احمد فايق يكتب : صلاح أبوسيف فى مذكراته: عشت حياتى بلا أب رغم أنه كان على قيد الحياة
أمى كسبت دعوى نفقة لكن لم يستطع أحد تنفيذ الأحكام لأن الزوج والأب والعمدة المستبد كان هو القانون
■ الجنس فى الأحياء الشعبية هو المحرك الرئيسى للأشياء والنساء تتعمد سكب مياه الاستحمام من باب الدعاية لفحولة الزوج
من الأوراق الخاصة لعادل حمودة كتاب لم ينشر بعد
شعرت هذه المرة بأن الكتابة متعسرة، لأنها فى عالمين، الأول صلاح أبوسيف هذا المخرج الرائد فى السينما المصرية والواقعية، والمعبر عن أحلام البسطاء، وحياة المصريين فى أفلامه، والعالم الثانى وهو تلك الوثيقة التى وجدها الأستاذ فى دولاب من الورق القديم، كنت محظوظا بالانتقال بين العالمين، عادل حمودة يكتب مذكرات صلاح أبوسيف وبخط يده؟!
تجمع بين جمال الشكل وسحر المحتوى، أكثر من 100 ورقة من الحجم الكبير تحمل مشاعر صلاح أبوسيف ببصمة عادل حمودة، وكأنك تقرأ حكاية وطن، لكن قبل هذا.. الورق مكتوب بخط جميل كأنك تقرأ لخطاط، السطور متساوية كأن «كيبورد» الكمبيوتر هو الذى صفها، والحروف واضحة وكأن فنانًا تشكيليًا سطرها، لو طبعت هذه الأوراق كما هى فى كتاب، ستكون قراءتها أكثر متعة من الكتابة الإلكترونية، أكثر من 100 صفحة تحمل الصفحة الواحدة 400 كلمة ليس بها كشط أو شطب واحد!
مقدمة الكتاب وقعت زمنيا بشتاء 92، فى وقت كانت المذكرات والسير الذاتية، لا تجرؤ على المكاشفة، ولا تتمتع بالشفافية، لكن هذه المرة اشترك عادل حمودة وصلاح أبوسيف فى تقديم درس فى الكتابة وسرد المذكرات والسير الذاتية، فقد حمل المحتوى نقدا للذات وكشفًا لتفاصيل كثيرة فى حياة أستاذ الواقعية فى السينما المصرية، وبدا عادل حمودة فنانا تشكيليا يرسم لنا لوحة مبهرة عن صلاح أبوسيف مزج فيها بين الخاص والعام.. الواقعية بالميلودراما.. النقد السينمائى بصحافة المكاشفة.. العلاقة المثالية بين الصحفى والمصدر التى لا تحوى نفاقا أو مواربة.. اجتماع عادل حمودة بصلاح أبوسيف فى مشروع كتاب لم يطبع حتى الآن يصنع عملا فنيا بجودة وعظمة «إنت عمرى» التى جمعت بين أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب.
هذا العام نحتفل ببداية عام مئوية رائد الواقعية فى السينما المصرية الذى ولد فى 10 مايو 1915، من خلال عرض لوحة فنية فريدة تحمل اسم مذكرات رائد الواقعية فى السينما المصرية، المذكرات أو الذكريات - حسب وصف عادل حمودة - كان يتم تسجيلها يوميا فى السابعة صباحا، كان من يدخل عليه فى مكتبه يجده مستيقظا، نشطا، وقد ارتدى ثياب الاستقبال، وأمامه ورقة كتب عليها رءوس الموضوعات التى سيتحدثون فيها.
