أحمد فايق يكتب: «سلم إلى دمشق»
تحقيق خاص عن الناس والسينما.. من أقصى جبال الألب على الحدود بين ألمانيا والنمسا وحتى مدينة تطوان على حدود المغرب وإسبانيا مروراً بالأقصر
ثلاث متع لايضاهيها شىء فى العالم، السفر والقراءة والسينما، ففى السفر ألف متعة، تستطيع من خلاله أن تكتشف الكثير عن الآخر، تستطيع أن تكتشف أنك لست وحدك فى هذا العالم، وأن هناك بشرا آخرين يحلمون مثلك، يعانون معاناتك، وفى القراءة تستطيع أن ترى نفسك وعالمك بعمق، مثل المرآة التى تعكس اللا وعى لديك، وفى السينما ستجد هذه الشاشة العجيبة التى تتقن التعبير عن المشاعر، إنها السلاح المطلق للتعبير عن هذه الشاعر، وفى السفر لمهرجان السينما أن تحقق الثلاث متع بالسفر والقراءة والسينما، فدائما الطرق تكون طويلة ومملة فى بعض الأحيان سواء بالطيران أو بالطرق البرية، لا تجد فى هذه الطرق الموحشة صديقا سوى كتاب جيد، أو رواية تحمل بداخلها شغفا، أو تجربة إنسانية تستحق أن تعرف عنها الكثير.
خلال شهرين كنت محظوظا بالسفر إلى 13 مدينة فى ثلاث دول، من أقصى جبال «الألب» على الحدود بين ألمانيا والنمسا، وحتى مدينة تطوان المغربية على الحدود بين المغرب وأسبانيا، ومرورا بالأقصر فى أقصى جنوب مصر والقريبة من الحدود بين مصر والسودان، بشر تختلف ألوانهم ودياناتهم وتوجهاتهم وثقافتهم وتعليمهم.
شاهدت مدنا تجاوزت أفلام الخيال العلمى فى دقتها ونظامها مثل «مونيستر» الألمانية التى تشبه أفلام الكارتون من كثرة نقائها وصفائها وجمال معمارها، ومدن أخرى يتشاجر فيها أصحاب الحنطور مع الشرطة كى يسمحوا لهم بالوقوف لانتظار الزبائن «الأقصر» مثلا.
رأيت ميناء هامبورج أحد أكبر المدن فى العالم، وتلك المدينة الألمانية التى لا تتجاوز مساحتها نصف القاهرة والناتج المحلى لها يساوى الناتج المحلى الإجمالى لمصر، ففيها أكبر موانئ العالم، وملايين من السائحين من كل الارض، ورأيت هذه المدينة الصغيرة فى أقصى شمال المغرب «مارتيل» التى يبلغ تعدادها السكانى 40 ألف نسمة وتستقبل فى فصل الصيف فقط 500 ألف مصيّف من كل مدن المغرب والمغاربة المقيمين بالخارج، مثلها مثل مدينة «كان» التى يبلغ عدد سكانها 73 ألف يتضاعفون عشرات المرات فى وقت مهرجان «كان» فى شهر مايو، وفى الوقت نفسه حزنت على مدينة الأقصر التى بها ثلث آثار العالم، ويتشاجر فيها أصحاب المحلات السياحية على سائح يمشى وحيدا فى الشارع، وتحولت فنادقها إلى بيوت أشباح، وكهوف مهجورة لا يعرف عنها أحد شيئا.
