أحمد فايق يكتب : راشد الغنوشى «لقيط » ينتظر رصاصة الرحمة فى الفيلم التونسى «باستاردو»

مقالات الرأي


الصراع بين الأنظمة المخلوعة والإخوان على الحكم هو بين رجلى أعمال على توكيل شركة سيارات

المشهد كان غريبا بعض الشىء، نحن مجموعة من أربعة افراد، اختارتهم إدارة مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط، فى لجنة تحكيم الفيلم القصير، وهم إسماعيل مارتين مدير مؤسسة الفيلم القصير مدريد إسبانيا، والفنان التشكيلى المغربى عبد الكريم الوزانى والنجمة المغربية سامية اقريو، فى بداية المناقشات وقبل مشاهدة الأفلام، كنا نبحث عن لغة تجمعنا، بإحصاء بسيط وجدنا أن ثلاثة منا يتحدثون العربية، وثلاثة يتحدثون الإنجليزية، وثلاثة يتحدثون الإسبانية، واثنين يتحدثان الفرنسية، وفى النهاية قررنا أن يتحدث كل واحد منا اللغة التى يحبها ويستطيع التعبير بها، ويتولى الآخرون الترجمة، كان بيننا المسلم والمسيحى، بيننا العربى والغربى، ثقافاتنا متنوعة ومتعددة، لهجاتنا داخل كل لغة مختلفة، وبعد ساعات من النقاش، وجدنا أنفسنا جميعا نتحدث نفس اللغة، ونعانى نفس المعاناة، ولدينا نفس الاحلام، ونشكو نفس الشكوى، نرى أفلاما تعبر عنا، يجمعنا هم إنسانى واحد، نحن جميعا من فرنسا وإسبانيا وإيطاليا والمغرب ومصر أبناء الطبقة المتوسطة، نعانى من أنظمة تنحاز للأغنياء على حساب الفقراء، ندفع الثمن ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا أمام طبقة تحكم العالم كله، تتحكم فى وسائل الإعلام، تمول برامج مرشحى الرئاسة، وتقتل أحلامنا.

إسماعيل مارتين له قصة طريفة، فهو ليس له أية جذور عربية، ولكن والده كان يحب اسم إسماعيل، فاختاره له، وعاش فى إسبانيا طوال عمره يعتقد الجميع أنه من جذور عربية، تحدث معى إسماعيل عن اجتماع سنوى يحضره 100 من كبار المديرين التنفيذيين فى أضخم بنوك العالم، هؤلاء يضعون سيناريوهات المستقبل للعالم كله، يعملون لخدمة رأس المال، يضعون سيناريوهات الحروب والتحالفات بين الدول، يقررون رفع اقتصاد دول معينة على حساب دول أخرى، هؤلاء هم أباطرة العالم الجدد، الذين يتفوقون على سادية هتلر وعنف نابليون وهمجية موسولينى، ورغم ذلك يرتدون أفخم أنواع الملابس ويضعون أفضل العطور، لم يتلقوا تدريبات فى الكليات العسكرية ولم يشاركوا فى حروب، فكلياتهم العسكرية هى أقسام إدارة الأعمال، لقد ذقنا بعضهم فى مصر ومازلنا نعانى منهم، نعرف منهم جمال مبارك وأحمد عز ولجنة السياسات، خيرت الشاطر ورجال أعمال الإخوان، السفاحون الجدد فى العالم يحولون آلام ودماء الإنسانية إلى لعبة الأرقام.

هل جربت أن تشاهد ابنك أو ابنتك يستمتعان باللعب على هواتف الجيل الثالث من المحمول؟

هل تعلم أهمية هذه الهواتف فى حياتنا الآن.. وهل تعرف المليارات التى يتم ضخها فى جيوب أصحاب هذه الشركات؟

بالتأكيد كل هذا معروف للجميع، لكن هل تعرف أن هناك 5 ملايين و400 ألف إنسان دفعوا حياتهم ثمنا كى تمتلئ جيوب أصحاب شركات تصنيع التليفون، وأن تشعر سعادتك بالارتياح والرفاهية، هذا حدث فى الكونغو تلك الدولة الأفريقية التى تدفع يوميا 1500 قتيل فى الصراعات المسلحة من أجل الثروات الطبيعية مثل «القصدير» و»النيكل» الذى يستخدم فى تصنيع المحمول، والذهب واليورانيوم والماس، أبناء هذه الدولة الفقيرة يقتلون يوميا من أجل 12 شركة عالمية تتحكم فى مصيرهم، وتقتل أحلامهم.