لخص عادل حمودة شخصية صلاح أبوسيف فى مقدمة الكتاب فى مجموعة من الجملة المكثفة.. فى أرشيفه ستجد مقالات نقدية كتبها هو بنفسه عن أفلام لم يصنعها، فقد دخل السينما من باب الصحافة.. لا يميل إلى الموضة فهو محافظ بطبعه، يسكن فى حى عابدين وسط القاهرة على بعد خطوات من قصر عابدين الذى حكمت منه مصر، ينزل من منزله فى السابعة صباحا ويمشى 700 متر كى يصل إلى كافيتريا فندق «كوزموبوليتان» يتناول القهوة مع أصدقائه حكومة ظل الصباح يتبادلون الآراء والأخبار والشائعات، هو من الطراز الذى لا يشعرك بوجود فجوة بينه وبين الأصغر سنا، يؤمن بأن الموهبة ليست ورقة يانصيب، يرى أن كل مشهد يصوره المخرج هو لافتة تحدٍ فى وجه العصر، هو نجم حقيقى من طراز واقعى لا يعرف الوهم ولا الكذب، فى حين يرى عادل حمودة فى أول سطر بالمذكرات أن ثلاثة أرباع نجوم السينما من اختراع الصحافة من «شغلها» أو تطريزها على الأقل، صلاح أبو سيف والده كان عمدة لقرية فى صعيد مصر، كثير الزواج، وأمه كانت الوحيدة القاهرية بين الزوجات، هنا يقول «لقد عشت حياتى بلا أب.. لم أعرف حنانه مع أنه كان على قيد الحياة ولم أذق طعم رعايته رغم أنه كان ثريا، وأقامت أمى دعوى قضائية للحصول على نفقة وكسبتها، لكن لم يستطع أحد تنفيذ الأحكام لأن الزوج والأب والعمدة المستبد كان هو القانون».
هنا نرى مشهدًا مهمًا فى المذكرات لم يختلف كثيرا عن مصر الآن وكأننا عدنا إلى عصر الاحتلال الإنجليزى من الفساد، حيث يقول: حارة قسوات كانت صورة مصغرة من حى بولاق، وهو حى شعبى متواضع أغلب سكانه من العمال الكادحين، ويفصل هذا الحى عن حى الزمالك أرقى أحياء القاهرة كوبرى أبوالعلا، إن هذا الكوبرى ينقلك من عالم إلى عالم.. من النار إلى الجنة.. من قاع الفقر إلى ذروة الثراء، وقد عبرت عن هذا الانتقال فى فيلم «الأسطى حسن» الذى عرض قبل ثورة يوليو 1952 بشهر واحد فقط، وكأنه كان يحذر من ثورة الفقراء ضد الاستعمار والاقطاع الرأسمالى.
رأى صلاح أبو سيف فى طفولته الجنود البريطانيين على الجياد يخترقون أضيق الحارات فى بولاق ويعاملون الناس بقسوة وجليطة، وكانوا يهددونه فى الحارة بالعسكرى الإنجليزى لا بالغول أو العفريت، يقول صلاح أبوسيف: كانت أولى أمنياتى أن أعمل بالسياسة أو أدخل البرلمان أو أصبح زعيما من زعماء الأحزاب كى أحقق الاستقلال لبلادى والرخاء لشعبها.
لكن كيف كان يرى الحارة؟
أكثر ما لفت نظرى كان السرجة التى تعصر الزيتون والتى صورتها كما طبعت فى الذاكرة فى فيلم «شباب امرأة»، لكن أكثر ماشغلنى فى الحارة هو «الربع» وهو بيت كبير على شكل مربع أو مستطيل فى قلبه حوش، أشبه بمستوطنة يسكنه مجموعة من الناس ويعملون فى حرفة واحدة، حياة جماعية عجيبة، إن الجنس فى هذه الأحياء هو المحرك الرئيسى للأشياء وللأشخاص والتعبير قد يكون بالرمز، مثل تعمد سكب مياه الاستحمام من باب الدعاية لفحولة الزوج، الجنس عند الفقراء هو المتعة الممنوحة من السماء والتى لم يسرقها الأثرياء، وهو الشىء الوحيد تقريبا الذى يملكونه ويؤكدون به وجودهم.
