الطاقة الروسية في مواجهة العقوبات الأوروبية والأمريكية

عربي ودولي


في ظل تصاعد الضغوط السياسية الغربية والأمريكية على روسيا ودعوة الاتحاد الأوروبي لموسكو للبدء بخفض التصعيد في أوكرانيا، بعد ضمها لشبه جزيرة القرم، باتت ورقة الغاز الروسي من الأوراق المؤثرة في العلاقات بين روسيا وأوكرانيا، وهو عصب حساس بالنسبة لكييف ذلك لأن الكثير من الصناعات الأوكرانية تعتمد على الغاز الروسي لاسيما السماد واستخراج وتنقية المعادن، لذلك تستخدم موسكو الغاز كورقة ضغط على كييف.

فقد ألغت روسيا هذا الأسبوع العمل بتخفيضين للأسعار كانت تمنحهما لأوكرانيا على تسليم الغاز، الذي تعتمد عليه كييف كثيرا، وخلال 72 ساعة ارتفعت الأسعار من 268 إلى 485 دولارا لكل ألف متر مكعب أي السعر الأعلى في أوروبا.

وكان رئيس شركة الغاز الروسية غازبروم الكسي ميلر قد أعلن أن أوكرانيا يجب أن تسدد مبلغ 11.4 مليار دولار، بعد أن تم إلغاء اتفاق خاركيف الموقع في أبريل 2010، والذي مدد حتى عام 2014 استخدام الأسطول الروسي في البحر الأسود قاعدته في سيباستوبول في القرم.

وكانت موسكو قد قطعت إمدادات الغاز عن أوكرانيا مرتين بين 2005 و2006 وبين 2009 و2010 خلال نزاعات بينهما، وقطعت بالتالي الصادرات نحو أوروبا التي تعتمد كثيرا على روسيا في هذا المجال، وتؤمن شركة غازبروم ـ عملاق الغاز الروسي ـ نحو ثلث إمدادات الاتحاد الأوروبي ويمر نحو 40 % من هذا الغاز عبر أوكرانيا.

ويبدو أن الاقتصاد الأوكراني يمر بأسوأ أزمة اقتصادية منذ بداية أحداث القرم، الأمر الذي يحتم على دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مساعدة كييف حتى لا ترتمي في أحضان موسكو، فقد حذر عدة وزراء أوروبيين من مخاطر انهيار اقتصادي أو سياسي في أوكرانيا فيما راجع البنك الدولي توقعاته لأوكرانيا .. مؤكدا أنه يتوقع انكماشا بنسبة 3 % لسنة 2014 إثر زيادة أسعار الغاز الروسي، كما خفضت وكالة التصنيف الائتماني موديز من جديد درجة ملاءة كييف من سي إيه إيه2 إلى سي إيه إيه3 بسبب تصاعد الأزمة السياسية في البلاد وعلى الرغم من دعم صندوق النقد الدولي، وهذه الدرجة تجعل الدين الأوكراني في نظر المستثمرين غير آمن.

ومن هنا تلوح أوروبا وأمريكا بالعقوبات السياسية والاقتصادية على موسكو، وبات السؤال المثير للنقاش هو هل ثمة جدوى من هذه العقوبات ومدى تأثيرها على الجانبين.

جدوى العقوبات وتأثيرها:

تشير الأرقام الاقتصادية على موقع المفوضية الأوروبية إلى أن العلاقات الاقتصادية لروسيا مع الاتحاد تتخطى بكثير حجم العلاقات التجارية والاقتصادية لروسيا مع أمريكا.

فحسب تقديرات عام 2012 بلغ حجم التبادل التجاري السلعي بين روسيا والاتحاد الأوروبي 335.9 مليار يورو (468 مليار دولار)، منها 212.9 مليار يورو (296.6 مليار دولار) واردات أوروبية من روسيا، في حين أن واردات روسيا من الاتحاد بحدود 123 مليار يورو (171.3 مليار دولار)، وبذلك يكون الميزان التجاري في صالح روسيا محققا فائضا قدره قرابة 90 مليار يورو (125 مليار دولار).

ويغلب النفط والغاز على الصادرات الروسية للاتحاد، إذ يستحوذ الأخير على 84% من صادرات روسيا النفطية، و76% من صادراتها من الغاز، في حين تتكون صادرات أوروبا إلى روسيا أساسا من الآلات ووسائل النقل ومواد كيميائية وطبية ومنتجات زراعية.

وعلى العكس من التجارة السلعية، فإن ميزان تجارة الخدمات بين الطرفين يميل لصالح الأوروبيين بفائض قدره 13 مليار يورو (18 مليار دولار)، وكان إجمالي الميزان التجاري للخدمات بين الطرفين في عام 2012 أيضا بحدود 43.4 مليار يورو (60.4 مليار دولار)، تصدر أوروبا لروسيا خدمات بمقدار 28.2 مليار يورو (39.2 مليار دولار)، وتستورد من روسيا خدمات بنحو 15.2 مليار يورو (21.1 مليار دولار).

وبلغ إجمالي الاستثمارات الروسية في أوروبا 53.1 مليار يورو (74 مليار دولار)، في حين وصل حجم الاستثمارات الأوروبية في روسيا في العام نفسه إلى 166.8 مليار يورو (232.4 مليار دولار)، وبذلك فالاتحاد يمتلك من الاستثمارات في روسيا ما يزيد بثلاث مرات قيمة الاستثمارات الروسية لديه.

