المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير

إسلاميات



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

أيها الإخوة المؤمنون... مع الحديث النبوي الشريف، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان ))

( رواه مسلم )

أعيد على أسماعكم الحديث مرةً ثانية:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان))

( رواه مسلم )

المؤمن القوي، القوي كلمةٌ واسعة، فقد تعني أنه ذو بنيةٍ قوية، لأن المؤمن القوي في بنيته يستطيع أن يؤدي العبادات التي فرضها الله عليه، يستطيع أن يقوم بالنوافل، يستطيع أن ينفع الناس، أن يعينهم، فالقوة إذا سُخِّرت في الإيمان ما أروعها، النبي عليه الصلاة والسلام لم يفصل القوة عن الإيمان، إذ لو انفصلت لكانت القوة أداة شر، وأداة تدمير، قال:

((المؤمن القوي ))

القوة يجب أن يسبقها الإيمان كي توجه توجيهاً صحيحاً، أما القوة البدنية، فإذا كان إنسان قوي، رياضي، له تدريبات قاسية جداً، له عضلات مفتولة، دَرَّب عضلاته على رفع أثقال، هذه القوة لو أنه استخدمها للعدوان على الناس، أو لإرهابهم، أو لأخذ ما ليس له بحق، إنه قوةٌ شريرة. ولكن المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف..

﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا﴾

كان قوي..

﴿ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ﴾

حياء الفتاة يمنعها من أن تقول لأبيها: يا أبتِ زوجني إياه..

﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)﴾

( سورة القصص )

رأته قوي، مفتول العضلات، سيدنا شعيب فهم قصدها فقال:

﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ﴾

وليس أن آجرك، هي قالت: يا أبتِ استأجره، قال:

﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي﴾

لذلك ما الذي يلفت نظر المرأة في الرجل ؟ قوته، فإذا إنسان اعتنى بصحته، كان شاب عمل تمرينات رياضية ما في مانع، بل هو شيء طيب لأن:

(( المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف))

فالإنسان الضعيف ربما تجاوز الناس عليه، ربما تطاولوا عليه، ربما أخذوا حقه وهو ضعيف، مسكين، مستسلم.

سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام رأى أحد أصحابه يتبختر في مشيته قُبَيْل إحدى المعارك، فقال عليه الصلاة والسلام:

((إن الله ليكره هذه المشية إلا في هذا الموطن))

القوة إذا جمعت إلى الإيمان كانت رائعةً في أداء المهمة.

الحقيقة كلمة (قوة) ربنا عزَّ وجل قال:

﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾

( سورة الأنفال: من آية 60 )

العلم قوة، والسلاح قوة للأعداء، وأن سيكون البلد متقدماً هذه قوة، أن يكتفي ذاتياً هذه قوة، فالقوة منوَّعةٌ، المال قوة، أن تكون في مكان مهم هذه قوة، يعني الوظيفة قوة، والمال قوة، والصحة قوة، والعلم قوة، وأن تكون لك سمعة طيبة هذه قوة، فالقوة مطلقة وليست مقيدة فربنا عزَّ وجل قال:

﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ﴾

لأعدائكم..

﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾

قوةٌ في الأبدان، وقوةٌ في الأموال، وقوةٌ في العلم، وقوةٌ في كل شيء، لكن القوة وحدها مدمِّرة، القوة تنفع إذا أضيفت إلى الإيمان، الإيمان قيد. فالمحرك قوة أما الأخلاق مقود، محرك من دون مقود دمار، اركب مركبة من دون مقود، وشغل على المئة وامشي، على الوادي مصيرك. فالقوة محرك لكن العلم والأخلاق مقود، تنجو من كل كارثة بالعلم والحكمة، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال:

(( المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ))