هذه الحقيقة ستكتشفها سريعا حينما تشاهد الفيلم الأمريكى «ثقافة المقاومة» للمخرجة «إيرا لى»، الفيلم فى حد ذاته هو حالة مختلفة، فالمخرجة برازيلية من أصل كورى، وشارك فى عمل الفيلم مئات من النشطاء السياسيين على مستوى العالم، ينتمون لشبكة تسمى «ثقافة المقاومة»، هؤلاء يتظاهرون سنويا فى نفس التوقيت فى اليوم العالمى للسلام، ويقيمون فعاليات فنية ومهرجانات لمقاومة كل ما هو قاتل لبسطاء الكرة الأرضية، فالعالم يحكمه رجال الأعمال، والأنظمة تخدم فقط مصالح الشركات الكبرى، والثروات يحتكرها نصف فى المائة من سكان الأرض، والبقية يتصارعون على 3% فقط من الثروات.

الفن هو أفضل طريقة للمقاومة، ففى التترات الأولى نسمع موسيقى تمزج بين مختلف ثقافات الأرض وغناء بمختلف اللهجات بداية من اللهجة الأصلية لسكان نهر الأمازون وحتى اللغة العربية، وتظهر على الشاشة مجموعة من الكلمات أصبحت تشكل ثقافتنا الآن وتتحكم فى حياتنا منها «إمبريالية.. الدم للجميع.. دولة الإرهاب.. جرافيتى.. هيب هوب.. راب.. رقص.. ملتى ميديا.. تعليم.. الماس الدموى.. فيديوهات.. أفلام.. احتلال.. فن.. ثقافة.. كوميديا.. كومكس «.

هذه المفردات البسيطة شكلت وجدان الفيلم كله، وخلقت عالمه الذى نعيشه بكل تفاصيله، هو رحلة ممتعة فى أكثر من 14 دولة، بدأت فكرتها فى عام 2003 أثناء حرب العراق، حيث شعرت المخرجة أنها بحاجة للاكتشاف أكثر، ومن المشاهد الأولى نرى وقفات سلمية فى يوم السلام العالمى فى أكثر من دولة، فى سيراليون نرى أطفالا يعلقون لافتات مكتوباً عليها «لا سلام بدون عدل»، فى أمريكا نرى مجموعة من المحتجين يتقدمهم رهبان بوذيون، ومشاهد أخرى لمتظاهرين فى أفغانستان واليونان والارجنتين، ولافتات معلق عليها «لا سلام مع الدبابات والمسدسات».

فى دول حوض نهر الأمازون تدفع الشعوب حياتها من أجل شركات البترول الأمريكية التى ألقت 68 مليون متر مكعب نفايات سامة فى النهر، وقامت باقتلاع 20% من أشجار الغابات.

فى نيجيريا ثار أهل قرية «إيجو» ضد مافيا البترول فى العالم «شيفرون الأمريكية وشل الهولندية وأجيب الإيطالية وتوتال الفرنسية»، فقد قتل التنقيب عن البترول والغاز الأسماك والحياة فى دلتا نيجيريا، الأطفال يموتون يوميا بالسرطان، والفقر يحيطهم، قاوم أهل «إيجو» باستخدام كل الوسائل بداية بالموسيقى وحتى الصراع المسلح.

فى رواندا قتل مليون مواطن فى 100 يوم فى مذابح الهوتو ضد التوتسى، واغتصبت آلاف النساء، الآن يوجد 100 ألف مسجون بتهمة الإبادة الجماعية، ويعيدون البناء من خلال الاتحاد والمصالحة ومهرجان «فيسباد» الذى يجمع 300 فنان من 20 دولة أفريقية يدعون للتسامح بالرقص والموسيقى.

فى إيران تفضح فرق الراب مذبحة الهجوم الكيميائى على «حلبجة» التى قتل فيها 15 ألف كردى، وفى البرازيل يحارب الفنان الشهير كارلوس لتوف الشرطة والقمع بالرسوم الكارتونية، وفرقة موسيقية حولت البندقية الآلية إلى جيتار للعزف، والرصاص إلى أحمر شفاه للتجميل.