وفي ضوء هذه الحقائق الاقتصادية، بات من الأكيد أن ورقة الطاقة ستكون إحدى الأوراق المهمة في الصراع الروسي مع أوروبا والغرب عموما، فإما أن تهدد موسكو بوقف صادراتها من النفط والغاز إلى الاتحاد الأوروبي، أو أن الاتحاد الذي يعد الشريك التجاري الأول لروسيا يقرر استبدال النفط العربي بالنفط الروسي. وفي هذه الحالة لا بد أن تعمل الدول النفطية العربية على سد العجز المتوقع من حصة النفط الروسي تجاه أوروبا.

إذ تفيد بيانات التقرير السنوي لمنظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط (أوابك) أن الاحتياطيات النفطية المقدرة للمنطقة العربية تفوق بكثير الاحتياطيات الروسية، ففي حين تبلغ الاحتياطيات العربية 714 مليار برميل، نجد أن الاحتياطيات الروسية تصل إلى 80 مليار برميل، وتزيد احتياطيات كل من الكويت والعراق والإمارات، لكل دولة على حدة، عن احتياطيات روسيا النفطية، كما أن احتياطيات السعودية بلغت 265 مليار برميل، أي أكثر ثلاث مرات من احتياطيات روسيا.

أما احتياطيات الغاز فتمتلك فيها روسيا كميات ضخمة، تجعلها تقترب من احتياطيات المنطقة العربية ككل، ففي حين تمتلك المنطقة العربية احتياطيات من الغاز تناهز 54.5 تريليون متر مكعب، نجد أن موسكو تمتلك نحو 47.8 تريليون متر مكعب، وأن أكبر دولة عربية تمتلك احتياطي غاز هى قطر بكمية تصل إلى 25.2 تريليون متر مكعب، وهو بالكاد يصل لنصف ما تملكه روسيا.

ويصل الإنتاج النفطي للمنطقة العربية 24.5 مليون برميل يوميا فيما يصل الرقم بالنسبة لروسيا إلى 9.9 مليون برميل، وتعد السعودية أقرب الدول العربية لروسيا من حيث الإنتاج بنحو 9.7 مليون برميل.

وفي إنتاج الغاز، تصل حصة روسيا إلى 60 مليار متر مكعب يوميا .. أما المنطقة العربية فتنتج نحو 57 مليار متر مكعب، أي أن روسيا تتفوق على الدول العربية مجتمعة في الإنتاج، وأن أكبر دولة عربية لإنتاج الغاز يوميا هى قطر بحصة تبلغ 20 مليار متر مكعب، وهى حصة تعادل ثلث الإنتاج الروسي.

وخلاصة ما سبق من مقارنات، يمكن القول إن الدول العربية النفطية بإمكانها تغطية أي عجز في إمدادات النفط للدول الأوروبية وأمريكا بسبب الصراع مع روسيا، ولكن من الصعوبة بمكان أن تساهم الدول العربية في تغطية العجز في حاجياتهما من الغاز بالنظر إلى ضخامة الإنتاج الروسي.

وللخروج من هذا المأزق، دعا قادة الاتحاد الأوروبي خلال اجتماعهم الأخير في بروكسل المفوضية الأوروبية ـ الذراع التنفيذية للاتحاد ـ إلى إعداد اقتراحات مفصلة بحلول يونيو القادم بشأن سبل تنويع مصادر الطاقة بعيدا عن روسيا في الأمدين القريب والبعيد.

كما أكدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن الاتحاد الأوروبي قد ينوع مصادر إمداداته من الغاز إذا وافق الرئيس الأمريكي باراك أوباما على تخفيف القيود المفروضة على تصدير الغاز الأمريكي المتوافر حاليا بكميات كبيرة بفضل طفرة الغاز الصخري، مؤكدة أن واردات الغاز الصخري الأمريكي قد تصبح في النهاية خيارا للدول الأوروبية التي تسعى لتنويع مصادرها للطاقة لكن يجب على الولايات المتحدة أولا إنشاء البنية التحتية اللازمة للتصدير.

علاوة على ما سبق، تشكك شركة المعلومات والاستشارات العالمية أي أتس اس كيرا من خلال دراسة أجرتها في احتمالية قطع الغاز عن أوروبا وتعد مثل هذه الشكوك مبررة نوعا ما، فمن المؤكد أن تضغط موسكو على أوكرانيا برفع أسعار الغاز، لكن الفكرة المخيفة التي تراود الكثيرين الآن هى أن أوروبا، أصبحت بمثابة رهينة لحاجتها للغاز الروسي، ووفقا للشركة العالمية يعد هذا مبالغة صارخة، ففي الوقت الذي تعد فيه نسبة الـ30% التي تمثل حصة روسيا من الغاز أمرا مبهرا بالنسبة للبعض، إلا أن الاعتماد على الغاز الطبيعي، يمثل 22% فقط من استهلاك أوروبا للطاقة في عام 2013، وبإجراء بعض العمليات الحسابية يتضح أنه بطرح نسبة 30% من 22% ينتج نسبة ما هو أقل من 7%، وهذا الناتج بالتحديد هو حصة روسيا من الغاز الطبيعي، ومن صافي الاستهلاك الأوروبي للطاقة، ولايعد ذلك كافيا لإحداث اضطراب أو انهيار للاقتصاد الأوروبي أو فرض أي نوع من المعاناة العالمية.