هذا كلام عام لكل أخ حاضر، يعني إذا أنت كنت تاجر، لا تنتزع إعجاب الآخرين إذا كانت تجارتك متخلفة، بضاعتك لم تحسن انتقاءها، أسعارها غالية، توضيبها غير جيد، فيها استوكات، فيها أخطاء كثيرة، تجد هذا يرجع لك البضاعة، وهذا يعاتبك، وهذا يلومك، وهذا يسخر من بضاعتك، لا يصير ذاك فسوف تفقد مكانتك، فإذا كان بالتجارة يجب أن تكون في القِمة ـ القُمة غير القِمة ـ إذا كنت بالصناعة كذلك، إذا كنت موظف دوامك، إنجازك لأعمالك بالتدريس، بالمحاماة، بالطب مثلاً، طالب بالدراسة لا يمكن أحد يحترم اتجاهك الديني إذا كنت كسلان، مستحيل، موظف مقصر إذا كنت تصلي وعليك سيماء الصلاح ومقصر بعملك، تأتيك توبيخات لا حصر لها، يتشفوا الناس منك فيقولون لك: هكذا صاحب الدين ؟! أول كلمة: هكذا صاحب الدين ؟! في حقل الدراسة، في حقل التدريس، في حقل الطب، في حقل الهندسة، في حقل المحاماة، في حقل التجارة، في حقل الصناعة، في حقل الوظيفة، في أي مكان إذا كان ضعيف، في تقصير، في خطأ بالصناعة، في عدم إتقان بالتجارة، في بالزراعة أمراض وأوبئة، ومزرعة فوضوية ومهملة، وغير معتنى بها، فأنت مؤمن ما عندك مكانة، أي إذا أنت كنت طالب، وكنت متفوِّق، وحكيت بالدين يسمع كلامك، إذا آخذ بالرياضيات اثنين من ستين وتعالى قل لواحد: الأخلاق والدين، يقول لك: اذهب واجتهد، روح ادرس قبل أن تحكي معي روح دبر حالك.

فإذا كنت طالب يا أخي الكريم لا تستطيع أن توجه إخوانك الطلاب إلا إذا تفوقت في الدراسة، طبيب في عليه أخطاء كثيرة، غير مهتم بتطوير معلوماته، معلوماته قديمة من سنة الستين، لا يفتح ولا كتاب ويقرأه، تكون الأدوية تطورت، والأبحاث تطورت، الناس ينفضوا من عنده، أخي مؤمن، فهل يكون المؤمن كسلان ؟ المؤمن معه بورد يكون، معه أعلى شهادة، فالقصد أنه لا تقدر أن تؤثر بالآخرين إلا بالتفوق، تتفوق تؤثر، تقصر لا تؤثر، فالنبي هكذا قال:

(( المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ))

سمعت ببلد عربي لاعب كرة من الدرجة الأولى، وقد تاب إلى الله، والتفت إلى الله التفاتة عالية وتركها، فاضطروا إلى مباراة دولية فذهبوا وترجُّوه فقال لهم: أنا لا ألبس قصير، على العين والرأس البس طويل، صار موضة الطويل، لاعب كرة لابس برمودة، هذا لو ما كان متفوق ما كانوا قبلوا منه هذا الشيء، كان يرفضوه، لأنه متفوق جداً، قبلوا منه هذا اللبس، فإذا كنت رياضي، إن كنت طالب، إن كنت مدرس، إن كنت مهندس، إن كنت تاجر، إن كنت صانع، لا تقدر تؤثر بالآخرين إلا إذا تفوقت في عملك.

لو إنسان كسب مال، المال قوة، تعطف على أرامل، تعطي أيتام، تقدم للجمعيات مساعدات، والجمعيات تقدم للفقراء، صار عندك قوة، المال قوة، معك شهادة عليا، معك شهادة جامعية والله معه ليسانس، معه كذا، معه كذا، إذاً العلم قوة، إما معك مال، أو قوة، أو منصب، أو شيء تتميز فيه.

فالمؤمن من دون قوة ضعيف، مستضعف، معتدى عليه، فالإنسان لابد من أن يكون متفوق، بعمله إذا تفوق يؤثر بجيرانه، إذا كان المحل التجاري فوضوي، والغبار هكذا سمكه، والبضاعة فوضوية، ويمكث ساعة ليجد لك الأغراض، أين الورق ؟ ما في ورق، روح هات من عند الجيران ورقة يا ابني، الورق وسخ، الميزان عليه سماكة من الغبرة، ما هذا التاجر ؟ أذن الظهر على الجامع، هذه الصلاة لا تتناسب مع القذارة، إذا كان المحل منتظم، مرتب، منظم، كل شيء مصفوف. فهذا الحديث دقيق جداً وفيه توجيه كبير:

((المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ))

لا تستطيع تنتزع إعجاب الآخرين إلا بالتفوق، والتفوق قوةٌ في الدين، فمتى يسمع منك ؟ إذا كنت قوياً، قوي في المال، قوي في الجاه، قوي في العلم، قوي في المكانة الاجتماعية، في تفوق في تأثير، فإذا الإنسان هدفه الكبير أن يهدي الناس لله عزَّ وجل فعليه أن يتقن عمله، أن يتفوق في دراسته من أجل أن ينتزع إعجاب الناس قبل أن يحدثهم عن دينهم.

