أحمد فايق يكتب : أبطال خالد يوسف

مقالات الرأي



هل تتذكر مشهد النهاية فى فيلم «دكان شحاتة» لخالد يوسف، حينما احترقت القاهرة ومن بينها لقطة لمبنى الحزب الوطنى متفحما، دبابات الجيش تملؤ الشوارع، هذا المشهد أثار الكثير من المشاكل وقتها، ورفضته الرقابة على المصنفات الفنية، وأصرت الرقابة على حذف لقطات دبابات الجيش تحديدا، واستندت إلى أنه لا يجوز عرض أى مشهد له علاقة بالجيش إلا بالرجوع إلى الشئون المعنوية بالقوات المسلحة، المفاجأة أن القوات المسلحة وافقت على عرض الفيلم كاملا دون أى حذف، الفيلم تم إنتاجه وعرضه عام 2009، أى قبل الثورة بعامين!

ثلاثة أفلام لخالد يوسف توقعت الثورة بأشكال مختلفة، وهى «هى فوضى» و«حين ميسرة» و«دكان شحاتة»، تستطيع أن تطلق عليها ثلاثية جمعت بين ثلاثة أجيال، فقد كان الأستاذ «يوسف شاهين» مخرجا لـ«هى فوضى»، والسيناريست ناصر عبدالرحمن مؤلفا لها، تستطيع أن تعتبر أن الأفلام هى ثلاث مراحل أو أجزاء للثورة المصرية، «هى فوضى» يتحدث عن تحرك الطبقة المتوسطة للثورة ضد ظلم الدولة البوليسية ممثلة فى شخص أمين الشرطة «خالد صالح»، وهو نفس ما حدث فى 25 يناير 2011، واختارت ثورة 25 يناير أن تجمع بين سيناريو فيلم «هى فوضى» والمشهد الأخير من «دكان شحاتة».

ويتبقى الجزء الثانى من الثورة فى أفلام خالد يوسف، السيناريو المرعب الذى توقعته الأفلام هو ثورة قادمة من العشوائيات فى «حين ميسرة» وسط صراع على السلطة بين الإخوان والنظام يؤدى إلى تفجير مصر!

أو ثورة قادمة من أبناء الشوارع تأكل الأخضر اليابس مثلما حدث فى فيلم «دكان شحاتة»، وطرح حلا حالما يتمثل فى الوحدة بين الإخوة والتصالح فيما بينهم فى «كف القمر»، لكن هذا الحل لا يأتى إلا بعد وفاة الأم وهى «مصر» متمثلة فى شخصية «وفاء عامر».

لكن خالد يوسف طرح حلا آخر فى فيلم هى فوضى مشهد بسيط وعابر، ولكنه يعنى الكثير، حيث تلجأ هالة فاخر ومنة شلبى إلى عضو مجلس الشعب عن الحزب الوطنى وآخر ممثلا للإخوان المسلمين، لكنهما يكتشفان أن الفساد لا دين له سوى الإخوان المسلمين ولا وطن له سوى مبارك وأبنائه، ثم تقطع الكاميرا على صورة لحمدين صباحى معلقة فى الشارع وقدّمه يوسف شاهين وخالد يوسف باعتباره هو الحل.

مشهد بداية خالد يوسف فى القاهرة لا يختلف كثيرا عن مشهد بداية حمدين صباحى، لكن بداية خالد يوسف موثقة فى فيلم «القاهرة منورة بأهلها»، هذا الفلاح اليسارى القادم من «كفر شكر» باحثا عن فرصة كى يصبح ممثلا، فبين خالد يوسف وحمدين صباحى علاقة تحمل احتمالات كثيرة، حمدين صباحى هو واحد من أبطال أفلام خالد يوسف «هى فوضى» و«الآخر» مع يوسف شاهين، وحمدين لعب دور الأب مع خالد يوسف بعد غياب الأب الحقيقى له «يوسف شاهين»، يتمتع الاثنان بموهبة لا يعطيها الله إلا للقليلين، وهى الشعور بالشارع والإحساس باحتياجاته، واستشراف المستقبل، فقد كان خالد يوسف يعشق دائما المراهانات على مدى تجاح أفلامه مع أصدقائه، راهن كل أصدقائه على أن فيلم حين ميسرة سيحقق إيرادا غير مسبوق، والجميع ضحك عليه، لكنه كسب الرهان، راهننى شخصيا فى لحظة إحباط أن «حين ميسرة» سيفجر الثورة فى مصر وقد كان.