فى داخل الحارة كان يسكن بعض أقاربه من الأغنياء كانوا من التجار الأثرياء، وله معهم حكاية: أولادهم فى مثل سنى ولكن كانوا يملكون أنواعا من اللعب يصعب حصرها ولم أكن أملك لعبة واحدة مثلها، بل لم أملك أى لعبة من أى نوع، وفى يوم كنت ألعب معهم فى قصرهم، وقبل أن أعود إلى بيتنا أخذت معى لعبة من اللعب، ولم أكد استقر فى فراشى، حتى جاء أقاربنا الأغنياء، واتهمونى بسرقة اللعبة، وأقاموا الدنيا وأقعدوها، وطالبوا بعقابى كلهم وبالفعل تعرضت إلى ضرب قاس من أمى، وخالى وفوجئت بذلك كله، فأنا لم أقصد السرقة، وكل ما حدث أننى أخذت جزءًا مما لا يحتاجونه، فالذى يستحق العقاب هم لا أنا.. ووجد أفراد العائلة فيما حدث فرصة للنقاش وسمعت لأول مرة كلمات مثل الشيوعية والاشتراكية والمساواة وحقوق البسطاء وتساءلت ببراءة الطفولة: لماذا لا يعطى الأغنياء ما يزيد على حاجتهم للفقراء؟ ولم أعرف إلا فيما بعد أن سؤالى أصعب سؤال واجهته البشرية طوال تاريخها الطويل، وأنه سيظل بلا إجابة شافية إلى أن تقوم القيامة.
ويعتبر صلاح أبو سيف أن الحارة بكل هذه التفاصيل كانت عالمه الخاص الذى فرض نفسه على أفلامه، عالم حارة «قسوات» كان موجودا فى «الأسطى حسن» و«شباب امرأة» و«بداية ونهاية» وغيرهم، إن مخزن الخبرة فى هذه الأفلام كان ذاكرة الطفولة، لقد قدم على الشاشة الدنيا التى يعرفها لم يكذب ولم يفتعل ولم يتخلق ما لا يعرفه.. ربما كان ذلك سر انفعال وحماس الجمهور لأفلامه.
الأم كانت هى الشخصية المفتاح فى السنوات الأولى وقد فعلت الكثير كى تنجو هى وعائلتها من براثن الفقر «كنت أنسب إلى خالى ناظر المدرسة الأعزب الذى كان يعيش معنا، كان هو رب المنزل، ولم أكتشف نسبى الحقيقى إلا عندما دخلت المدرسة الثانوية، وكان أن عرفت اسمى الحقيقى المكتوب فى شهادة الميلاد.. صلاح الدين أبوسيف مسعود فهمى، وأخذت بعض الوقت حتى انتبهت لهذا الاسم.
ذات يوم شعرت برغبة فى التزويغ من الدراسة المسائية ولكن كانت المشكلة كيف أعود إلى البيت قبل الموعد، وتسكعت فى شوارع القاهرة، وانبهرت بهذه المدينة، الشوارع العريضة النظيفة الفترينات التى تمتلئ بسلع لا أعرفها، المبانى المرتفعة الإعلانات الملونة، البشر الذين يمشون بحرية ولا أقول إباحية.. ولكنها.. كانت كذلك بالنسبة لصبى خرج للتو من بولاق، وصلت إلى حى عابدين وهناك لفت نظرى زحام شديد، حول مدخل مبنى غريب، مغطى بصور مثيرة وأمامه عربة كشرى، وباعة جائلون، كانت سينما إيديال ووقفت أشاهد الصور المعلقة فى مدخلها، وشدتنى الصور وأشعلت النار فى خيالى وأحسست بأننى كالمنوم فى السحر واندفعت إلى اكتشاف هذا العالم الذى لم أره فى حياتى.
فى اليوم التالى فى المدرسة نشرت اكتشاف السينما بين زملائى ولم يصدق البعض ما رويت فقررت الشلة أن تجرب نفسها وترى ما رأيت، وذهبنا إلى السينما نفسها، وفوجئت بعرض نفس الفيلمين، وكنت أظن أننى سأشاهد غيرهما، وعرفت أن تغيير العرض يتم أسبوعيا.