سبحان الله القوة هنا جاءت مقترنة بالإيمان !! أن المال من دون إيمان مدمر، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام كان في الدرس الماضي موضوع الحديث:

ماذا ينتظر أحدكم من الدنيا ؟ هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً

فالغنى من دون إيمان مطغي. كأن يكون مظهره هكذا ظهر محني، ثياب رثَّة، ودروشة، وكلام فاضي، كله شغل سيدك، ليس هذا المؤمن، المؤمن أرقى من ذلك، المؤمن يعد لكل شيءٍ عُدَّته، كيف كان النبي في الهجرة ؛ استأجر خبير، اختفى في غار ثور، إنسان جاء بالمعلومات، إنسان محا الآثار، إنسان جاءه بالزاد، ما في ثغرة إلا غطَّاها، هذه القوة، قوة تدبير، قوةٌ في التدبير، قوةٌ في التصريف، قوةٌ في كل شيء.

(( المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير))

يعني أنت بالمال قد تصل إلى درجات عُليا في الجنة ؛ هذا عاونته، وهذا فرجت همه، وهذا دينته، وهذا المشروع ساهمت فيه، وهذا المستوصف ساهمت فيه، وجامع عمرت فيه، يعني شيء قوي، المال قوة، ما كان معك مال علم، تعلم وعلِّم، العلم قوة، وصلت لمنصب رفيع هذا المنصب قوة تعين الضعيف، لا تزهد فيه، قال:

﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)﴾

( سورة يوسف )

سيدنا يوسف، فالإنسان لا يكن متخلف، في الصف الأخير لا يؤثر، يجب أن تكون في الصف الأول في كل مجال.

(( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز))

أنت بعد تأمل وتدبر ترى أن هذه الدنيا فانية، والذي ينفعك هو العمل الصالح، أما المظاهر لا قيمة لها، فإذا تضاربت هذه المظاهر مع ما ينفعك، فضحي بها، أنت طبيب، يجوز تأتي بموظفة بالعيادة تأخذ منك ثمانمائة ليرة، أما موظف يريد ثلاث آلاف، ما الذي ينفعك ؟ أن تأتي بموظف، هذا الذي ينفعك في الآخرة احرص عليه، احرص على ما ينفعك، يجوز هذا العرس أو هذا الكتاب في الفندق أوجه لكن هذا خلاف الأصول، خلاف الشرع، خلاف الدين، خلاف القواعد الاجتماعية، فأنت احرص على ما ينفعك ودع كلام الناس وراء ظهرك، مَن عرف نفسه ما ضرَّه قول الناس فيه.

دعيت إلى نزهة فيها معصية لله، أخي أخجل أن أقول لهم لا، لاَ لا تخجل.. احرص على ما ينفعك... ..ينفعك ما تكون بهذه النزهة، ينفعك ما تكون بهذه السهرة، ينفعك ما تشتغل بهذه التجارة، ينفعك هذا المحل بهذا المكان لا تأخذه، يعني بطريق موبوء يمكن يذهب فيه دينك.

((احرص على ما ينفعك))

بدراستك، أخي هذه البضاعة غير رائجة، أما هي رائجة جداً وأرباحها طائلة لكن فيها معصية، احرص على ما ينفعك، ينفعك أن تطيع الله عزَّ وجل، ينفعك أن تكون عند الأمر والنهي، ينفعك أن يجدك الله حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك، هذا الذي ينفعك. فالمظاهر الاجتماعية، والإتكيت إن صح التعبير، وهذه الأشياء التي يسعى إليها الناس اجعلها وراء ظهرك.

مرة واحد قدم بعقد قران كتاب فبعض أهل الدنيا، لازم يقدم زبدية ثمنها مئتين ليرة، هذا كتاب، هذا علم، هذا يقرأ، هذا يستفاد منه، هذا يطبق، هذا يقرأه الأب، والأم، والزوجة، والأخ، والأخت، وابن الأخ، لا يهمك كلام الناس، قدِّم كتاب يا أخي، قدم كتاب أفد الناس فيهاا

((احرص على ما ينفعك))

ينفعك تحضر مجلس علم احرص عليه، أما أن تقول: الآن في عندنا موسم. النبي عليه الصلاة والسلام ينصحك أن تحرص على ما ينفعك لا على الغلة.

