أحمد فايق يكتب : الحياة تحت ظلال التجربة الألمانية
لم يعد لدينا وقت، العالم يسير إلى الأمام بنفس السرعة التى نسير بها للخلف، أكتب هذا الكلام بصدق فى اليوم الخامس لزيارتى إلى ألمانيا، تجولت فيها حتى الآن فى ثلاث مدن هى هامبورج وأخن ودوسلدورف ، هذه الكلمات يتم رسمها على جهاز كمبيوتر صغير الحجم أضعه على ترابيزة فخمة فى القطار الألمانى السريع ice فى رحلتى من دوسلدورف إلى برلين، موعد إقلاع القطار كان فى الخامسة و53 دقيقة مساء ويصل إلى برلين الساعة العاشرة و22 دقيقة، لا تتعجب فهذه هى القطارات هنا، تقلع بموعد شديد الدقة وتصل فى نفس المواعيد المكتوبة على اللوحة الإلكترونية فى محطة القطار، المحطة نفسها كأنها صالة مطار فخم، فيها كل شىء.. محلات الملابس والمقاهى والمطاعم، حتى داخل القطار تشعر كأنك داخل فندق خمس نجوم، كل شىء هنا له طعم ومذاق مختلف عما نأكله ونشربه فى مصر، حتى الفاكهة تشعر فيها بالسكر أكثر من مصر، كل شىء هنا طبيعى ليس فيه مكونات وأسمدة أو مبيدات، حتى المياه جميلة وعذبة تذكرك بعذوبة مياه النيل منذ 20 عاما....!
أعود إلى بداية المقال، لم يعد لدينا وقت يجب أن نركب القطار، الفرق بيننا وبين ألمانيا الآن مثل الفرق بين أجدادنا الفراعنة وبين الألمان منذ 3 آلاف عام، كل شىء هنا بنظام وترتيب، لا يتركون أنفسهم للحظ، يصنعون مستقبلهم بأيديهم، ويحترمون إنسانيتهم.
أنت الآن داخل النظام الألمانى عليك أن تعمل بداخله، وإلا لن تجد لنفسك مكانا للمتعة أو للحياة، فالمواعيد هنا دقيقة، القطار يتحرك مثلا فى الساعة السادسة و23 دقيقة ويصل فى الثامنة و22 دقيقة، إذا حدث تأخير تدفع لك سكك حديد ألمانيا 25% من قيمة التذكرة بالإضافة إلى خطاب اعتذار، تستخدم هذا الخطاب فى عملك حتى لا تتعرض لخصومات أو توبيخ، المواعيد الدقيقة موجودة فى أتوبيسات النقل العام والمترو، فكل شىء هنا إلكترونى تستطيع أن تراه أمامك، على الإنترنت تستطيع أن تحدد كل شىء فى رحلتك، بداية من التنقلات وحتى الطعام والشراب فى الفندق وحجز القطارات والمترو وأتوبيسات النقل العام حتى لو أردت أن تحجز مكانا فى مطعم هناك، سيكون سهلا عليك أن تفعل ذلك قبل أن تتحرك من القاهرة، ولكن تذكر دائما أن تحترم هذا النظام، فى المترو والقطار نادرا ما تجد أحدهم يطلب منك التذكرة، والدخول بدون حواجز أو بوابات إلكترونية، لكن إذا أمسك بك أحدهم داخل القطار وليس معك تذكرة ستدفع غرامة تصل إلى 200 يورو أى 2000 جنيه، بالإضافة إلى توبيخ ونقطة سوداء فى ملفك.
قيمة مخالفة الركن فى الممنوع هنا 400 جنيه أو 40 يورو، وكسر إشارة المرور يخصم نقاط من رصيد رخصتك، فلدى كل مواطن ألمانى رخصة قيادة تمتلك رصيدا 14 نقطة، وكل مخالفة كبيرة تخصم هذه النقاط، وإذا فقدتها كلها فلن تستطيع قيادة السيارات بقية حياتك فى أكبر دولة صناعية فى العالم، كسر إشارة المرور لا يساوى فقط الخصم من رصيد النقاط إنما أيضا يمنعك من قيادة السيارات طوال شهرين متواصلين، وليس لك الحق فى التظلم إلا أمام القضاء.