حمدين صباحى أيضا يمتلك نفس الموهبة راهن أن يصبح عضو مجلس شعب بأصوات البسطاء وكسب، راهن على الثورة وانتصارها وكسب، راهن على النزول للانتخابات الرئاسية السابقة بدون ممول أو داعم مثلما حدث مع «مرسى» و«شفيق» وربح ملايين الأصوات، لكن الأزمة هذه المرة أن الاثنين فقدا البوصلة المشتركة، خالد يوسف يرى أن ترشح حمدين ليس مفيدا الآن، وكان من ضمن الأربعة الذين رفضوا ترشيح حمدين فى الانتخابات من ضمن مجلس أمناء التيار الشعبى، يعتقد أن السيسى هو الأنسب لهذه المرحلة، ثم عاد ليعلن أنه سيقبل بالنتيجة الديمقراطية لتصويت التيار الشعبى لصالح حمدين، أما حمدين صباحى فيدفعه شعور قوى بأن الارض ممهدة له، ولصندوق الانتخابات دائما كلمته التى تخالف جميع التوقعات، بحسبة بسيطة حمدين صباحى سيحصل على أصوات الثوار وكل من لا يريد السيسى رئيسا لمصر، لديه فرصة قوية لخوض معركة كبيرة، وبذكاء شديد بدأ حمدين حملته بأنه يدعو إلى احترام المنافس، ولا يقبل أى إهانة للجيش، متفقا على مبادئ ثورة 25 يناير والموجة الثانية لها فى 30 يونيو.

مشهد واحد فقط جمع بين حمدين صباحى وخالد يوسف عام 2012 كنت طرفا فيه، فقد كانت جلسة جمعت بين الأصدقاء فى الحياة والفرقاء فى السياسة، حمدين صباحى خالد يوسف والكاتب وحيد حامد والكاتب الصحفى مجدى الجلاد وعمرو سعد وماجد المصرى ورجل الأعمال كامل أبو على، كانت هى المرة الأولى التى أرى فيها حمدين صباحى، وجدته متسقا مع ذاته ويفعل ما يقوله فى البرامج التليفزيونية، شخص شديد التواضع ومستمع جيد لآراء وأفكار الآخرين ومحاور جيد ولديه كاريزما ومصداقية ستصل به قريبا إلى رئاسة مصر، كان لدى ما أقوله لحمدين صباحى فى عطلة العيد، قلت له: الثورة تسير وراء مبادئ وأفكار وليس وراء أشخاص، وما كنا نحلم به ونريده وسيتحقق هو الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، إذا التزمت بها سنقطع أنفسنا من أجلك، وإذا خرجت عن هذه المبادئ سنبحث عن غيرك ليحقق لنا هذه المبادئ، هذه رسالة من جيل أدهم صبرى والمقدم نور ومازنجر، الجيل الذى أصابته كل أمراض الدنيا قبل أن يبلغ الثلاثين، الجيل الذى تفتح وعيه فى سنوات الإرهاب بالتسعينيات، الذى عاش 30 عاما مع رئيس واحد ووزراء لا يتغيرون، الجيل الذى قام بالثورة ويستطيع إحيائها فى أى وقت لأنه ليس لديه ما يبكى عليه، ابتسم حمدين صباحى وهو يصغى وفى وجهه نظرة تمزج بين الاحترام والأبوية ثم قال: وأنا أيضا متفق معك وأعلم أننى إذا خرجت عن مبادئ الثورة ستبتعدون عنى.