((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ))

الله عزَّ وجل العوام يقولوا (قم يا عبدي لأقوم معك) وأنت لما تكون طموح، وترى أن الأمر صعب، أو فوق طاقتك، فهذا كلام فارغ، الله معك، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْنَ إذا شئت سهلاً سهلاً سهلاً.

بالدراسة قل: يا رب. تأخذ أعلى الشهادات، بالتجارة قل: يا رب. الله يلهمك من درجة لدرجةٍ لدرجة. قال لي واحد: كنت بمستوى فارتفع مستواي، ارتفع ارتفع حتى أصبحت فيما أنا عليه الآن.

(( واستعن بالله ولا تعجز))

الأمر بيد الله عزَّ وجل، لأنه بيده استعن بالله، لا تعجز لا تقل: هذه فوق طاقتي، لا تيئس، لا تستسلم، لا تنهار معنوياتك..

﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)﴾

( سورة آل عمران )

ربنا عزَّ وجل يجب الجَسور، الجريء، المِلْحَاح، لكن إذا واحد طرق الباب طرقة فما أحد رد، فمشى، يكون غير ناوي يفوت، جاء رفع عتب، أما إذا كان حريص على أن يلقى صاحب البيت فإنه يصر، والله مرة شخص حريص على أن يلقى صاحب البيت قال لي: والله انتظرت من الساعة الثانية ظهراً للساعة الثامنة مساء على الباب واقف، حتى جاء، هكذا الحريص، له معه مبلغ وخائف أن يتصرف منه، وخوفوه منه، فاستناوله من وقت ما جاء، قال لي: انتظرت من الثانية إلى الساعة الثامنة. هذا الصدق، إذا كنت صادق هكذا تفعل.

(( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز))

قد يكون إنسان لا شيء، ولكن تجده تطور من حال لحال صار شيء مهم، صار شيء عظيم، الله رفع شأنك، رفع ذكرك، رفع مقامك، أخي أنا فيني أحفظ القرآن كله ؟ ممكن تحفظه، أنت استعن بالله ولا تعجز، أخي أنا بالأربعين، ممكن، ذهني ثقيل، ممكن، استعن بالله ولا تعجز، لا تقل: لا أقدر، هذه لا يقولها مؤمن. أخي أنا بيتي غير منضبط، لا أقدر عليهم، أنا أقول لك: استعن بالله ولا تعجز، معقول بعد أربعين سنة زوجتي تتحجب معي ؟ استعن بالله ولا تعجز، معقول هذا الجهاز أخرجه من بيتي ؟ معقول تقدر، معقول أن أترك هذه المصلحة ؟ ممكن تتركها، كثير في أشخاص كان معلق بمصلحة فيها شبهة، أخي استعن بالله ولا تعجز، اتركها، سلم المحل، أخذ مصلحة ثانية، فوفقه الله، إذا كانت مصلحة فيها شبهة، فيها معاصي فهل أنت مربوط معها ربط أبدي ؟! اتركها يا أخي، المحل سلمه. استعن بالله ولا تعجز..

الإنسان أحياناً يكون قبل معرفة الله عزَّ وجل يكون له عمل لا يرضي الله عزَّ وجل، بمصلحة، بعمل، ببضاعة، بطريقة تعامل، معقول أبيع نقدي وما أبيع بالدين، ونضيف السعر على الأجل، ممكن، أخي لا أحد يشتري مني، جرِّب استعن بالله ولا تعجز، جرِّب كيف، ممكن تبيع نقدي البضاعة، أخي هكذا المصلحة كلها دين، وكلهم يضيفوا على الدين بالمائة كذا كل ثلاثة أشهر، هكذا العادة، هكذا البلد، هكذا العرف، جوابنا: استعن بالله ولا تعجز، أنت كن متميز، اختار بضاعة جيدة جداً، أسعارها معقولة ومدروسة واطلب ثمنها نقد، تجد الناس تهافتوا عليك بعدها، معقول أبيع بسعر واحد ؟ ممكن جرِّب، تتعب شهر وبعدها يتعلموا الناس أن سعرك مدروس وواحد، ولا يفاصلوك أبداً.

هذا الحديث شيء خطير جداً، هذا الذي يبدو لك مستحيلاً ممكن يكون واقعي، أنا معقول أغض بصري، أنا أشعر أن قوة تجذبني للمرأة ؟ استعن بالله ولا تعجز، معقول تتفاهم أمي مع زوجتي ؟ ممكن، مستحيل أخي في بينهما ما صنع الحداد، ممكن استعن بالله ولا تعجز، يتفاهموا، اطلب من الله أن يعينك على أن توفق بينهما، ممكن، فكل إنسان يشكو لك قضية مستعصية وفي لها حل شرعي قل له: استعن بالله ولا تعجز.

(( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيءٌ فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا))

الغي لي كلمة (لو) من قاموسك، لو ما أخذنا هذه الصفقة ما كنا فلسنا، لو ما مشيت في هذا الطريق ما كانوا خالفوني، لو هذه السهرة ما سهرتها ما كنت أصبت، ضربوا رصاص في العرس فأصيب، يا ليته ما ذهب إلى العرس، لو ما عملت ما كان صار، هذه ( لو ) ألغيها لي، لأن الله عزَّ وجل إذا أراد شيء وقع وإذا وقع أراده الله، انتهى الأمر، إذا أراد شيء وقع، والآن وكل شيء وقع أراده الله عزَّ وجل ما في ( لو ) عندنا، هذه ( لو ) تدمر، أرأيت هذه الأرض عرضوها علي الدونم بألف ليرة، الآن ثمنها خمسمائة ألف، لو كنت آخذ مائة دونم يجمع على الآلة الحاسبة لكان معه ثمانين مليون، ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله، عرضوها عليه بألف ليرة، وكل دونم الآن بخمسمائة ألف، لا تقل ( لو )، لو أخذت فلانة، هذه التي أخذناها مريضة، معها مجموعة أمراض، وتلك كنت خاطبها وما صحَّت لي، هذه (لو) ألغيها لي، لا يقولها مؤمن. لو درست لصار معي شهادة عليا ما كنت بهذه المصلحة، ترتيب الله عزَّ وجل، لو ما درست لكنت الآن تاجر، الآن لا يكفي المعاش، أخي ما درس، أبوه ضربه طيارة ووضعه في مصلحة، فصار أغنى مني الآن، لو أني فعلت كذا وكذا.

(( لا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل.))

في رب حكيم عالم، أعماله كلها وفق الحكمة، والرحمة، والعدل، استسلم..

﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾

( سورة النساء: من آية 32 )

لا تتمنى لو كنت ابن فلان، انظر ابن فلان نزل من بطن أمه غني، أقام له بيت، ووضع له حصة بالمعمل، ما وعى صار عنده حصة من معمل، انظر فلان ولد من واحد فقير، هذا كلام الناس كلام فارغ، كلام يسبب متاعب للإنسان، كل هذا ألغيه، هذا الحديث إذا نحن طبقناه تماماً ما في عندنا مشكلة، ترضى عن زوجتك، وعن أولادك، وعن بيتك، وعن دخلك، وعن شكلك، وعن طولك، وعن قوامك، لو كان لوني على أفتح قليلاً يا أخي، أخي معلش خليك على أغمق قليلاً، سيدنا خالد ما كان فاتح ولكنه كان غامق لكنه دخل الجنة رملاً، هذا كذلك مع النساء يحدث، لو كنت هكذا بالناقص غطة، مشكلة، لو كانت غير هكذا، يريدها طويلة هذه أقل طول فالخطبة فكست، لو كنت على أطول لكان قبل، تندب حظها.

(( لا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإن كلمة (لو) تفتح عمل الشيطان))

هذا الحديث مهم جداً يجب أن يكون أمام أعينكم، ترتاح أعصابك، ترتاح خواطرك، ترتاح نفسك من التشهي، ومن الحرمان، من التمني، التمني والتشهي والحرمان كل هذا انتهى. رواه مسلم.

أعيد الحديث مرةً ثانية:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإن كلمة (لو) تفتح عمل الشيطان))

( رواه مسلم )

أولاً: إذا كان إيمانك قوي، وتريد أن تؤثر بالآخرين، فتفوق في عملك، أي عمل ؛ تجارة، صناعة، زراعة، وظيفة، طب، هندسة، تدريس، محاماة، في أي مهنة تفوق من أجل أن تؤثر في الناس، حتى ولو كنت طالباً، الطالب الكسول كلامه غير مسموع، ذات مرة طالب ملتحي ينقل، فسمع كلام من موجه ما هذا الكلام القاسي !! أنت صاب الدين تنقل، تغش في الامتحان ؟ لا تنتزع إعجاب الناس إلا بالتفوق، الأولي وصاحب الدين يحترموا دينك، يحترموا صلاتك، يحترموا اتجاهك. هذا أول توجيه.

ثاني توجيه: احرص على ما ينفعك، يعني لا تبحث عن المظاهر، المظاهر لا قيمة لها كلها وراء ظهرك، ابحث عن الشيء المفيد في حياتك.

