د. رشا سمير تكتب : الميراث
فى أوقات الحروب تبحث الشعوب عن صلاح الدين.. وفى أوقات الثورة تبحث الشعوب عن جيفارا.. وفى أوقات السلم تبحث الشعوب عن مهاتير.. وفى أوقات الانحدار تبحث الشعوب عن مانديلا.. وفى أوقات الهزيمة تبحث الشعوب عن جانكيز خان.
وفى كل الأوقات، تبحث الشعوب عن منقذ، عن مُحرر، عن مُلهم.. تبحث باختصار عن أشخاص يتحملون المسئولية.. فمن يتحمل مسئولية الوطن؟ هل يتحملها من بإمكانه الرؤية أم من بإمكانه القيادة أم من بإمكانه الصمود؟!
ببساطة يتحمل المسئولية كل من يستطيع التصدى للباطل، والاحتكام إلى العقل، ومجابهة التحديات والصمود فى وجه السفهاء.
على مر التاريخ، طالما تحمل أبناء مصر مسئولية وطنهم.. فلما يتقاعس الحاكم تتصدى له الحكومة.. وعندما تتغاضى الحكومة يهب الشعب ثائرا.. لكن ماذا لو تقاعس الجميع؟!
لو تقاعس الجميع لانزلق الوطن إلى هوة الانكسار ووقعت أحلامه فى قبضة رياح الهزيمة.. ونهض من بين الركام جيل يكسر أصفاد الباطل بثورة الحق.
قبل ثورة يناير عاشت مصر حقبة زمنية لا بأس بها ضحية آفتين تغاضى النظام الحاكم عن محاربتهما وهما الفقر والجهل.. وفى الأقوال المأثورة حكمة تقول: (إذا لم تحارب الفقر والجهل اليوم فأنت حتما ستحارب الفقراء والجهلاء فى يوم ما).. وبالفعل حصدت مقاصل غضب المُهمشين رءوس النظام الأسبق.
وبعد ثورة يناير تأهب الجميع لتشمير السواعد والانضمام بهمة إلى معركة النهضة.. وتعاقبت حكومات لقبنا أغلبها بالحكومات المؤقتة.. فكان أداؤها بالمثل مؤقتاً لا يناسب اللحظة ولا يرتقى لمستوى حكومات الثورة.. وتعاقب رؤساء مؤسسات ورؤساء أحياء ومُحافظون كان أغلبهم يعلم أن جلوسه على الكُرسى مؤقت فاستغل الفرصة ليرتاح ويغفو حتى يأتى من بعده شخص يحمل صفة الدوام.. ولكن الدوام لله وحده.
ثلاث سنوات من الثورة والفوضى تخلى فيها الجميع عن مسئوليته وأصبحت مشاكل البلد إرثاً ثقيلاً يصعب على كل من يأتى حمله، لكنهم جميعا أبوا الاعتراف بفشلهم، أو حتى وصلوا بقدر المسئولية إلى محاولة لتصحيح الأخطاء باتخاذ طريق آخر.
لكن فى ظل حالة من التخبط والفوضى، ومحاولة رموز فساد عصر مبارك وذويهم من جماعة الإخوان المسلمين فى كل مكان اختبؤوا وراء جدرانه ليعرقلوا مسيرة الوطن.. فى ظل هذه الحالة الرمادية التى انعكست على أخلاق البشر ولون عقائدهم ظهر فرسان يعتلون جيادا قادرون على الحرب، وتخاذل أشباه فرسان لا يمتلكون سوى سواعد خائرة ويمسكون بدروع من ورق.
أحترم رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام أحمد السيد النجار، هذه المؤسسة العريقة التى وقعت فى براثن المديونية نتيجة ميراث ثقيل من الفساد، وأصبح الحل الأمثل هو الإلقاء ببعض رموز الفساد من المركب لتخفيف الحمولة، والتقليص من رواتب العاملين.. ولأن الرجل يعلم أن كل الحروب واردة إلا حرب الرزق.. فقرر أن يبدأ بنفسه أولا فى مبادرة تعتبر الفريدة من نوعها، فأصدر قرارا لنفسه وقع عليه بنفسه، باستقطاع 30% من حافزه الشهرى، وعدم الحصول على أى مكافآت أو بدلات من المراكز المتخصصة التابعة للمؤسسة مثل بدلات الجلسات التنفيذية للجامعة الكندية، وغيرها من القرارات! فكان هذا المنشور بمثابة حافز للشباب العاملين بالمؤسسة على تقبل الاستقطاع من راتبهم من أجل سداد ديون المؤسسة العريقة وتجاوز المرحلة الحرجة.. لكنه فى نفس الوقت كان بمثابة خط أحمر اجتازه الرجل ليفتح على نفسه باب جهنم من شلة المُستنفعين الفاسدين بالمكان.. لكنه كان رجلا على قدر المسئولية وقبل التحدى.
وأشعر بشىء من اللوم تجاه أداء د.منى مينا التى اكتسحت انتخابات نقابة الأطباء بأغلبية أصوات الشباب الذين توسموا فيها خيرا، وانتخبوها بعد النقيب الإخوانى على الرغم من كونها سيدة ومسيحية أيضا، فى خضم نقابة غزاها الإخوان وتغلغلوا فى أواصرها حتى قتلوا فيها كل محاولات التنفس.. ولكن مجىء د.مُنى كان بمثابة حلم تعلق به شباب الأطباء لكنها وبعد أول جولة وأنا أعتقد أنها لم تكن جولة سهلة.. أعلنت استسلامها وقررت الرحيل.. أعلم أن الأيادى الإخوانية التى تعبث بالنقابة طائلة وأن محاولات إفشالها تتم تحت رعاية جماعة الإخوان.. ولكن تخليها عن المركب أصاب كل الركاب بالإحباط.. فمتى نُصبح على قدر المسئولية؟!
