أحمد فايق يكتب : كيف نجح الألمان فى صناعة أسطورتهم من الانهيار وحتى صناعة الأحلام

مقالات الرأي



فى أحد أكبر شوارع مدينة شتوتجارت جنوب ألمانيا كان المشهد مختلفا هذه المرة، سيارات شرطة، قوات مكافحة الشغب على استعداد، وعشرات من المتظاهرين يهتفون بحماس شديد، لكن الغريب أن كل المتظاهرين اصطحبوا معهم كلابهم، وزينوها بأزهى الملابس، ثم اقتربت أكثر لأعرف الموضوع، فالمظاهرات كانت ضد قتل الكلاب الضالة فى الشوارع، يبحثون فيها عن حقوق الحيوان، لقد وصلوا إلى درجة مستفزة من الحضارة، ونحن فى مصر نتظاهر من أجل منع قتل البشر فى الشوارع، لقد شاهدت الشرطة فى مواقف مختلفة هنا، ربما يكون ظهورهم قليلاً لكنه قوى جدا فى نفس الوقت، لا يوجد شرطى هنا فى ألمانيا لا يعرف شيئا عن المدينة، لقد تحول الشرطيون والشرطيات إلى مرشدين سياحيين فى المدن الألمانية، إذا ذهبت إلى أحدهم وسألت عن مكان تريد الذهاب إليه، سيخرج لك من جيبه خريطة ويظل ينهمك فى الشرح لك كيف تصل، وما وسيلة المواصلات المناسبة التى تصلح للذهاب إلى هدفك، لكن هذا دور من عشرات الأدوار التى تلعبها الشرطة، فقد ذهبت إلى مدينة هامبورج ثم مدينتى أخن ودوسلدورف، والثلاث مدن يقام فيها كرنفال سنوى، هذا الكرنفال عطلة لجميع السكان، يرقصون ويحتفلون فى الشوارع، يرتدون أزياء تنكرية، لقد شاهدت فى لوحة بديعة وجميلة التاريخ الألمانى والغربى كله فى الأزياء التنكرية التى يرتديها المحتفلون بالمهرجان أو الكرنفال، بقدر جدية الألمان فى العمل، هم أيضا يعرفون كيف يستمتعون بحياتهم، هذا الكرنفال هو مناسبة للمتعة والاحتفال وتجديد الطاقة والنشاط، وفى نفس الوقت طريقة غير مباشرة للتعبير عن الوطنية من خلال ارتداء الأزياء التاريخية، لكن الأمر لا يخلو من بعض الاستثناءات، ففى الكرنفال هناك من يشربون حتى الثمالة، وربما يقومون بأعمال فوضى، هنا الظهور القوى للشرطة، التى بدأت فى الانتشار فى محطات القطار، وفرق مكافحة شغب مجهزة فى الخلفية تمهيدا للوقوف أمام أى فوضى، وبدأت الشرطة فى الظهور بالشارع، تقريبا كل 50 متراً تجد شرطياً وشرطية مجهزين بكل شىء حديث، بداية من الملابس الواقية وحتى وسائل الاتصال واللاسلكى والعصا الكهربائية، ضغطة زر واحد على اللاسلكى كفيلة بخروج فرقة مكافحة شغب فى دقيقتين.

