوى. ومن خلال رصده لتداعيات الثورتين الكبريين فى تونس ومصر، من سيطرة للإسلاميين ثم ثورة ضدهم وانقلاب الجيش عليهم فى مصر، يتوصل الباحث إلى أن المسار النهائى للربيع العربى سيصب فى النهاية باتجاه الديموقراطية بفضل الوعى والشجاعة والرغبة الجارفة فى التغيير التى ولدت فى قلوب الشعوب العربية مع هتاف «الشعب يريد اسقاط النظام»!
مرة أخرى يكتب آلان جريش متتبعا تطورات ما حدث فى مصر من خلال مقاله «الثورة فى ظل العسكر»، الذى يتناول العلاقة المعقدة بين ثوار يناير وقادة الجيش الذين يتفقون غالبا فى الأهداف ولكنهم يختلفون فى التطبيق، ويعلن جريش عن تخوفه من استبعاد الشباب الذين قادوا الثورة وحلموا بها فى أى تسوية سياسية قادمة، مما سيجعل من الثورة إنجازا آخر لم يتحقق حتى الآن.
الفصل، أو المقال التالى فى هذا الملف يتناول فترة حكم الاخوان المسلمين باعتبارهم نموذجا للرأسمالية المتطرفة التى لا علاقة لها بالثورة وأهدافها، أما الفصل التالى فعنوانه «كيفية الخروج من عدم الاستقرار الذى ساد مصر منذ يناير 2011»، ويرى كاتبا المقال بيير هنرى وستيفانى لاكروا أن الطريق الوحيد للخروج من الوضع الراهن هو الانفتاح السياسى بأسرع ما يمكن على كل التيارات السياسية واحتواؤها داخل مشروع وطنى ديموقراطى شامل.
المقال التالى كتبه كريم إيميل بيطار عن موقف الولايات المتحدة الأمريكية الغامض والملتبس إزاء الثورات العربية، ثم الانقلاب عليها من قبل الإسلاميين، وما تبع ذلك من حركات معارضة ضد الإسلاميين، وفى كل من هذه الحالات تتخذ أمريكا موقفا برجماتيا متناقضا أحيانا، وهو موقف فى الغالب لم يعد يرضى أحدا من أطراف القوى المتصارعة التى تقف على طرفى نقيض.