الأقباط يتظاهرون للمرة الأولى خارج الكنيسة
الثورة جميلة وحلوة وأنت معايا، هناهو حنشنقه، هناهو، دي تمارين الصباح إن شاء الله». كلمات أغنية ارتجالية رددها كل من الشهيد مينا دانيال وصديقه محمد المصري في ميدان التحرير إبان ثورة 25 يناير، كانا يحلمان بإطاحة نظام حسني مبارك لإنهاء إرث من الطائفية والفساد، وبدء عهد جديد يقوم على أساس المواطنة ودعم التعددية والحوار وقبول الآخر وتكريس دعائم الدولة الوطنية الدستورية الحديثة.
دفع مينا دانيال حياته فداء للحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، وهي شعارات ثورة 25 يناير والتي خرج فيها مع آخرين للمطالبة بحقوقهم المسلوبة وحصل على لقب «غيفارا الثورة المصرية»، واستشهد في موقعة «ماسبيرو» في تشرين الأول (أكتوبر) 2011. رحل مينا دانيال وشيَّعه صديقه محمد المصري، بينما حلمهما لم يتحقق بعد.
ومنذ اندلاع ثورة 25 يناير، وحتى العزل الشعبي الذي أطاح الرئيس الإخواني محمد مرسي في 30 حزيران (يونيو) الماضي، قدم الأقباط دماء زكية فداء لوطنهم. لم يقتصر الأمر على ما دفعه الأقباط من استشهاد عدد غير قليل منهم، سواء في «ماسبيرو»، أو في إمبابة، بل تعرض أكثر من 73 كنيسة للاعتداء ما بين حرق أو هدم كلي أو جزئي عقب فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، ومع ذلك أكد البابا تواضروس خلال لقائه وفد الكونغرس الأميركي في القاهرة أخيراً أن هذه التضحيات هي «أقل شيء يقدمه المسيحيون للوطن». هذا الرجل الحكيم والوطني الذي استطاع أن يحظى في أقل من سنة منذ تنصيبه بطريركاً للكنيسة الأرثوذكسية المصرية باحترام وشعبية وتقدير من جميع المصريين، مسلمين وأقباطاً.
على رغم دعوات الكنيسة إلى عدم خروج الشباب في التظاهرات التي دعت اليها القوى السياسية والثورية في كانون الثاني (يناير) 2011، إلا أن الشباب القبطي كسر هذا التابو الذي ظل جامداً سنوات، وسيطر على غالبية الأوساط القبطية، خصوصاً أن هذا الوضع كان يقلق الأحزاب وقوى المعارضة نتيجة هيمنة الكنيسة على الصوت القبطي، إلا أن واقعة خروج المسيحيين للتظاهر من داخل الكنيسة إلى التظاهر أمام مؤسسات الدولة، كان محل اعتبار، خصوصاً أمام مبنى محافظة الجيزة بعد الاعتداء على الأقباط في كنيسة العمرانية في كانون الأول (ديسمبر) 2010، ثم جريمة كنيسة القديسين في الإسكندرية، في أول كانون الثاني 2011 وتظاهر آلاف الأقباط ومعهم المسلمون في الميادين والشوارع غضباً مما حدث، شجعت المسيحيين على ترك وصاية الكنيسة السياسية عليهم، والاكتفاء بالأبوية الروحية، وخرج قطاع كبير منهم في الميادين ليشاركوا مع غيرهم من المصريين في ثورة 25 يناير 2011.
وتعد مشاركة المسيحيين أسوة بغيرهم من المصريين في ثورة 25 يناير من أجل رؤية مجتمع جديد لا يعرف تمييزاً على أساس الجنس أو الدين، وإنهاء إرث من الطائفية التي تفشت عبر عقود، بسبب استبداد النظام وقمعه الأمني وسرعان ما تعرضوا إلى مظاهر متنوعة من انتقاص حقوق المواطنة في الفترة التي عُرفت بالمرحلة الانتقالية، تنامت بعد وصول محمد مرسي إلى الحكم في 30 حزيران 2012.
وتراجعت حقوق المواطنة للمسيحيين خلال العام الأول من حكم محمد مرسي، وظهرت تصريحات من قيادات حزب الحرية والعدالة ومن الجماعة الإسلامية تحرّض على العنف ضد الأقباط، ومحاولة اتهامهم بالوقوف وراء الهجوم على المشروع الإسلامي، ومحاولة الإطاحة بمحمد مرسي وجماعة الإخوان من السلطة، ليصبح الأقباط في مرمى النيران من الجماعات المتطرفة وتيار الإسلام السياسي.
