البيانات الصحية الضخمة تُبشر بعصر جديد من الطب الشخصي
يتحول البشر شيئاً فشيئاً من طب التعامل مع الأمراض إلى طب يسعى للتنبؤ بالأمراض ومنعها، وتقديم العلاج الملائم لكل شخص بمساعدة كم هائل من المعلومات يجمعها هاتفه الذكي، ما يفتح الباب لعصر جديد من الطب تلعب فيه البيانات الصحية الضخمة وتحليلاتها دوراً بارزاً.
ويمكن للجمع بين سجلات الصحة العامة من مصادر مختلفة مع البيانات التي جرى جمعها عن طريق الأجهزة المحمولة كالهواتف الذكية والتقنيات القابلة للارتداء وأدوات التشخيص منخفضة الكلفة والمقاييس المتصلة لاسلكياً بالإنترنت، أن يوفر صورة أكثر دقة عن الحالة الصحية للأشخاص والعلاجات التي يتلقونها.
وكلما توافرت أدلة ثابتة تمكن الأطباء ومقدمو الرعاية الصحية من اتخاذ قرارات أفضل، وعلى سبيل المثال يُعاني 350 مليون شخص في مختلف أنحاء العالم مرض السكري وفقاً لبيانات «منظمة الصحة العالمية»، ومن المرجح وفاة 50% منهم بسبب أمراض القلب والأوعية الدموية والسكتة الدماغية
ويُشير الانتشار الحالي للسمنة بين الأطفال إلى احتمال تعرض مزيد من الأطفال للإصابة بالنوع الثاني من السكري، وهو النوع الأكثر شيوعاً. ويمكن أن تُلحق اختبارات مستويات السكر في الدم كالتي توفرها شركات مثل «سانوفي أفنتيس» بالهواتف الذكية، ما يسهل تسجيل وجمع البيانات للتحليل، ومن خلال الجمع بينها وبين معلومات أخرى من تطبيقات التمرينات الرياضية والحمية الغذائية، يمكن بناء صور أكثر اكتمالاً عن نمط حياة المرضى.
وأشار الرئيس التنفيذي لشركة «أريدهيا» للمعلومات، ديفيد سيبالد، إلى عمل شركته مع موفري تطبيقات ومضخة أنسولين، للاستعانة ببياناتهم مع البيانات السريرية الحالية، ما يتيح إدماج المرضى بشكل أكبر في إدارة رعايتهم الخاصة. وقال سيبالد: «هذا سيحدث بالضرورة إذا كانت الرعاية الصحية ستصبح ميسورة الكلفة في المستقبل».
واعتبر الرئيس التنفيذي للتكنولوجيا لشمال أوروبا في شركة «سوفتوير أيه جي»، مات سميث، أن التحسينات في مستشعرات الهواتف الذكية وأدوات التشخيص المحمولة ستُساعد مقدمي الرعاية الصحية على التدخل في وقتٍ مبكر.
وقال سميث إنه في حال تطوير تطبيق يتابع التمرينات الرياضية للمريض، ورصد مستشعر التسارع في الهاتف الذكي الكثير من الحركة، فيمكنهم الاستجابة لهذه البيانات في الوقت الحقيقي، وإرسال رسالة تحث المريض على فحص مستوى السكر في الدم، واعتبر أن هذا النوع من التدخل المبكر قد يغني عن الحاجة إلى قدوم مسعف، كما يمكنه أن ينقذ حياة المرضى.