رالشيء الثالث: استعن بالله ولا تعجز، أن تقول لي: لا أقدر، أخي لا أقدر أنا أطبق الإسلام مائة المائة، شيء صعب.

استعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل هذا الذي فعله بتقدير، إله حكيم، عليم، رحيم، عادل، سميع، بصير لطيف، كل أسمائه الحسنى في هذا الحدث.

((قدر الله وما شاء فعل فإن كلمة (لو) تفتح عمل الشيطان))

هذا الحديث اكتبوه واحفظوه واجعلوه أماكم دائماً.

* * * *

والآن، إلى متابعة الحديث عن سيدنا عمر رضي الله عنه.

سيدنا عمر كان أغلى أمانيه أن يظل عمر بن الخطاب، حاف لا شيء، كل أمانيه لا غير، فلا هو خليفة ولا هو أمير، ولقد اقتربت منه الخلافة إثر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر:

أنت أقوى مني يا عمر. الله يرضى عنهم يعرفوا قيمة بعضهم.

فقال له: أنت أفضل مني.

فقال: أنت أقوى مني.

فقال عمر: إن قوتي لك مع فضلك.

أنا قوتي بخدمتك وأنت الخليفة، وسارع فمدَّ يمينه وبايع أبا بكر وبايعه الناس على إثره.

لما سيدنا الصديق قارب يودع الدنيا عَهِدَ بالخلافة لعمر، وكان عمر يتقبلها مكرهاً وكارهاً ولولا أن يكون باعتذاره عنها في هذا الظرف الحرج الدقيق، هارباً من واجب المسؤولية، لرفض السلطان وهرب من الأمارة، قال: أيها الناس إني قد وليت عليكم، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم، وأقواكم عليكم، وأشدكم اطلاعاً بأموركم، ما توليت ذلك منكم، ولكفى عمر انتظار الحساب . انظر دقة الكلام:

أيها الناس إني قد وليت عليكم، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم ـ ليس خيرَكم، ليس هذا المعنى، يعني أنا أقدر أنفعكم أكثر واحد وليس أنا خيرٌ منكم، في فرق دقيق جداً ـ وأقواكم عليكم ـ بالحق ـ وأشدكم اطلاعاً بأموركم، ما توليت ذلك منكم، ولكفى عمر انتظار الحساب.

وفد عليه مرةً جماعةٌ من المسلمين النازحين، فسألهم عما صادفهم من أخبار الناس في البلاد التي مروا فيها، فقالوا:

ـأما بلد كذا فإنهم يرهبون أمير المؤمنين ويخافون بأسه، وأما بلد كذا فإنهم جمعوا أموالاً كثيرةً تنوء بها السفن وهم في الطريق بها إليك، وأما بلد كذا فإن بها قومٌ صالحين يدعون لك ويقولون: اللهم اغفر لعمر وارفع درجته.

ـفقال عمر معقباً على حديثهم: أما من خافني، فلو أريد بعمر الخير ما خيف منه، وأما الأموال التي تنوء بها السفن، فلبيت مال المسلمين وليست لي، ليس لعمر ولا لآل عمر فيها شيء، وأما الدعاء الذي سمعتم بظهر الغيب فهذا ما أرجوه.

الخائفين مني يظنوني ظالم، وهذا الخوف ليس لمصلحتي، والذين أرسلوا أموال طائلة على السفن، هذه الأموال ليست لي، بل لبيت مال المسلمين، أما الذي أحرص عليه دعاء هؤلاء، وأما الدعاء الذي سمعتم بظهر الغيب فذلك ما أرجوه.

حين دعي سيدنا عمر للقاء ربه واقتربت اللحظات التي سيودع فيها دنيا الناس، وكانت مشغلته الكبرى آن إذٍ اختيار الرجل الذي سيسلمه الأمانة والزمام، واقترب منه المغيرة بن شعبة قائلاً:

أنا أدلك عليه يا أمير المؤمنين.

قال: مَن ؟ يريد واحد يخلفه.

قال: إنه عبد الله بن عمر. ابنك.

هنالك انتفض عمر وقال: لا أرب لنا في أموركم، إني ما حملتها ـ يعني الخلافة ـ ولا أرغب فيها لأحدٍ من آل بيتي، إن كانت خيراً فقد أصبنا منه، وإن كانت شراً فبحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجلٌ واحد.