فى الفيلم التونسى الجميل «باستاردو» والذى فاز بالجائزة الكبرى لمهرجان تطوان لسينما البحر الابيض المتوسط، نرى إعادة طرح راق لما حدث فى تونس، هى نفس حكاية مصر، وحكاية كل ثورة حدثت فى العالم العربى، نفس الصراع الأزلى بين نظام قديم بوجهه القبيح، ونظام «لقيط» ركب على هموم البسطاء، ويتحكم فى كل شىء، والصراع بينهما ليس على شىء سوى على المال والنفوذ والبزنس، الصراع بين نظام بن على ونظام راشد الغنوشى فى تونس نفسه الصراع بين نظام مبارك والإخوان على ثروات مصر.

«باستاردو» تعنى «اللقيط» أو ابن الشارع، فالأحداث تبدأ من صراخ طفل صغير تم إلقاؤه فى الشارع، ويتبناه أحد أبناء الحى، وينمو هذا الطفل داخل الحى، والجميع يلقبونه «باستاردو» أو اللقيط، ليس لديه سوى صديق واحد وهو سائق التاكسى الذى يشرب الخمور ويحب الحياة، داخل الحى نرى نموذجا مصغرا للمجتمع التونسى، هذا الرجل ذو الوجه القبيح وأمه الأكثر قبحا، يتحكمان فى الحى يحتكران أمواله، يجمعان «إتاوة» من البسطاء، علاقة الابن بالأم تشبه علاقة محمد مرسى بالجد فى فيلم «شىء من الخوف»، فالابن كان إنسانا يخشى الدماء، يحب حياة الأرانب ويتناول الجزر، لكن أمه صنعت منه ديكتاتورا فاشيا يعشق الدماء، يقتل الآخرين، ومشاهد الابن والأم امتلأت كثيرا بالقذارة التى تعبر عن قذارة نظام بن على الذى تدينه الأحداث، وفى حكى مواز نرى هذا اللقيط، الذى تبدو شخصيته خادعة لك يبدو فى البداية مثقفاً ومتنوراً، لكن مع الأحداث تكتشف أنه يحمل حقدا تجاه من حوله، ويريد أن ينتقم من الجميع، قذارته ليست خارجية مثل نظام بن على، لكنها داخلية ولا تختلف كثيرا، وهو يرمز للشيخ راشد الغنوشى مرشد جماعة الإخوان المسلمين فى تونس.

أبناء الحى يعانون من الجهل والفقر والمرض، بسطاء لا يعرفون شيئا، لكنهم يستجيبون دائما للقوى، وفى مشهد جميل نرى دخول أبراج المحمول إلى الحى، ورغم أن كل السكان لا يجدون قوت يومهم، إلا أنهم يشترون التليفون المحمول كأنهم رجال أعمال، ويقيمون احتفالات ضخمة لدخول المحمول حيهم العشوائى، ليوضح المشهد الثقافة الاستهلاكية للشعوب العربية، ويبدأ الصراع بين نظام بن على والغنوشى على بيزنس المحمول الجديد، فالصراع هنا ليس سياسياً أو أيدولوجياً إنما صراع مصالح بين رجلى أعمال كل واحد فيهما يريد أن يمتص دماء الشعب، وبين الاثنين فتاة تعبر عن البسطاء من الشعب، لديها قدرات غريبة، فجسدها جاذب لجميع أنواع الحشرات، يتعامل معها الجميع باعتبارها كائناً قادماً من المريخ مثير للاشمئزاز، هذه الفتاة وجهت ضربة قوية للوجه القبيح لنظام بن على، الضربة لم تقتله لكن وضعته بين الحياة والموت، وينتظر الجميع منها أن توجه نفس الضربة لنظام راشد الغنوشى، وتبقى الرسالة الاساسية فى الفيلم أن الوضع تحت تصنيف هدوء حذر يسبق الكثير من الدماء، نظام «بن على» بوجهه القبيح يتداوى ويجهز نفسه للعودة مرة أخرى مع محاولات لتجميل الصورة، ونظام راشد الغنوشى الذى شاخ فى أيام قليلة منتظرا رصاصة الرحمة من داخله، أو ضربة سكين مميتة أخرى من الفتاة، والأهم من كل ذلك أنه لا فارق بين الاثنين، فالصراع فى تونس وغيرها من دول الربيع العربى أشبه بصراع رجلى أعمال على توكيل شركة سيارات غربية...!