ويعتقد المدير الأوروبي في شركة «ميدي أناليتكس» الأميركية لتحليلات الرعاية الصحية، واين بارسلو، أنه كلما عُرفت معلومات أكثر عنا، كلما صارت علاجاتنا أكثر تخصصاً. ويتفق معظم الخبراء الطبيين على أن رقمنة وتبادل السجلات الطبية بين الأطباء العامين والمستشفيات والمصادر الأخرى يمكن أن يقود إلى تحسينات ملحوظة في كيفية إدارة الخدمات الصحية وعلاج الأمراض. وفي الوقت نفسه يواجه جمع البيانات تحدياً كبيراً في ظل المخاوف بشأن خصوصية الأشخاص، وأخيراً أجلت «إن إتش إس» أو «هيئة الخدمات الصحية الوطنية» في المملكة المتحدة مشروعها «كير.داتا» ستة أشهر ليتسنى للجمهور فهمه. وقال المدير التنفيذي للمعلومات السريرية في مستشفيات «رويال برومبتون آند هيرفيلد» البريطانية، كليف مورجان: «نسير على الطريق إلى سجل رعاية صحية رقمي بالكامل، لكن كثيراً من هذه البيانات توجد في قواعد بيانات منفصلة، يوجد نحو 400 في مستشفياتنا وحدها، وحتى الآن جمعنا 60% منها معاً في مستودع واحد للبيانات السريرية».
وأضاف مورجان أن تحليل هذه البيانات يُساعد على اكتشاف علاقات ارتباط لم تكن واضحة جداً من قبل، ما يمكن من صقل طريقة ممارسة الطب، خصوصاً لأولئك الأشخاص المعرضين إحصائياً للإصابة بمرض معين.
كما يمكن للمستشفيات أن تخصص الموارد بشكل أكثر كفاءة وتستهدف مجموعات أصغر مع علاجات مصممة خصيصاً. وأشار مورجان إلى أن تحليل البيانات سيتيح تحديد أي علاج سيكون أفضل، لأن الإحصاءات المباشرة ستساند الحكمة والخبرة التقليدية للأطباء.
ويتيح تحليل البيانات الضخمة معالجة أوجه القصور في نظم تقديم الرعاية الصحية التي تتزايد تكاليفها بفعل النمو السكاني وارتفاع متوسط الأعمار، ومثلاً وجدت «بريسكريبينغ أنالتيكس» التي تحلل الوصفات الطبية من خلال دراسة وصفات الأطباء للحد من الكوليسترول في المملكة المتحدة، أنه يمكن توفير 200 مليون جنيه إسترليني على الأقل إذا ما تحول الأطباء لوصف دواء أرخص سعراً ويتمتع بكفاءة الدواء الحالي. ويجمع المشروع أطباء هيئة «إن إتش إس» وأكاديميين وشركات تكنولوجية ناشئة.
ووجدت بحوث أخرى أنه يمكن رفع الوفورات إلى 1.4 مليار إسترليني إذا ما طُبق المنهج ذاته على مجموعة من الأدوية الشائعة المنتشرة في الوصفات الطبية.
وبشكل عام يستفيد العديد من المستشفيات في مختلف أنحاء العالم من البيانات الضخمة في تقليل وقت الانتظار في أقسام الطوارئ وتتبع حركة المريض، وزيادة كفاءة الإدارة الطبية. واعتبر بارسلو أن الوصول إلى قدرٍ كبيرٍ من البيانات يمكن الشركات المشابهة لشركته من تطوير خوارزميات للتنبؤ بالعوامل الديموغرافية التي من المرجح أن تكلف الكثير للعلاج في المستقبل من أمراض مثل السكري والربو.
ويُمثل الطب الجيني مثالاً آخر على المزج بين تحليلات البيانات الضخمة والجينوم لعلاج أمراض مثل السرطان الذي لايزال يُقاوم 75% من العلاجات الحالية. واستغرق تقديم مشروع «الجينوم البشري» المرة الأولى عام 2000، 13 عاماً من العمل لرسم خريطة لثلاثة مليارات زوج من الحمض النووي، وبكلفة بلغت ثلاثة مليارات دولار. وحالياً تراجعت كلفة رسم خريطة الحمض النووي للشخص، ويُحتمل أن تصل إلى أقل من 1000 دولار للمرة الأولى. وتقترب شركات من التنبؤ بأي علاج للسرطان سيكون فعالاً مع الحمض النووي للشخص، ونوع السرطان الذي يواجهه. وقال كبير خبراء الصحة في شركة «ساب» للبرمجيات الدكتور فيرنز إيبرهارت: «من خلال التسلسل الجيني والبيانات التاريخية لعلاج السرطان معاً، نتحرك تجاه رعاية صحية شخصية حقاً».