بداية رحلتنا كانت من مدينة هامبورج وهى المدينة الثانية فى ألمانيا عدد سكانها لا يتجاوز مليون و800 ألف، مساحتها تقريبا تساوى مساحة الإسكندرية، بها ثانى أكبر ميناء فى العالم بعد ميناء روتردام، تخيلوا أن هذه المدينة فقط ناتجها المحلى السنوى 80 مليار دولار أى نحو 800 مليار جنيه، فهم يربحون من كل شىء ويوفرون كل شىء، يستفيدون من مرور السفن عبر بحر الشمال، لديهم صناعات ضخمة، لديهم سوق كبيرة يأتى إليها السائحون من كل أوروبا والعالم، البيوت مصنوعة من طوب عازل للحرارة ويستطيع الحفاظ على الحرارة الداخلية للمنزل عند درجة 22 درجة مئوية، وبالتالى ورغم أن درجات الحرارة تصل فى هامبورج إلى 18 تحت الصفر إلا أنهم بتقنية بناء البيوت العازلة للحرارة لا يستخدمون التكييف أكثر من 4 ساعات فى اليوم توفيرا للطاقة..!
فى هامبورج ستجد أهم معلم فيها هو الكنيسة القبطية المصرية، هذه التحفة الأثرية التى تعود لعشرات السنوات، أهدتها الكنيسة المصرية من قبل للجالية اليونانية، ثم أصبحت تحت إشراف الحكومة الألمانية، والحمد لله أنها تحت إشراف الألمان لأنهم يعرفون قيمة تاريخنا وحضارتنا وتراثنا أكثر منا.
منذ اللحظة الأولى وأنت تخرج من مطار هامبورج تشعر أن كل شىء مختلف، رائحة الهواء.. البشر.. الألوان المبهجة المنتشرة حولك، اللوحات التشكيلية، إيقاع البشر الذى يشبه القطار صباحا فى قوته وسرعته، ومساء يشبه الغزال فى دلاله وحبه للحياة، فهم شعب يستطيعون أن يستمتعوا بالحياة بنفس القدر الذى يعملون بجد، الطعام له طعم مختلف كله طبيعى لم تطله مسرطنات يوسف والى ولا فساد مبارك ونظامه، هامبورج هى عاصمة أوروبا الخضراء، هل تتخيل أن نصف مساحة المدينة عبارة عن متنزهات ومساحات خضراء كى يستمتع بها سكانها وزوارها، مدينة منفتحة على العالم، فى الشارع تستطيع أن تميز بين الجنسيات المختلفة من شرق آسيا وحتى شمال إفريقيا، يجمعهم شىء واحد فقط وهو الإيقاع الألمانى، والنظام الدقيق الذى لا يميز بين أحد وآخر، سينمات ومسارح وأماكن للتسوق، ومحطة قطار فيها كل شىء وكأنها مدينة بالكامل، داخل محطة القطار محلات الملابس العالمية والمطاعم والمقاهى ومحلات التليفونات، وتوجد أيضا صناديق خاصة تستطيع أن تحتفظ داخلها بحقائبك لو وصلت مبكرا، حتى دورات المياه نظيفة رائحتها جميلة، وبالطبع كله بثمنه فلا تستطيع أن تدخل دورة المياه دون أن تدفع واحد يورو، وهو الثمن الذى من أجله تقدم لك كل هذه الخدمات.
الضرائب هنا تصاعدية وتصل إلى 65% وتبدأ من 5%، وبالطبع إذا كنت تتقاضى 2000 يورو فى الشهر فلن تدفع يورو واحد ضرائب لأن هذا يعنى أنك فقير، لكن لو كنت تربح مليون يورو فى العام فستدفع منهم 650 ألف يورو ضرائب....!
وفى مقابل كل هذا تعطيك الدولة الصحة والتعليم والطرق مجانا، تضمن لك طعاما صحيا غير ملوث ومعاشا كريما وحياة إنسانية، الحد الأدنى للأجور هنا طبقا للقانون هو 8 يورو ونصف فى الساعة أى يصل إلى 2000 يورو فى الشهر، وهذا الأجر يتقاضاه العمال البسطاء، وبالطبع لا يدفعون ضرائب عليه، بل يحصلون على إعانات من الدولة، وبالطبع لا تدفع الدولة هنا أى دعم للمصانع كثيفة الاستهلاك مثل الأسمنت والحديد والبتروكيماويات، الدعم يتم دفعه فقط للفئة التى تتقاضى الحد الأدنى للأجور.