واحد عيَّنوه في قرية في محافظة في التعليم خمس أو ست سنوات فضاق خلقه، فقابل مدير التربية وقال له: أنت هنا لك مكانة عندنا، ونحن نحبك، وأنت غالي علينا، قال له: هذه المنطقة إذا كانت سكرة حليت منها، وإذا كانت حنظلة كفاني.

فقال سيدنا عمر: إن كانت خيراً فقد أصبنا منها، وإن كانت شراً فبحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجلٌ واحد. كفى واحد إذا كانت شر، ويسأل عن أمر أمة محمد، ألا إني قد جهدت نفسي، وحرمت أهلي وإن نجوت كفافاً لا وزر ولا أجر إني لسعيد، إذا نفدت بريشي، لا وزر ولا أجر إني لسعيد. حرمت أهلي، وجهدت نفسي، وأتمنى أن أنجو منها لا وزر ولا أجر وإني لسعيد.

ذات مرة سيدنا عمر قال لسيدنا عبد الرحمن بن عوف: يا عبد الرحمن لقد لنت للناس حتى خشيت الله في اللين، ثم اشتددت عليهم حتى خشيت الله في الشدة، وايم الله لأنا أشد منهم فرقاً وخوفاً فأين المخرج ؟

والله أنا خائف مثل حكايتهم، الناس خائفين مني وأنا خائف من الله عزَّ وجل، هكذا المؤمن الناس خائفين منه وهو خائف من الله عزَّ وجل، قال: والله لأنا أشد منهم فرقاً وخوفاً فأين المخرج ؟ وصار يبكي، فقال عبد الرحمن بن عوف: أفٍ لهم من بعدك، أي ما أصعب الذين سوف يأتون بعدك إنك قد أجهدتهم وقد أتعبتهم.

وذات يومٍ وهو جالسٌ مع أصحابه، اقتحم المجلس رجلٌ مكروبٌ تغشاه وعثاء السفر، وإذ يقترب من الناس ويراهم يقولون لأحدهم: يا أمير المؤمنين، فهذا الرجل يتجه صوب هذا الأمير ويقول له في مرارة:

ـأأنت عمر ؟

ـقال: نعم.

ـقال: ويلٌ لك من الله يا عمر. ثم يمضي لسبيله غير وانٍ ولا مكترث، ويلحق بعض الحاضرين بالرجل في غيظٍ منه وحمقٍ عليه، لكن عمر يناديهم ويأمرهم أن يعودوا لمجلسهم، ويهرول هو وراء الرجل، قال لهم: ارجعوا أنتم وويركض هو وراء الرجل، وفؤاده يرتجف، ألم يقل له الرجل: ويلٌ لك من الله يا عمر ؟ إنها الطامة إذاً، إنه الهول الذي لا يطيق عمر عليه صبراً، ويدرك الرجل، ثم يعود به ويسأله:

ـويلي من الله لماذا يا أخا العرب ؟

فيجيبه الرجل: لأن عمَّالك وولاتك لا يعدلون بل يظلمون.

فقال عمر: أيُّ عمالي تعني مَن هم ؟

ـفقال: عاملٌ لك في مصر اسمه عياض بن غنيم.

ولا يكاد عمر يسمع تفاصيل الشكوى، حتى يختار من أصحابه رجلين ويقول لهما: اركبا إلى مصر وأتياني بعياض بن غنيم.

قال: إذا رأيت أن تبصره يرتجف كعصفورٍ احتواه إعصار، فليس عليك إلا أن تقول له: ألا تتقِ الله يا عمر ؟ أي إذا أردت أن تجعل هذا الخليفة العظيم يرتجف قل له: ألا تتق الله يا عمر ؟

كان يدوي في أذنه الآية الكريمة:

﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)﴾

( سورة الإسراء )

طالما قال سيدنا عمر لأبي موسى الأشعري دعاه أن يتلو عليه بصوته العذب آياتٍ من القرآن الكريم، كان يقول اله: ذكرنا بربنا يا أبا موسى. فلو جمع ذواقوا الغناء في العالم، والله ما طربوا طرب مؤمن يستمع إلى كتاب الله من صوتٍ شجي، فكان سيدنا عمر من حين لآخر يقول له: يا أبا موسى الأشعري ذكرنا ربنا. فكلما قرأ سيدنا أبو موسى الأشعري كان عمر يستمع ويبكي، والبكاء مع تلاوة القرآن من علامات الإيمان.