في كانون الأول 2010 تعرض الأقباط لاعتداءات مفرطة من قوات الأمن نتيجة الصلاة في كنيسة بزعم أنها أُنشئت من دون ترخيص، وخرج عدد كبير من الأقباط للتظاهر أمام محافظة الجيزة، وحدثت اشتباكات ونجم عن ذلك وقوع تلفيات في مبنى المحافظة، والقبض على عدد من شباب الأقباط، وتدخل النائب العام بعد مناشدة كنسية والتماسات أسرية وأفرج عن بعضهم في ظل اقتراب الامتحانات وعدم حرمانهم من مواصلة تعليمهم. إلا أن هذه الواقعة كانت مفصلية في تحول موقف الأقباط من الخروج في تظاهرات الى الشوارع بدلاً من الاكتفاء بالتظاهر داخل أسوار الكنائس.
كذلك جريمة كنيسة القديسين في الأول من كانون الثاني 2011، حينما كان الأقباط يحتفلون بحلول العام الجديد، حتى حدث تفجير كبير أسفر عن استشهاد 27 من المسيحيين أمام الكنيسة وقت خروج المصلّين، وعلى رغم خروج الأقباط في تظاهرات غضب في عدد من المحافظات، ودعوة البابا شنودة للأقباط بالتظاهر من دون خطأ وقال مقولته الشهيرة: «إغضبوا ولا تخطئوا»، إلا أن هذه الوقائع كانت بداية تذمر الأقباط وإعلان غضبهم على نظام مبارك، بعد أن زادت الجرائم في حقهم وإفلات الجناة من العقاب.
وأرجع باحثون نقلا عن الحياة اللندنية خروج الأقباط من رحم نظام مبارك إلى وجود أكثر من تيار داخل الأقباط، فهناك من ارتضى الأمر الواقع وسياسات نظام مبارك خوفاً من المجهول، وهناك من يخشى صعود التيارات الإسلامية، وهناك من اندمج مع الأحزاب السياسية والقوى الاحتجاجية من الذين يرون أن الفساد استشرى بدرجة كبيرة وآن الأوان لإطاحة النظام المستبد.
وعلى رغم موقف البابا شنودة الواضح بعدم رضاه عن مشاركة الأقباط في تظاهرات 25 يناير، إلا أن الأنبا موسى، أسقف الشباب في الكنيسة القبطية نشر مقالات عدة تدعم مشاركة الشباب في الثورة، وهو ما اعتبره البعض محاولة لحفظ ماء وجه الكنيسة في هذه الفترة، بعد أن اتهمها الإخوان وعدد من الأحزاب السياسية بموالاة نظام مبارك على حساب دعوات الإصلاح والتغيير.
والمتابع لمواقف البابا شنودة المختلفة سيجد أن دعوته بعدم الخروج في التظاهرات كان موقفاً محافظاً مثل شيخ الأزهر في ذاك الوقت، أكثر من كونه موقفاً سياسياً، حيث اعتبر أن المسيحيين ليس من طبيعتهم المشاركة في التظاهرات، إلا أن دورات الاحتجاج المتعاقبة خلقت لدى الشباب شعوراً بأهمية الفصل بين الدور الرعوي للكنيسة وبين الدور السياسي لها، لذلك انخرط شباب الأقباط ومنذ اليوم الأول للثورة في التظاهرات.
وأذكر أنني اختلفت مع قرار البابا شنودة بعدم خروج الأقباط في تظاهرات 25 يناير، وأعلنت ذلك في مداخلة تلفزيونية واعتبرت أن من حق شباب الأقباط الانصهار مع القوى السياسية وفقاً لأيديولوجية كل مواطن ومرجعيته الفكرية والسياسية، وأن الوصاية الكنسية على الأقباط في مشاركاتهم السياسية تضعف العمل الحزبي وتقلل من مشاركتهم كمواطنين في المجتمع. وكان هناك تيار كبير داخل الكنيسة والأقباط يرى أن حسني مبارك أو نجله جمال أفضل للكنيسة من التيارات المتشددة والمتطرفة، وأن الدولة المدنية في خطر في حال زوال نظام مبارك، وأنه على رغم سلبيات مبارك وقمعه الأمني، وسياساته الاقتصادية، إلا أنها أفضل من المجهول الذي تحمله التيارات المتطرفة، بخاصة أنها لم تتخذ الخطوات اللازمة لطمأنة الأقباط عملياً وفقاً لحقوق المواطنة، وليس للتصريحات التجميلية، وهذا يفسر أسباب عدم تحمس قطاع واسع من الأقباط لتظاهرات 25 يناير. وعلى رغم إزاحة نظام مبارك، إلا أن القلق مما تحمله هذه التيارات الراديكالية كان محل اهتمام الأوساط القبطية بخاصة والأوساط السياسة والثورية بعامة.