إن مدينة هامبورج ليست بعيدة عن مصر، كانت الإسكندرية مثلها، وليس بالوقت البعيد ولو كنت لا تصدقنى تعالى نتذكر معا فيلم إسكندرية ليه للمخرج الراحل يوسف شاهين هذا الفيلم بالنسبة لى هو الأهم لأنه الخطوة الأكثر جرأة فى تاريخ أفلام السيرة الذاتية على المستوى المحلى والعربى وربما العالمى. إسكندرية ليه كان اللوحة الأكثر إبهارا من بين ما رسم شاهين، تداخلت ألوانها بشكل شديد التناسق لتعكس هذا المجتمع الكوزموبوليتى -المنفتح على الثقافات المختلفة- الذى كانت عليه مدينة الإسكندرية، وكأن هذا المجتمع قد تحقق ليأتى شاهين نفسه.. الأب من أصول لبنانية والأم يونانية.. العلاقة بينهما صعبة لكنها تتحقق.. يأتى الطفل الذى يزيد من خيوط هذه العلاقة تعقيدا، وتؤكد صداقاته المتعددة أن مجتمع الإسكندرية لم يفقد انفتاحه رغم الاحتلال الواقع تحت سطوته. الحرب العالمية الثانية التى تحاصر أحلام ساكنيه.. الألمانى روميل على أبواب العلمين لحسم معركة فاصلة مع القائد الإنجليزى مونتجمرى، تتباين المشاعر الوطنية بين مؤيد للهجوم النازى ومعارض له بينما معارك أخرى يشهدها المجتمع ما بين طبقة رأسمالية مالية تنتفع من هذه الحرب وطبقة منسحقة اكتوت بنارها. يهود يبحثون عن الهجرة إلى أرض الميعاد وآخرون يهربون من المذابح النازية، تناقضات شديدة التشابك بين الشخصيات على المستوى السياسى. سارة سوريل (نجلاء فتحى) اليهودية بنت الإسكندرية التى وقعت فى غرام إبراهيم (أحمد زكى) العامل الشيوعى، تقع بين مطرقة حبها للإسكندرية ومصر وطفلها الابن الشرعى لهذه العلاقة، وبين سندان الأب الرأسمالى (يوسف وهبى) الذى يبحث عن أرض الميعاد تحقيقا لأطماعه، والأخ المراهق المتحمس لدولة صهيونية خبيثة تنشأ فى السر. يعشق الأب أيضاً الإسكندرية ويكره الرحيل منها، إلا أن النازيين يقفون له على الأبواب، ويرحل إلى جنوب إفريقيا وفى لحظة يكتشف أن لعبة دولة إسرائيل أكثر ربحا له من حبه للإسكندرية، خاصة أنه الشهيد الهارب من الجحيم النازى فى نظر الآخرين. أمريكا تكتشف أن السعودية تعوم على بحر من البترول وتريد وضع ذراع لها فى المنطقة لحراسة هذا البحر الذهبى، هنا نرى أفكارا سياسية متشابكة تشبه ذات يوسف شاهين، الذى يريد طرح الكثير من الأفكار المتداخلة فى جمل حوارية قصيرة تحمل قدرا من التلعثم0
إن المدينة فى هذا الفيلم كانت جميلة على الرغم من أنها تحت الاحتلال، لقطات بانورامية تستعرض جمال المعمار الأوروبى الذى انتشر فى الإسكندرية، استعان فى بعض اللقطات بالأماكن الحقيقية واستعاض فى لقطات أخرى بأماكن شبيهة، المدينة كانت: كورنيش جميل ومفتوح على البحر.. مسرح الهمبرا... فيكتوريا كولدج..الترام..البنك.. الكباريه.. البيوت.. القصور.. سينما مترو.. محلات تجارية.. محطة القطار. يوسف شاهين قال عنها: الإسكندرية عندى ليست مجرد مدينة.. وإنما فكرة عن حياة مفتوحة بلاخوف، مثل البحر المتسع لكل شىء.. ملء العالم كله، الإسكندرية فى هذا الفيلم مركز للعالم.. أولا: ثقافيا وتجاريا من خلال تجمع قدر كبير من الجاليات الأوروبية، وقيمة الفن فيها والثقافة من خلال السينما والمسرح والملاهى الليلية وقبلها وعى الحركة العمالية لما يحدث حولها. ثانيا: سياسيا حيث كانت الهدف الأول لمعركة طاحنة بين دول الحلفاء والمحور تدور فى العلمين، كما أنها نافذة مصر البحرية على الغرب ونافذة الغرب للتعرف على الشرق أيضا. المدينة التى أسسها الإسكندر سنة 333 ق.