فى هذه الجولة رأيت بشرا من كل الجنسيات تقريبا ألمانيا فرنسا إسبانيا أمريكا إيطاليا المغرب تونس الجزائر تنزانيا السودان إثيوبيا، فى مهرجان الاقصر للسينما الافريقية كان هناك موعد مهم لورشة أقامها المخرج الإثيوبى العالمى «هايلى جريما» والذى يعيش بأمريكا الآن، وتستطيع أن تستمتع بالجلوس والحديث معه لساعات متواصلة دون كلل أو ملل، قال لى إن صورة جمال عبدالناصر مازالت موجودة فى منزله فى أمريكا ومنزل عائلته فى اثيوبيا، حينما كان يشاهد أحدهم فى قارب صغير على نيل الاقصر، كان يقول إنه يذكره بعائلته فى إثيوبيا لديهم نفس العادات والتقاليد والطقوس، فى الورشة التى اقامها هايلى جريما، كان هناك طالب مصرى مشارك وطالبة اثيوبية، والاثنان قررا عمل فيلم عن بداية علاقتهما فى مهرجان الاقصر، فبينهما حائط سياسى بناه الفساد فى البلدان على مر العصور، ثم تواصلا ليكتشفا أن هناك الكثير يجمع بينهما، وقررا عمل فيلم عن حكايتهما، تحمس هايلى جريما لموضوع الفيلم وننتظر تنفيذه. . لكن هذا لم يمنع الخلافات السياسية بين الانظمة التى ماتزال موجودة، ففى اليوم التالى قرأت خبرا عن أن الخارجية الاثيوبية تتقرب وبحذر من تحركات مصر فى جنوب السودان، وبعدها قرأت خبرا عن زيارة أمير قطر للسودان، والهدف من الخبرين ما يشاع أن مصر تسعى لإقامة قاعدة عسكرية فى جنوب السودان، وقطر تسعى لتخريب العلاقات بين مصر والسودان دعما لإثيوبيا، فى المغرب قرأت أخبارا عن زيادة الإنفاق العسكرى فى الجزائر والمغرب بشكل كبير، وبالطبع فالخلاف واضح على الصحراء، تلك الشوكة التى تركها الاستعمار الفرنسى فى ظهر بلدين عربيين، هذه الشوكة تدفع فاتورتها الأنظمة المغربية والجزائرية لفرنسا وامريكا حتى الان، لكن لو تجاوزت خلافات الانظمة ستجد أن البشر هم الضحايا، يعانون دائما، فى رحلتى فى 13 مدينة حتى الان، وجدت أن البشر يتساوون فى كل شىء وجميعهم من الشىء نفسه.. هناك نسبة 1% من سكان الأرض يحتكرون 80% من الأموال، هؤلاء أصبحت الدول تعمل خادمة لديهم، يحركون الجيوش ويقتلون البشر من أجل زيادة ثرواتهم، دولة كاملة الاركان تعرف أين تلعب ولمن ومتى؟
يدعمون المرشحين الرئاسيين فى أعتى الديمقراطيات حتى لا يقترب أحد من ثرواتهم، يسقطون حكاما ويستخدمون كل الطرق القذرة منها قبل النظيفة، فحينما فكر الرئيس الفرنسى «فرانسو اولاند» فى فرض ضريبة دخل تصل إلى 65%، عملت هذه الطبقة على إخراج فضائحه الجنسية، وتحول الإعلام الفرنسى كله للحديث عن ثلاث نساء فى حياة الرئيس الفرنسى.
فى مصر حينما فكر أحدهم فى فرض ضريبة ثروة قدرها 5% بدأت حرب قذرة لتدمير الاقتصاد المصرى، نسبة الـ1% فى مصر تحصل على الدعم من جيوب الغلابة فى مصانع الحديد والأسمنت والبتروكيماويات، ولا يدفعون ضرائب فلديهم محاسبون يستطيعون أن يقنعوا الضرائب بأن الدولة يجب أن تدفع لهم، ومنذ الثورة حتى الان يضعون أموالهم فى بنوك اوروبا لا يريدون المجازفة بجنيه واحد منها، رغم أنهم ربحوا المليارات من مصر، ويولولون يوميا فى وسائل الإعلام بأنهم يخسرون يوميا، ويتسولون من أموال الغلابة، ثم يجلسون فى أبراج عاجية متهمين الثورة بأنها مؤامرة، ويتهمون الشعب بأنه لا يستحق الحياة وبأنه شعب همجى، يسرقون أموالا ويتهموننا بالهمجية، وجدت نفس هذه الطبقة فى المغرب تحتكر كل شىء لنفسها، وكأن العالم كله مقبل على ثورة اجتماعية جديدة، ثورة تطالب بالعدالة الاجتماعية، هنا تذكرت هذا الطالب السويسرى فى جامعة «بازل» فقد ذهبت إلى سويسرا إلى جامعة بازل لإلقاء محاضرة عن السينما فى شمال افريقيا حالة حراك، والطلبة قرروا تقسيم أنفسهم علىَّ، وتولانى طالب كل أربع ساعات، ليرافقنى فى جولات سياحية بالمدينة، أحد هؤلاء الطلاب اصطحبنى لمنزله، وتناولت معه الغداء، كنا نجلس فى شرفة منزله، قال لى هل تعتقد أن السويسريين يعيشون فى جنة البنوك، هذا غير حقيقى، كلنا فى سويسرا نعمل خادمين عند أصحاب البنوك، هم لا يتجاوزون 1% من المجتمع، ويحصلون على كل شىء والدولة تدفع لهم المليارات، ولا يدفعون ضرائب ودائما يتهربون منها، وظل يوجه سبابه للحكومة التى دفعت مليارات الدولارات لإنقاذ بنك «يو بى إس» من الإفلاس بسبب أزمة الرهن العقارى، قال لى «البيزنس الحقيقى للسويسريين هو الزراعة نحن نزرع ونربح من وراء الزراعة وما نربحه يذهب لجيوب أصحاب البنوك»، تحدث معى عن شركة الأدوية التى تصنع أدوية غير مطابقة للمواصفات، والمظاهرات التى قاموا بها، وأدت لمنع بيع دوائها فى سويسرا، وأصبح هذا الدواء الان يباع فى دول العالم الثالث، وتحدثنا عن المستشفى الصغير فى بازل الذى أرادت الحكومة هدمه لصالح بناء منتجع للأغنياء، وخرج آلاف الطلاب من بازل وتظاهروا، وأدى هذا لقتل الشرطة أحد الطلاب، وتوقف بناء المنتجع، ودفع الثمن طالب برىء من جامعة بازل.