الفيلم يحمل نفسا وروحا مختلفة عن السينما التونسية، إيقاعه سريع وقطعاته حادة، وطريقة الطرح أكثر قربا من السينما الأمريكية عالميا والسينما المصرية فى الشرق الأوسط، وتستطيع أن ترى الفارق بين الأسلوبين فى فيلمين الان يعرضان فى صالات العرض بتونس، «باستاردو» لنجيب بلقاضى هذا الشاب الثلاثينى الذى يحمل طزاجة جيل جديد فى السينما التونسية وبين «الأستاذ» للمخرج محمود بن محمود الذى يتعامل مع الدراما بشكل كلاسيكى يعبر عن جيل الأساتذة فى السينما التونسية.

إن «باستاردو» هو وثيقة إدانة ضد أنظمة تتصارع على امتصاص دماء الفقراء، مثل الفيلم الإسبانى «بدون جواب» إخراج انطونيو دى بالو، والذى عرض فى مسابقة الفيلم القصير بمهرجان تطوان لسينما البحر المتوسط، وتدور أحداثه حول سيدة تعمل فى أحد البنوك فى وظيفة غير إنسانية، وهى إبلاغ العملاء المتأخرين عن سداد القروض برسالة تحذيرية، ومطاردتهم حتى يدفعوا المتأخرات، وظيفة تضطرها إلى أن تسمع آلام هؤلاء، وطريقة معاملة سيئة معها، فهى بالنسبة لهم تمثل المؤسسة التى تمتص دماءهم وتنهب أموالهم، نراها فى لحظات خاصة تتحول من آلة إلى إنسانة تشعر بآلام من حولها، ثم تتحول نفسها إلى فريسة لبنك آخر يطاردها بحثا عن امواله التى لديها، وهو نفس الإطار الذى يدور فيه الفيلم اليونانى «نخلة واشنطونيا» إخراج كونستاتينا كوتزامانى، حيث ترمز كلمة «واشنطونيا» إلى اثينا القديمة، فى غابة تتعرض جميعها لخطر الزوال بسبب هجوم الأمراض عليها، إلا أن واشنطونيا نخلة مختلفة لا يستطيع أحد القضاء عليها لأن قلبها جاف وقاسية، الفيلم يطرح بشكل رمزى الأزمة الاقتصادية التى تعانى منها اليونان، وتلك الطبقة التى تأكل الأخضر واليابس، ولم يتبق من المدينة سوى أطلال، وبقت واشنطونيا أو اثينا أو حضارة سابقة رمزا للوقوف أمام هؤلاء...!

لكن هذا لا يمنع صراع الحضارات وتلك الازدواجية التى يعانى منها المهاجر، وحالة الاغتراب، خاصة العرب فى فرنسا، ففى الفيلم الروائى الفرنسى القصير «زكريا»، نرى مشاعر الأب الذى يعيش فى فرنسا بين جذوره الجزائرية وبين واقعه الفرنسى، واللبنة التى تعتبر نفسها فرنسية ولا علاقة لها بوطنها الأصلى، هذا التناقض نراه فى حياة الأب العادية الذى يستمع للموسيقى الجزائرية فى سيارته فقط، ويتعامل بالفرنسية فى منزله ومع ابنته، يعيش حياة فرنسية كاملة، لكنه لا يريد لابنته الارتباط بشاب فرنسى، ويفضل عليه الشاب ذا الأصول العربية، علاقته بابنته متوترة، مثل هذا التوتر الذى نراه واضحا فى الصورة، والألوان الباهتة التى تعبر عن حالة الاغتراب، وفى طرح مشابه نرى الفيلم المغربى «حمى» للمخرج هشام عيوش، وهذا المراهق الذى يكتشف أن له أب من أصل مغربى، لتبدأ رحلة التعارف بين الهوية الفرنسية الكاملة فى الجيل الجديد والأصول المغربية، الصراع الذى وضع السيناريو له نهاية شديدة السواد وهو قتل العجز، معتبرا أن الاصل العربى هو نقطة الضعف والعجز متمثلا فى شخصية العم، والذى يعانى من التخلف العقلى، لكن ملامح وجهه تحمل الكثير من البراءة، ويقتله هذا المراهق الفرنسى فى مشهد يجمع بين الرحمة من جانب وقتل العجز من جانب آخر، وبما أن الفكرة بدت معقدة وفلسفية، فقد كان التصوير يتوازى معها بكادرات خارجة عن المألوف وسرد «سيكوباتى».