وكان كثيراً ما يلقى الصبيان في طرقات المدينة، مرة قلت لكم: أنه لقى الصبيان مجتمعين، فلما رأوه تفرقوا إلا واحداً منهم، فلفت نظر سيدنا عمر قال:

يا غلام لمَ لم تهرب مع من هرب ؟

ـفقال له: يا أمير، لست ظالماً فأخشى ظلمك، ولست مذنباً فأخشى عقابك، والطريق يسعني ويسعك.

وكان كلما رأى الصبيان يقول لهم وعيناه تفيض بالدمع: ادع لي يا بني، فإنك لم تذنب بعد، نفسك طاهرة فادع لي.

ساعة الموت قال لابنه عبد الله: يا عبد الله خذ رأسي عن الوسادة وضعه فوق التراب، كانوا يضعوا له رأسه على الوسادة فقال له: ضع رأسي على التراب فلعل الله ينظر إلي فيرحمني.

قال: كان شديد الخوف على حياته السابقة أن تغيِّرها خطيئة، أو تعيبها شبهة لأنها لو كانت ملكاً له لوجب عليه أن يربأ بها عن كل سوء، فكيف وهي في تقديره ليست حياته، وليست ملكه، إنما هي وديعة الله عنده، والله صاحبها ومالكها ولسوف يسأل عنها

﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾

( سورة المؤمنون )

كان هذا الخليفة العظيم لا ينام الليل إلا غباً، ينام نوم قليل، في نوم قاتولي وفي نوم على الخفيف، لا ينام إلا غباً، ولا يأكل إلا تقوتاً، أي شيء يقيم صلبه، ولا يلبس إلا خشناً، يقظان دائماً، يقول: أنا إذا نمت الليل كله أضعت نفسي، وإن نمت النهار ضيعت الرعية.

وإذا غشيته من مظنة التقصير غاشية، صاح صيحة مكظومة: يا ليت أم عمر لم تلد عمر ليتها كانت عقيماً.

ومرة مع أصحابه الله يرضى عنه، واحد أحب أن يتقرب منه ويتملقه فقال له:

ـوالله يا أمير المؤمنين ما رأينا خيراً منك بعد رسول الله.

فسيدنا عمر نظر فيهم واحِداً واحداً بحدةٍ ما بعدها حدة، وكأنه يريد أن يأكلَهم واحداً واحدا، إلى أن قال أحدهم:

لا والله، لقد رأينا من هو خيرٌ منك.

قال له: من هو ؟

قال: أبو بكر.

ـقال: كذبتم وصدق. هؤلاء الذين سكتوا عدهم كاذبين لأنهم سكتوا، وهذا الذي قال: والله لقد رأينا من هو خيرٌ منك، هذا الصادق، قال له: والله كنت أضل من بعيري وكان أبو بكرٍ أطيب من ريح المسك. فهذا التواضع، من جهة تواضع، ومن جهة ما بقى يسترجي إنسان بعد هذا الإنسان يتملقه، يمدحه.

هكذا كانت أخلاق هذا الخليفة العظيم، ولاحظتم أبرز شيء في تواضعه، أبرز شيء: كنت راعِياً عند خالاتٍ لي من بنات مخزوم أرعى غنمهن على حفنةٍ من تمر، كنت وضيعاً فرفعني الله، كنت فقيراً فأغناني الله، كنت كذا، لم تقول هذا الكلام ؟ قال: نفسي حدثتني إنك أمير المؤمنين، وليس بينك وبين الله أحد، وأنت أفضل الناس فأردت أن أعرفها قدرها أمام الناس، الخاطر جاءه سري داخلي فرد عليه رد خارجي، هذا التواضع.

انظر إلى الأكحال وهي حجارةٌ لانت فصار مقرها في الأعين

* * *

هذه سيرة بعض أصحاب رسول الله، إذا نحن قلدناهم واحد قال: من قلد عالماً لقي الله غانماً، ولقي الله سالماً، فإذا الواحد قلد أصحاب رسول الله، هذا التواضع، كن واقعي، كن متواضع، اعرف قدرك، خاف من ربك، كلما عرف الإنسان ربه أكثر يخاف أكثر، إذا واحد ما قرأ طب، لا يسأل أي شيء يشربه، أما الطبيب يخاف، يعقم هذه، ويخاف ويقول: غسلتموها ؟ على ما قد يرى جراثيم بالمجاهر، وأرى أمراض، وأوبئة، وعدوى، فمعرفته تجعله يخاف، والإنسان إذا عرف الله عزَّ وجل يخاف أكثر.

* * *

والحمد لله رب العالمين