ووفق متابعتي لما كان يجري في ميدان التحرير، كان هناك تلاحم كبير في مشهد رائع بين المسيحيين والمسلمين، الشباب والكبار، الفتيات والشبان، وكانت منصة التحرير أنموذجاً للتآلف واللحمة بين أفراد الشعب، وألقيتُ أكثر من مرة كلمة على منصة ميدان التحرير مع الدكتور محمود عزب، مستشار شيخ الأزهر، والشيخ مظهر شاهين (خطيب مسجد عمر مكرم) وآخرين، وهو ما كان بداية في ما بعد لاختياري عضواً في «مجلس أمناء الثورة» بناء على اختيارات الشباب لي، وكنت شاهدة على عملية اختيار الدكتور عصام شرف رئيساً للوزراء خلفاً الفريق أحمد شفيق، ولكن لم تؤد حكومة شرف الدور المطلوب منها، ولم تنجح في تبني مطالب الثورة، حتى تمت إطاحتها في ما بعد.
ومن أكثر المشكلات التي تراخت حكومة عصام شرف في مواجهتها، وتقاعست عن وضع حد لها، قيام آلاف المواطنين بقطع السكك الحديد في قنا، ومنع اللواء عماد ميخائيل من تولي منصب محافظ قنا، إذ اكتفى شرف بالإعراب عن رغبته في زيارة محافظة قنا ولقاء أهلها لبحث أزمة رفضهم المحافظ الجديد عبر «فايسبوك» و «تويتر»، وهو ما اعتبره متابعون خضوعاً لابتزاز التيارات المتشددة.
كما فشلت حكومة عصام شرف في حل أزمة الكنائس التي تم الاعتداء عليها، منها كنيسة القديسين في أطفيح في الجيزة، التي تم هدمها أمام أعين قوات الأمن من دون اتخاذ الإجراءات اللازمة في واقعة غريبة على مجتمعنا، وكانت هذه الواقعة من أكثر أسباب غضب فضيلة شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب، إذ صرح عقب أحد اجتماعات «بيت العائلة» بأن: «هذه هي المرة الأولى في التاريخ الإسلامي التي تُهدم فيها كنيسة، الأمر الذي يرفضه كل المسلمين المستنيرين قبل الأقباط»، وطالب بضرورة إعادة بناء الكنيسة في مكانها، تجنباً لأي ظواهر سلبية.
وفي محاولة لتخفيف الاحتقان الذي انتشر في المجتمع، دعا «المجلس العسكري» إلى مؤتمر شعبي للصلح العرفي في القرية، شارك فيه الشيخ محمد حسان وعدد من السياسيين في تغييب لدولة القانون، إلا أنني أعلنت رفضي صراحة المشاركة في هذا المؤتمر، منعاً للعودة إلى القرون الوسطى، فليس من المقبول انتهاك القانون وتغييبه والاكتفاء بجلسات الصلح العرفية وترك الجناة يفلتون من العقاب.
ولكن مع غضب الشباب القبطي والاعتصام أمام مبنى اتحاد الإذاعة والتلفزيون (ماسبيرو) بسبب هذه الأزمة تصادف أنني كنت موجودة في هذا المبنى للمشاركة في أحد البرامج، وطلبت مقابلة اللواء طارق المهدي رئيس التلفزيون في ذاك الوقت وكان معه اللواء محسن بسادة، وعرفت منه تفاصيل ما يجري وجاء عدد من الشباب القبطي ممن يتظاهرون أمام المبنى ومعهم القس فيلوباتير جميل أحد الداعين الى التظاهرات، واستمعوا الى ما يقوله اللواء المهدي الذي وعد ببناء الكنيسة وأن المجلس العسكري اتخذ قراراً بذلك، وسيتم بناء عدد من المباني الخدمية لخدمة القرية من المواطنين المسلمين والمسيحيين بالتزامن مع بناء الكنيسة، وتم الانتهاء من إعادة بناء الكنيسة في أشهر قليلة على نفقة القوات المسلحة، لتعود أفضل مما كانت عليه.