الفارق الوحيد بين النظام الرأسمالى الغربى والشرقى، أن النظم فى الغرب تحقق الحد الأدنى من المعيشة للفقراء حتى لا يثوروا ضدهم، فهناك تأمين صحى محترم مجانى وتعليم محترم مجانى ولا يوجد دعم للأغنياء على حساب الفقراء، ونظام ضريبى يحقق الحد الأدنى للدولة، فدولة مثل المانيا يبلغ العائد لها من الضرائب من إجمالى الناتج المحلى 40% وهو رقم مهم جدا فى المعادلة، يعنى أن 40% من كمية الاموال التى يتم تداولها سنويا فى المانيا تعود للدولة فى صورة ضرائب، أما الشرق فالأنظمة تعمل بنفس غباء العصور الوسطى، تذبح الفقير لصالح الغنى، تحبس الحر لصالح السجان، تعاقب البرىء لصالح المذنب، تشوه المقتول لصالح القاتل، نسبة الـ1% فى مصر أو المغرب أو أى دولة عربية لا تجرؤ على أن تمارس بلطجتها فى دولة أوروبية، فالرشوة غير موجودة بشكل كبير، الرشوة فى أى مجتمع تظهر حينما لا تجد الطبقة الوسطى الحد الأدنى من الحياة الكريمة.. كيف تطلب من ضابط شرطة تطبيق القانون والعدل وراتبه لا يكفى قسط مدرسة ابنه؟
كيف تطلب من القاضى أن يحكم بالعدل وراتبه لا يكفى لعلاج ابنته؟
كيف تطلب من موظف الضرائب تحصيل حق الدولة وراتبه لا يكفى ثمن الأتوبيس الذى سيذهب به للعميل؟
الطبقة الوسطى تم إعدامها بتواطؤ من أنظمة فاسدة، وتحولت إلى طبقة مرتشية.
السينما هى أول من انتبهت إلى هذا وهناك عشرات الأفلام التى عبرت عن هذه الحالة من كل بلاد العالم مثل «الرأسمالية قصة حب» لمايكل مور و«جنوب الحدود» لأوليفر ستون، و«ثقافة المقاومة» وفى مصر أفلام محمد خان وخيرى بشارة وداود عبدالسيد ومجدى أحمد على وقبلهم يوسف شاهين، وجيل آخر الان فى السينما المصرية يحمل هذه القضية على أكتافه مثل هالة لطفى ونادين خان وأحمد عبدالله وغيرهم.
منذ الثورة السورية وحتى الآن لم أر فيلما ثوريا يستحق الحدث أو حتى يقترب منه، كل الأفلام التى خرجت مقالية مباشرة لم تحمل عمق السينما، ولا جماليات الصورة، ولا قوة المشاعر، ولم تحمل البحث عما وراء الصورة، والفضائيات تصنع كل شىء، وأصابتنا جميعا بالتشبع، إلى أن شاهدت فيلم «سلم إلى دمشق» للمخرج السورى الكبير محمد ملص صاحب رائعة «أحلام المدينة»، الفيلم كله حالة تستطيع أن تتقبلها، هو المخرج الوحيد الذى صنع فيلما معارضا للنظام وهو يعيش داخل سوريا، لم يترك بلاده ولم يطلب لجوءا سياسيا، بل قاوم داخل وطنه وبالسينما، أيضا هو الفيلم الذى اهتم بجماليات السينما على حساب المقالية والمباشرة، مقارنة بالأفلام الأخرى، لكنه فى الوقت نفسه ليس أفضل أفلام محمد ملص، الفيلم عرض فى افتتاح مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط، هذا المهرجان العريق الذى بلغ عامه الـ29 الآن، وأصبح رمزا للمهرجانات السينمائية المغربية والعربية والمتوسطية.