أما حكومة الببلاوى التى سكن أغلب وزرائها فى قالب الحكومة المؤقتة.. فلم يقدموا ولم يؤخروا ولكن على العكس غفوا فى وقت كانت مصر فيه فى أمس الحاجة إلى جهودهم لتنتهى المرحلة المتأرجحة.
المثير للشفقة أن الدكتور الببلاوى سكت دهرا ونطق كفرا.. فالرجل سكت عن استعادة ملف الأمن ونام على ملف سد النهضة وتغاضى عن ملفات الفساد وشجب بشدة إرهاب جماعة الإخوان لكنه تباطأ فى اتخاذ إجراء إعلانها جماعة إرهابية.. فكان دائما متأخرا خطوة عن كل شىء حتى طفح الكيل.. وكانت تصريحاته الأخيرة فى دبى تصريحات مثيرة للشفقة أقامت عليه الدنيا ولم تقعدها.
وجاء أيضا تصريحه فى مؤتمر دافوس معبرا عن سذاجة رئيس حكومة لا يرى الوضع بمنظور العامة، فرئيس الحكومة قال بالحرف الواحد إن (النساء تفضل ترشيح السيسى رئيسا لوسامته)! جُملة واهنة مثيرة للاشمئزاز جعلت من المثل: سكت دهرا ونطق كفرا.. مثلاً يستحق أن نقف أمامه طويلا.
ثم أكدت الحكومة فشلها حين قررت أن تطرح حداً أدنى للأجور بالفُم المليان، وهى تعلم أن تطبيقه ضرب من الخيال! فاقتصاد الدولة فى مرحلة حرجة، وصمود الدولة فى وجه العجز المالى يتأرجح بين شعب لا يُنتج لكنه يستهلك بكفاءة عالية.. شعب يعرف حقوقه ولا يبحث أبدا عن واجباته.
وفى خضم حكومة لم تتفهم الوضع ولم تكن لديها الشفافية لتطرح الواقع بمساوئه.. خرج عمال شركات القطاع العام بإضراب عن العمل، وتبعهم العاملون بالشهر العقارى الذين لم يبالوا بمصالح الناس وبحثوا عن مصالحهم، وكان الدور على سائقى النقل العام، الذين لم يفكروا لحظة فى بديل للغلابة.. حتى الأطباء قرروا المشاركة.. وفى خضم الزحام والإضرابات.. دفع الإخوان المسلمون بأبناء قطيعهم الإخوانى للمشاركة فى حالة السخط العام والإضراب فى محاولة دنيئة لإغراق السفينة التى وبكل أسف هم جزء منها.
هنا كان يجب إقالة الوزارة، فالوزارة لم تستقل لكنها أقيلت بالتأكيد!.. أقالها الشعب الغاضب وتقاعس وزراؤها.. لن أتوجه بالشكر للببلاوى ولا لوزرائه لأن توليهم فى هذه الظروف الصعبة واجب وطنى لا يُشكرون عليه.. ولكنى سألومهم على أدائهم المتواضع فى ظل ثورتين.. ودعونا لا ننسى رجالا قاموا بواجبهم فى تلك الحكومة مثل وزراء الأوقاف والصناعة والإسكان على سبيل المثال وليس الحصر.. ودعونا ننسى وزراء فشلوا فى الانسحاب فى الوقت المناسب مثل وزير الصحة والإعلام ووزير التعليم العالى ووزير الكهرباء وغيرهم..
أعتب على كل من يقومون اليوم بإضرابات فئوية مُطالبين بتحسين أوضاعهم وأقول لهم: صبرتم ثلاثين عاما ونفد صبركم اليوم! ليتكم تصبرون حتى تنهض مصر من كبوتها.. أنتم تدفعون بنا إلى هوة الإفلاس.. إن مطلب زيادة الرواتب مطلب بلا شك مشروع لكن الصبر على المرحلة واجب الجميع.
أعتب على كل من لايزال ينهش فى لحم مصر تحت بند العمولات والتسليك والاستفادة من التواجد فى أماكن قيادية.. فالأموال التى تنهبونها بضمائر غائبة لن تأخذنا إلا للأسفل.. أعيدوا الحقوق إلى أصحابها حتى تستقيم الأمور.
لا يجوز أن يُصبح الجيش هو الجهة الوحيدة التى تبنى الطرق وتُشيد الكبارى وتدفع بأتوبيساتها لنقل المواطنين وتنقذ المُستغاثين وتسد أفواه المحتاجين وتحمى الأمن فى الداخل والخارج فى حين تحول الشعب بأكمله إلى متفرجين ومشجعين.. بل وإلى متذمرين ساخطين شاكين.. ليتنا نعرف واجبنا قبل أن نُطالب بحقوقنا.
غابت حكومة الببلاوى وسط بقاء وزراء وغياب آخرون، وستأتى غدا حكومة جديدة أتمنى ألا تعمل تحت غطاء الحكومة المؤقتة.
غابت حكومات ورحل زعماء وتوارى أشخاص.. ومازالت تركة مصر ثقيلة.. ولايزال ميراث العفن والجهل والظلم والفساد ثقيلا.
دعونا جميعا نقتسم الأطراح قبل الأفراح بيننا بالتساوى حتى لا تزيد أحمالنا وتتزايد أعباؤنا.. وحتى يُصبح ميراث الأجيال القادمة ميراثا من التقدم والرخاء.