لكن رجال الشرطة هناك متعاونون يبتسمون فى وجهك دائما يرحبون بك، طالما أنت داخل المنظومة الألمانية وتحترم قانونهم لا تخش شيئا فالشرطة تتحول إلى ظهر لك وسند، وإذا خرجت عن القانون فهناك وجه آخر، بالتأكيد لم أر أى عسكرى ألمانى فى الشارع «بيشرب شاي» أو يبحث عن راتبه من جيوب المواطنين، فالعسكرى هناك يتقاضى الحد الأدنى للأجور وهو 8 يورو ونصف فى الساعة أى حوالى 2000 يورو فى الشهر بالمصرى 20 ألف جنيه، وهو رقم يتجاوز راتب ضابط لدينا، الظهور الثانى للشرطة كان فى مدينة شتوتجارت، فهم يستطيعون جيدا اكتشاف المشكلة مبكرا ووضع تأمين لها بمنتهى القوة والحزم، كانت مباراة كرة قدم بين فريقى مانشستر يونايتد وشتوتجارت، الإنجليزى، جاءوا بالآلاف إلى ألمانيا سواء بالسيارات أو القطارات أو الطائرات، ومن المعروف أن الإنجليز هم الأكثر تعصبا كرويا فى العالم، الشرطة كانت تعلم أن المشجعين ربما يصنعون فوضى، طائرات الشرطة ملأت سماء شتوتجارات، كادت مراوحها أن تقترب من الأرض، تشعر بأن كل مواطن الشرطة خصصت له طائرة لمراقبته، قوات مكافحة الشغب تواجدت فى الشوارع بكثافة، من يفكر فى أى شغب أو فوضى يعرف جيدا السيناريو، فسوف يتم إلقاء القبض عليه، ثم يقرأ عليه الشرطى حقوقه القانونية، ويذهب إلى مركز الشرطة منتظرا محاميه مدافعا عنه لأنه متورط فى مشكلة، لكنه يعلم جيدا أيضا أنه إذا دخل النظام الألمانى واحترم القانون لن يستطيع شرطى الاقتراب منه أو تهديده، فبقدر قوة وحزم الشرطة يخاف الضباط أنفسهم أن يتجاوزوا القانون، لأن الشرطى إذا تجاوز القانون فمصيره الحبس أيضا وبسهولة.

كل شوارع ألمانيا مراقبة بالكاميرات دون استثناء، الكاميرات تم وضعها على «عواميد النور»، والكاميرات تعمل لأكثر من هدف منها مراقبة سرعة السيارات ومراقبة الشارع لو هناك سرقات أو جريمة أو غيرها، بالإضافة إلى أنه توجد هناك كاميرات أمام جميع المحلات التجارية والمنازل والبيوت وكل شىء، لقد ظهرت الشرطة للمرة الثالثة حينما كنت فى برلين، قال لى وليد الشرقاوى الشاب المصرى الذى يعمل فى استقبال الفندق إنه حدثت عملية سرقة صباح اليوم ووصلت سيارة الشرطة بعد خمس دقائق من الحادث، وقال إن الألمان دائما فى حوادث السطو يطلبون مننا ألا نتدخل ضد السارق خوفا علينا، هم يقولون لنا إن حياة المواطن أهم لديهم من مليارات الدولة، كاميرات الشارع رصدت عملية السطو، وقلت لوليد «الراجل صاحب المحل اتخرب بيته..زمان الحرامى صرف نصف الفلوس» فقال لى «لا تخش شيئا فكل شىء هنا مؤمن عليه بالكامل والرجل لن يدفع مليما واحدا من جيبه وشركة التأمين ستتولى كل شىء».

فى النظام الألمانى كل شىء محسوب بدقة، وكل شىء إلكترونى، حتى لو معك مثلا 100 يورو وتريد «فكة» لا تذهب إلى سوبر ماركت أو محل فى الشارع فلن يعطيك الفكة المطلوبة، ستجد ماكينة فى الشارع تضع فيها الـ100 يورو وهى تتولى عملية الفكة، وتختار إلكترونيا قيمة القطع التى تريدها سواء فضية أو ورقية، القطار له ماكينة تقطع بها التذاكر والمترو والأتوبيسات حتى البيبسى والكوكاكولا والشاى والقهوة لها أيضا ماكينات فى الشوارع....!

