أحمد فايق يكتب : أرض الاحلام
في بداية التسعينيات أصيبت فنلندا بأزمة اقتصادية كادت أن تعصف بها، فقد انخفض الناتج القومي بنسبة 20% وتراجعت قيمة العملة المحلية الي40% وزادت معدلات البطالة الي 20%، كل هذا في دولة لا تمتلك بترول أو غاز أو أي موارد طبيعية، فالثلج يغطيها ثمانية أشهر في السنة، وفصل الصيف لديهم ثلاثة أشهر فقط، ولا يري مواطنوها الشمس إلا لساعات قليلة طوال العام، هذا بالاضافة الي الفساد المالي والاداري الذي استشري فيها،
وقمع الشرطة للمواطنين، وطبقة النبلاء أو رجال الاعمال التي احتكرت الاقتصاد الفنلندي، كما أنها شاركت في حروب وثورات كثيرة ضد الاتحاد السوفيتي أنهكت جميع مواردها، باختصار شديد كانت تشبه فنلندا مصر الان وطوال 30 عاما مضت، بل إن مصر تتمتع بمقومات وموارد أكبر بكثير من هذا البلد الشمالي.
فنلندا لا تمتلك قناة السويس ولا ثلث أثار العالم أو البحرين الاحمر والمتوسط، هي أيضا لا تمتلك المعادن أو نسبة من البترول والغاز مثل مصر، ولم يكن لديها نصف البنية التحتية المصرية أو نهر النيل ولا حتي مترو أنفاق، بل كان لديها الأهم من كل هذا وهو عقول تفكر وديموقراطية سياسية ومشروع قومي اسمه العدالة الاجتماعية، فأصبحت خلال عشر سنوات الأولي في العالم من حيث العدالة الاجتماعية والتعليم والصحة وأصبح شعبها الأكثر سعادة بين شعوب العالم، وبلغ متوسط دخل الفرد فيها 36 ألف دولار في العام.
ماذا فعلت فنلندا؟
أعتقد أن هذا هو السؤال الذي يدور بداخلك الان، أولا وضعت نظاما سياسيا نصف رئاسي، تتقاسم فيه السلطات بين رئيس الجمهورية والبرلمان الذي يشكل الحكومة، وقامت بإعادة هيكلة القضاء وجعلته مستقلا، ووضعت رقابة مدنية وقضائية علي الشرطة، ووضعت قوانين تجرم الفساد وكافحته بتطبيقه، ووضعت الدولة خطة لإعادة هيكلة جميع السياسات الاقتصادية الكلية والجزئية، من خلال ثلاثة محاور الأول تطوير البنية التحتية للاتصالات وتقنية المعلومات لتغطي جميع المدن والقري، والثاني تطوير التعليم عن طريق إعادة صياغة التعليم العام والجامعي وزيادة القدرة الاستيعابية للجامعات، والثالث زيادة استثمارات القطاعين العام والخاص في مراكز الابحاث والتطوير حتي بلغت في منتصف التسعينات 50% من مجموع الاستثمارات، كما قامت الدولة بتحوير بعض الصناعات القائمة باستحداث صناعات جديدة، مثل شركة نوكيا التي تحول نشاطها من صناعة الاوارق والاحذية للجيش السوفيتي الي التليفونات المحمولة، وبلغ حجم تجارتها الان 53 مليار دولار، كما قامت الدولة بزيادة فعالية كل قطاع صناعي عن طريق مراجعة وضع المصانع غير المنتجة بإغلاقها أو دمجها مع المصانع أخري منتجة، والأهم من ذلك أنهم فتحوا قناة اتصال مباشر بين الجامعات ومراكز الأبحاث والتطوير بما يتوافق والاحتياجات المستقبلية للشركات المحلية.
العدالة الاجتماعية في فنلندا تعني أنك تدفع ضرائب للدولة تبدأ من 15% وتصل الي 60% علي حسب مستوي دخلك، وفي المقابل إذا كان دخلك أقل من 1500 يورو في الشهر، فلا تدفع ضرائب للدولة، بل تحصل منها علي أموال، العدالة الاجتماعية تعني أن الدولة هناك توفر لك تأميناً صحياً مجانياً وتعليماً حتي الثانوية العامة مجانا أيضا، وإذا أردت الاستمرار في الجامعة فإنك تحصل علي قرض من البنك يكفي مصاريف تعليمك وإعاشتك، وتدفعه حينما تعمل وبلا فوائد، وتعطيك الدولة أيضا دعما للسكن والأثاث يصل الي 100% في بعض الاحيان، فهي إحدي البلاد القلية في العالم التي لا يوجد فيها فقراء، ومن حقك أن تحصل علي إجازة تفرغ لطفلك الجديد لمدة ثلاث سنوات، تعطيك فيها الدولة مصاريف الاعاشة والطعام، كما من حقك أن تقابل رئيس الجمهورية في أي وقت بطلب صغير علي باب منزله دون إجراءات أمنية معقدة، المفاجأة أن نسبة التسجيل لطلب مقابلة رئيس الجمهورية هناك ضعيفة جدا لأن المواطنين بلا مشاكل تقريبا.
ربما يرمي أحدكم الصحيفة جانبا قائلا بسخرية: ياعم المصريين شعب مش بتاع نظام ومش هاينفع معاهم الكلام ده، إحنا شعب عشوائي، أرجوك قبل أن تلقي الصحيفة جانبا، أريد أن أقول أن الجالية المصرية في فنلندا ناجحة جدا ومؤثرة، وأعرف فيها شابا سافر بعد انتفاضة الخبز غير مكتمل التعليم، ثم أصبح الان واحدا من كبار رجال الاعمال هناك وهو حسين علي ماهر، والذي يمتلك واحدة من أكبر شركات تجارة الاخشاب في العالم، فالمصري حينما يتم وضعه في نظام صحيح فإنه يصبح فرعونا متحضرا يدعو لـ«الفخر».
ملحوظة: لا تفكر في السفر الي فنلندا فليس هذا هو الحل، إنما نستطيع أن نجعل من مصر ألف فنلندا.