م وأصبحت مركزًا للثقافة العالمية واشتهرت بمكتبتها الغنية وبمدرستها اللاهوتية والفلسفة، المدينة التى شهدت قصة الحب الخالدة بين أنطونيو وكليوباترا، هى ملتقى حضارات وثقافات ومركز أيضا لعالم ذات يوسف شاهين إذن لم يتغير حبه للمدينة من وعى «يحيى» الفتى ذى الأربعة عشر عاما إلى نضج المخرج خمسينى العمر. نرى هنا امتدادا غير مباشر لآثار نكسة 67 فى وعى يوسف شاهين وجيله. يعتقد البعض أن تأثير النكسة امتد سينمائيا فى ثلاثية عودة الابن الضال و العصفور و الاختيار ، الثلاثية التى عرى فيها جيلا كاملا ومجتمعا ومشروعا سياسيا، تحدث فيها عن التناقض الداخلى الذى يعيشه المثقف، والقهر السياسى وكبت الحريات فى الفترة الناصرية، ودعوته الصادمة إلى هدم المنزل وإعادة بنائه من جديد. فى إسكندرية ليه يحاول يوسف شاهين تبرئة نفسه من النكسة، على الأقل يتحدث عن نفسه وربما يبرئ جيلا من المثقفين سبق وأدانهم فى أفلامه السابقة. هنا يطرح الكثير من التساؤلات تبدأ من الخاص أو الذات لينطلق منها إلى العام، من أين أتيت؟ كيف تكون هذا الجيل فكريا ممثلا فى شخصية يحيى؟ هل لهذه النشأة تأثير على تفكيره فى المستقبل؟
هامبورج التى رأيتها كانت جميلة مثل الإسكندرية فى فيلم يوسف شاهين، المفاجأة أن هامبورج منذ 55 عاما لم تكن بهذا الجمال، فقد كانت نصف مبانيها على الأرض بعد الحرب العالمية، لكنهم استطاعوا أن يبنوا أنفسهم من جديد، نعم كانت الإسكندرية فى مصر أجمل من هامبورج الألمانية وأكثر تطورا منذ 55 عاما، والسبب هو التعليم.
نظام التعليم هنا قاس وصارم ويحافظ على تقدم ألمانيا، ورغم ذلك يوفر للطالب كل شىء، حتى المقاهى وأماكن الترفيه تجدها داخل المدارس والجامعات، حتى لا يترك الطالب دراسته، هناك غرف داخل كل مدرسة وجامعة هنا للمذاكرة الجماعية تتوفر فيها كل شىء الإنترنت والشاى والقهوة والموسيقى والطرب والمراجع العلمية، لذا حينما دخلت إلى جامعة هامبورج لتكنولوجيا الهندسة شعرت بأن الطلبة يجلسون فى منزلهم الخاص، منطلقون يستمتعون بحياتهم وعلمهم، كنت أنظر إليهم بحقد وغيرة وسألت نفسى: لماذا لم تتح لى فرصة مثل هذه لأتعلم؟
مثلما يقول بعضكم الآن يابختك طب انت شوفت إحنا بقى ماشوفناش معكم حق، فكل لحظة تمر علىَّ الآن فى ألمانيا أشعر بالوجع فيها على الوطن الذى يمتلك الكثير ولا يستطيع استغلاله بسبب الفساد والتخلف والبيروقراطية، هناك مشروع أشرف عليه العالم المصرى الكبير د. هانى سويلم أستاذ هندسة السدود وموارد المياه بجامعة أخن ألمانيا، المشروع شارك فيه 40 خبيراً تربوياً وتعليميا من مصر وألمانيا ودول أوروبية أخرى لتطوير المناهج الدراسية فى التعليم الأساسى ووضع أكبر خبراء فى العالم مناهج جديدة ومطورة تتوافق مع أحدث الطرق والأساليب العالمية، مناهج كفيلة بإحداث نقلة فى تاريخ مصر، ولم تدفع مصر مليما واحدا لهذا المشروع، بل تكفل به الاتحاد الأوروبى من جانب والأمم المتحدة من جانب آخر، تطوير المناهج كان كفيلا بإخراج جيل كامل من المصريين قادر على صناعة حضارة جديد، وتم تسليم المناهج الجديدة إلى وزارة التعليم وللأسف الشديد، لم يحدث أى شىء ولم يتم تطبيق هذه المناهج، بل تم وضعها على الرف، وكأن هناك فى مصر من يعمل ضدها ولا يريد لها التقدم، أنتظر من المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء ووزير التعليم قرارا فوريا بتطبيق المناهج المطورة التى أشرف عليها 40 خبيرا تعليميا فى العالم، حتى نلحق بالقطار فلا وقت لدينا.