فى النظام الألمانى إذا لم تكن تجيد القراءة والكتابة فلن تستطيع أن تعيش، لذا التعليم هناك مهم جدا، ومجانى فى المدرسة والجامعة، فقط الحضانة هى بأجر والأجر طبقا للقانون لا يتجاوز 10% من الدخل، بمعنى إذا كان راتبك 1000 جنيه فى الشهر لن تدفع أكثر من 100 جنيه لتعليم أبنائك مهما بلغ عددهم فى الحضانة، وإذا كنت تتقاضى الحد الأدنى للأجور وهو 20 ألف جنيه فى الشهر فهذا يعنى أنك فقير ولن تدفع أى شىء فى الحضانة، المفاجأة أن الجامعات والمدارس تتصارع هناك على الطلبة، رغم أن التعليم مجانى، والسبب أن هناك منظومة للربط بين التعليم الجامعى وبين المصانع والشركات، فالحكومة تتكفل هنا فقط برواتب أساتذة الجامعات ونائب لكل واحد فيهم، أما المدرسون والباحثون فيحصلون على أجرهم من المصانع والشركات، أو بمعنى أدق من الأبحاث العلمية التى تجريها الجامعة لصالح المصانع والشركات، على سبيل المثال فإن شركات السيارات الكبرى تدفع الملايين لكليات الهندسة لتطوير السيارات، وهناك منافسة بين الجامعات على الشركات والعكس صحيح، لذا فمن مصلحة الجامعة الحصول على أكبر كم من الطلبة لأنه يتحول إلى مشروع استثمارى تربح من ورائه المعاهد والكليات، وهناك منافسة بين المعاهد فى تحقيق أعلى نسبة من الأرباح، وتوفر الكليات والمعاهد مصاريف المعامل وتطويرها وتحديثها ومصاريف الطلاب من خلال بيع الأبحاث والابتكارات العلمية للشركات والمعاهد، على سبيل المثال هناك باحث مصرى اسمه مينا قلدس نجح فى ابتكار نظام لمساعدين السيارات نظام تكنولوجى ذكى يوفر الثبات للسيارات فى السرعات العالية والمطبات الصناعية، هذه الفكرة كانت رسالة الدكتوراه الخاصة به، وباعتها الجامعة إلى إحدى شركات السيارات مقابل 200 ألف يورو، والمبلغ يتم تخصيص جزء كبير منه لصالح الجامعة وتطوير التعليم فيها والبقية تذهب للطلاب، لذا أصبح التعليم هناك ليس مشروعاً علمياً فقط إنما مشروع استثمارى أيضا، وهناك بعض الطلبة يعملون فى المعامل ومكتبات الجامعة مقابل أجر تدفعه لهم الإدارة، أما التدرج العلمى فله أصوله، ليس من حق أحد أن يحصل على درجة الأستاذية بسهولة، وهى ليست تدرجاً إدارياً بيروقراطياً، لأنه إذا منحت الجامعة أحدهم حق الأستاذية، فليس من حقها أن تسحبها أو توقف الأستاذ عن العمل مهما حدث، فأستاذ الجامعة هناك له وقار القاضى وهيبة نائب البرلمان وقوة رئيس الحكومة، وقد تحصل على 5 رسائل دكتوراه ولا تمنحك الجامعة درجة الأستاذية، الأستاذ يجب أن يتقدم ضمن مجموعة كبيرة ممن حصلوا على الدكتوراه، ويتم عرضهم على لجنة من كبار الأساتذة الألمان، يجب أن يكون قد قدم بحثا علميا مهماً أفاد البشرية، ويجب أن يتمتع بمواصفات شخصية مميزة، حتى الطلبة لهم دور مهم فى اختيار الأستاذ، ولكل نوع من هذه الاختبارات رصيد من النقاط ثم تمنحه الجامعة درجة الأستاذية، لذا من يتمتعون بهذه الصفة عددهم قليل جدا، ففى كل معهد أستاذ واحد فقط، وله مساعدان من حملة الدكتوراه والماجستير، ولا فارق فى العمر هنا، فالأستاذ قد يبلغ من العمر 40 عاما ومساعده حامل الدكتوراه عمره 58 عاما، المهم الكفاءة العلمية، الجامعات أيضا توفر أماكن لتحقيق الترفيه والمتعة للطلاب والمدرسين والباحثين، فلا توجد جامعة بلا «لاند سكيب» وصالة للألعاب الرياضية ومقاهى انترنت وصالات للمذاكرة وسكن طلابى راقٍ، حيث يتم منح كل طالب استوديو تبلغ مساحته 22 مترا فيه غرفة نوم ومطبخ ودورة مياه وكافيتريا جامعية بها طعام وشراب من أجود الأنواع، حتى مصاريف تنقل الطلبة داخل المدن لعمل الأبحاث ومصاريف أبحاثهم تتكفل بها الجامعة بالكامل، وبالطبع الجميع يعمل هنا كفريق عمل لا توجد إدارة فردية للأمور، والباحثون يساعدون بعضهم البعض.

السؤال هنا.. هل ألمانيا هى الجنة التى نحلم بها؟

بالتأكيد لا، لكن ألمانيا دولة رأسمالية وأكبر دولة صناعية فى العالم، وليست كريمة مع رجال الأعمال وبخيلة على المواطن مثل مصر، الطبقة المتوسطة هناك تشكو لأن رواتبها منخفضة مقارنة بالأسعار «لاحظ هنا أن الحد الأدنى للأجور 2000 يورو أى 20 ألف جنيه!»، نسبة الفقر فى ألمانيا تبلغ 10%، ومن تنطبق عليهم مواصفات فقراء هم من يتقاضون إعانات من الدولة أو يحصلون على الحد الأدنى للأجور، أى فقراء ألمانيا هم من يحصلون على مبلغ شهرى يتراوح بين 700 يورو و2000 يورو أى من 7 آلاف جنيه و20 ألف جنيه!