فأحداث الفيلم كلها تدور داخل منزل دمشقى، يتميز بهذا المعمار المحلى الذى يشبه التركيبة السورية، غرف مغلقة للنوم، ومساحة فى الوسط بلا سقف، فالمجتمع السورى فيه الجلسات الحميمية العائلية الداخلية، وليس مجتمعا يحب جلسات الشارع مثل المجتمع المصرى، لذا ستجد البيوت السورية فيها مزيج مدهش بين دفء المنزل وروح الشارع داخل المنزل نفسه، وفى هذا المنزل الدمشقى شخصيات تعبر جميعها عن المجتمع السورى، لكنها شخصيات تنتمى جميعا للطبقة الوسطى، «غالية» تلك الفتاة السورية الجميلة و«فؤاد» الشاب الذى يعشق السينما ويتجول بالكاميرا طوال الوقت، ويجد فى غالية شخصية درامية وقصة حب مثيرة للاهتمام، «زينة» تلك الشخصية الروحية التى تسكن جسد غالية، فـ «زينة» تم اعتقال والدها كسجين رأى، وغرقت فى البحر، وأصبحت غالية تجمع بين الشخصيتين، وهذا ما يتسبب فى انجذاب فؤاد لها، هنا نرى أيضا الأب ضابط الجيش الذى أحيل للتقاعد وهو يستمع لخطاب بشار الأسد ويصاب بعصبية ولا يريد أن يسمع شيئا، نلاحظ أيضا أن المخرج تعمد عدم إظهار وجه بشار فى الكادر وهو يخطب فى التليفزيون، وأظهر وجهه فى مشهد آخر وهو بوستر له معلق للبيع فى الشارع، لكن البوستر جاء بعد حركة كاميرا «بان» رأينا فيها «بوسترات» للكثيرين بداية من المطربين الشعبيين ومرورا بالسياسيين ووصولا لبشار الأسد لكن صورة بشار هنا كانت فى الأسفل، وكأنها موضوعة رغما عن صاحب المحل.. فى بيت أم سامى الدمشقية يوجد الصحفى والنحات والشاعر والسينمائى والملاكم ومصممة الإعلانات، المسلم والمسيحى.. فى بيتها يوجد الحب والتوافق بين أبناء الطبقة الوسطى فى حمل الهموم، أعلى المنزل يوجد تمثال نحته الفنان لرأس المسيح مقطوع ويداه تحمله، وكأن سوريا تحتاج إلى فكرة الخلاص، وتبحث عن مسيح جديد يخلصها من آلامها، اعتمد المخرج هنا على 3 طرق فى السرد، الأولى الفن التشكيلى من خلال نموذج رأس المسيح والثانية شغف السينما والموسيقى من خلال شخصية فؤاد وحضور لأسماء مثل «عباس كايروستامى» و«برجمان» وفيروز وغيرهم والثالثة «كسر الإيهام» من خلال استخدام الممثلين فى الحديث المباشر مع الجمهور، فقد أراد الفيلم هنا أن يستخدم كل الطرق للهروب من المقالية والمباشرة، فهل نجح فى هذا؟
ربما نجح فى بعض الأحيان، لكن انشغال المخرج بشغف السينما، جعله فى بعض الأحيان كأنه يريد أن يقول هذا هو فيلم سينمائى يهتم بلغة السينما والمشاعر وليس فيلما تليفزيونيا مباشراً.. ودائما ماينقذ الفيلم من هذه الفكرة التكوينات البصرية الجيدة، والبحث عن العمق فى الصورة، ففى مشهد النهاية صعد كل سكان المنزل الدمشقى إلى سطح المنزل، كى يشاهدوا ماذا حدث لسوريا، فقد تدمرت فوجئوا بالمشهد فى اللحظة الأولى، لكنهم هتفوا بصوت قوى «حرية.. حرية».. إنها الحرية التى تحلم بها الطبقة الوسطى، وهى الطبقة التى قامت بالثورة فى مصر وسوريا وتونس وليبيا، تلك الطبقة التى تعانى الآن، ويجرى تهميشها من جديد، فمازال لدى السينمائيين أمل فى أن تنتصر الطبقة الوسطى، وهذا هو الحل الأفضل لنا جميعا، قبل أن تأتى ثورة جياع تأكل الأخضر واليابس، تحول تلك القصور التى شيدها الفاسدون إلى قبور لأصحابها، فالدولة البوليسية لن تستطيع حماية أحد فى غياب العدالة الاجتماعية، تلك العدالة التى وجدناها فى هذا المنزل الدمشقى الذى تسجد فيه السيدة لله ويصلى آخرون للمسيح، الذى يجمع بين روح زينة وجسد غالية فى قصة حب مع فؤاد، الذى يحمل فيه الجميع الحب لبعض.