هذه التجربة بعد حديثي مع الشباب القبطي الغاضب وإنصاتهم لي تكشف عن غضبهم من التمييز الذي يقع على الأقباط، وتجلي النفحات الثورية التي شهدها المجتمع بعد 25 كانون الثاني (يناير) 2011، وأنه لو وجد هؤلاء الشباب من ينصت إليهم – مثل ما قام به اللواء طارق المهدي - ويعد بحلها لما كانوا وصلوا الى هذه المرحلة من الغضب والسخط على الدولة وأجهزتها وسياساتها.
شهدت إمبابة في محافظة الجيزة أحداث عنف طائفي قام خلالها عدد من المتشددين باقتحام كنيسة العذراء وحرقها على خلفية إشاعات اختباء مسيحية تحولت إلى الإسلام وتزوجت بشخص آخر ومزاعم البعض بإخفاء الكنيسة لهذه السيدة، وإصابة عدد من المسيحيين وسقوط قتلى من بين العاملين في الكنيسة لم يستطيعوا مواجهة طوفان المتطرفين في ظل تراخي أجهزة الأمن، ما أدى إلى انتشار الاحتقان بين المسلمين والمسيحيين في المنطقة، ما دفع قوات الأمن إلى فرض حظر التجوال في المنطقة ومحاولة ملاحقة الجناة. وأعربت «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية»، التي يرأسها الناشط الحقوقي المتميز حسام بهجت، عن انزعاجها الشديد من تكرار وقوع اشتباكات بين المسلمين والمسيحيين والاعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة في ظل وجود قوات من الشرطة والجيش من دون تدخل فاعل من هذه القوات لمنع تفاقم الأوضاع، وفي هذه الواقعة بالتحديد بدا أن قوات الشرطة الموجودة في المكان ألقت بالمسؤولية كاملة في عدم التدخل لفض الاشتباك على قوات الجيش، إلا أن القوات المسلحة أخبرت الضحايا بأن دورها يقتصر على تأمين الكنيسة وأن التعليمات الصادرة إليهم لا تتضمن التعامل مع الأهالي.
وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2011 استشهد أكثر من 25 مواطناً قبطياً نتيجة مشاركتهم في تظاهرات أمام مبنى «ماسبيرو»، وحدوث اعتداءات عليهم، خلقت جريمة بشعة اهتز لها الوجدان، وهددت السلم العام للمجتمع، ليشعر الأقباط بمزيد من التمييز والاضطهاد والغبن، وعلى رغم محاولات احتواء الموقف والتحقيق في هذه الجريمة، إلا أن الغضب القبطي زاد في شكل ملحوظ، وأصبحت هناك مشاعر سلبية تجاه الحكومة المتقاعسة وغير المهتمة بحقوق المواطنين المصريين من المسيحيين.
واستمر غضب الأقباط يتصاعد بسبب عدم اتخاذ الإجراءات اللازمة التي تضمن حقوقهم، واتباع الحكومة لمنهج إفلات الجناة من العقاب، وعدم تطبيق القانون، وانتشرت جرائم التهجير القسري للمسيحيين في قرية دهشور في الجيزة، وكذلك في المنيا، وأيضاً شمال سيناء، والعامرية في الإسكندرية من دون أن تتخذ الدولة الإجراءات اللازمة لتفعيل القانون.
وترى تقارير حقوقية أن الأقباط تعرضوا منذ بداية الثورة في كانون الثاني (يناير) 2011 وحتى نهاية «المرحلة الانتقالية» التي انتهت بتسليم المجلس العسكري السلطة التنفيذية الى الرئيس المنتخب محمد مرسي بنهاية حزيران (يونيو) 2012 لسلسلة من هجمات العنف الطائفي التي مرت من دون محاسبة المتورطين، ورصدت منظمات حقوقية تصاعد وتيرة العنف الطائفي واتساع رقعته الجغرافية على مدى السنوات الأخيرة من حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، فإن الفترة التالية لخلعه شهدت تصاعداً ملحوظاً في جسامة الاعتداءات التي وصلت إلى حرق الكنائس وهدمها والقتل بالرصاص الحي.