من لا يعمل هنا الحكومة تمنحه ثمن إيجار استوديو يقيم فيه بالإضافة إلى 700 يورو إعانة، وتسعى مكاتب التوظيف لإيجاد وظيفة له، سكان ألمانيا الغربية يشكون من الضريبة التى فرضت عليهم 5% لإعادة إعمار وتطوير ألمانيا الشرقية بعد اتحاد الألمانيتين، فهناك شىء ما يسمى «اليورو كود» وهو مصطلح يعنى توحيد مواصفات البناء فى الاتحاد الأوروبى على مستوى السلامة الشخصية وتوفير الطاقة والحفاظ على الحرارة الداخلية للمنزل، هذا المصطلح ينطبق أيضا على شبكات الصرف الصحى والمياه والكهرباء وحتى الشرطة، فهناك مواصفات أوروبية تنطبق على كل دول الاتحاد بلا استثناء لذا لا تتعجب حينما تسافر مثلا إلى فرنسا ويتم تفتيشك فى هولندا وتدخل فرنسا بلا تفتيش، فمعايير «اليورو كود» موجودة فى كل دول الاتحاد بلا استثناء.

لكن رغم كل محاولاتهم لتحقيق العدالة الاجتماعية، نجد أوروبا والغرب بشكل عام يعانون من أزمة كبيرة، وهى أن نصفاً فى الألف من المواطنين يمتلكون 36% من الثروات، وهذا يعنى أن هناك طبقة تحتكر كل شىء الإعلام والمال والسلطة والنفوذ، الفارق بينهم وبيننا أن نسبة النصف فى الألف فى مصر لا تريد للملايين أن يأكلوا «العيش الحاف» ويريدون ذبح كل شىء، أما النصف فى الألف هناك فيسعون بكل قوتهم لتحقيق الحد الأدنى للمعيشة الكريمة للطبقات الدنيا، خوفا من ثورة ضدهم، الفقير فى ألمانيا- طبقاً للإحصاءات الرسمية- له الحق فى التعليم المجانى والعلاج المجانى والدواء المجانى، وتدفع الحكومة له إيجار المنزل وتعطيه أيضا 700 يورو من أجل الطعام والشراب، وتعطيه أيضا من 200 إلى 300 يورو إضافة شهرية على كل طفل جديد، أما الغنى فى ألمانيا فهو يدفع للدولة 65% من دخله ضرائب كى يتم صرفها على الفقير، أما فى مصر فالفقير يدفع من أجل أن يزداد الثرى ثراء، نحن ندفع ثمن الدعم لمصانع الحديد والأسمنت والبتروكيماويات وندفع 80% من الضرائب والأثرياء يدفعون فقط 20% رغم أنهم يحتكرون 80% من حجم الأموال.

ألمانيا لا تعتبر الشباب عبئا على الدولة بل تشجع الشعب على إنجاب الأطفال فهم يرون أن إضافة كل فرد جديد للشعب هى مكسب للوطن، قالها لى «سباستيان» الباحث فى جامعة ميونخ الذى عاش فى مصر 6 شهور قال «لديكم ثروة لا تقدر بمال وهى القوة البشرية والشباب تحديدا لأننا نعانى فى ألمانيا من شيخوخة فى أعمار المواطنين، لكن ليست لديكم أى رؤية للمستقبل وهذا خطر كبير تستطيعون أن تحولوه إلى مكسب لو كانت هناك رؤية».

إن الشباب فى ألمانيا لديهم الأولوية فى كل شىء هم يعتبرون سن الشباب من 18 إلى 25 عاما، الشاب هناك يدفع نصف تذاكر القطار والمترو وجميع أنواع المواصلات، لديهم الأولوية فى الوظائف، فلا تتعجب أن أستاذا فى الجامعة يبلغ من العمر 36 عاما، والمفاجأة أن أول من أصبح أستاذا فى الجامعة وهو فى هذه السن الصغيرة هو مصرى ساهم فى إنقاذ نصف برلين من الانهيار.. وفى هذا حديث آخر.