وعدت أتحدث من جديد، فأمسك خالد يوسف يدى قائلا «ياعم إحنا عارفين وجهة نظرك لأنك زينا إحنا عاوزين نسمع وجهات نظر من الناس التانية»، بعد هذه الجملة اخترت الصمت، فابتسم حمدين صباحى لى قائلا «لا أنا عاوز أسمع أحمد لحد النهاية»، وأعترف أن الرجل تحمل منى نصف ساعة من الكلام المتواصل الذى عبرت فيه عن القهر الذى يعيشه جيلى، لم أر فى حياتى أملا أو مخلصا له فى هذه اللحظة سوى محمد البرادعى أو حمدين صباحى، هذا المشهد يوضح ملمحين مهمين فى تركيبة صباحى وخالد، حمدين ملك التفاصيل البسيطة يستطيع أن يرى من حوله جيدا، مثلما قرر أن يبحث عن «آى باد» مفقود فى الميكروفون لحظة إعلان ترشحه للرئاسة، أصر على أن يستمع لوجهة نظرى كاملة وسط الزحام، الملمح الثانى من هذا الموقف أن حمدين مثله مثل الثوار يبحث عن من هم مثلى كى يشحن طاقته الثورية بكلامهم، باحثا عن الحرية والعدالة الاجتماعية، أما خالد يوسف.. فهو شخص ذكى جدا فى تنظيم حياته وحياة من حوله، كان يريد أن يستمع لآراء أخرى فى هذه اللحظة كى يعرف كيف يفكر الآخر.

لذا أدار خالد يوسف حملة حمدين صباحى فى الانتخابات الرئاسية من مكتبه بالمهندسين، الذى تحول من صناعة الأفلام إلى صناعة الأحلام، والحلم وقتها كان يحمل اسم حمدين صباحى.

فى غرفة خالد يوسف بمكتبه تجد عشرات الصور التى تعبر عن شخصيته، يوسف شاهين الأستاذ الذى تعلم منه النظام وبناء المؤسسة والتكنيك وصورة عاطف الطيب الذى تعلم منه واقعيته فى السينما، وأثناء الحملة الانتخابية ذهبت لمكتب خالد يوسف مقر الحملة، واستقبلنى قائلا: «ادعى قول يارب حمدين خلاص قرب»، قلت له «هل تعتقد هذا».. قال «عمرى ما راهنت على حاجة وخسرتها».

صحيح أن حمدين خسر الانتخابات لكنه ربح نفسه، وأصبح صوتا معبرا عن البسطاء، فلم يكن وراءه مؤسسات الحزب الوطنى وفلوله مثل «شفيق»، ولم يكن وراءه جماعة الإخوان وذيولها مثل «مرسى»، ورغم ذلك ربح ملايين الأصوات، ربحها ببرنامج يهتم بالعدالة الاجتماعية، الجنة التى يحلم المصريون بالعيش فيها، ويموتون يوميا فى سبيلها.

خالد يوسف تربط بينه وبين أبطاله علاقة خاصة، تبدأ من الصداقة وتصل إلى اللعنة، لكن علاقته بأبطاله تستمر حتى لو قرروا أن يتركوه بحثا عن مخرج آخر أو فيلما جديدا، شارك معه هانى سلامة فى 6 أفلام، وعمرو سعد فى 3 أفلام، وغادة عبد الرازق فى 4 أفلام، وسمية الخشاب فى 3 أفلام، وعمرو عبد الجليل فى 3 أفلام، وحمدين صباحى فى فيلمان!

فى عام واحد مر خالد يوسف بثلاث حوادث مؤلمة، الأول هو وفاة أمه والثانى هو حريق ديكور فيلم «كلمنى شكرا» وقبلها وفاة يوسف شاهين، أثرت هذه الحوادث فيه، خاصة أنه فقد الأب والأم فى لحظات متقاربة، لذا فى فيلم «كف القمر» بدأت الأحداث بموت الأب، وبقيت الام وتفرق الإخوة، فقد تحولت المرأة فى أفلامه من وعاء للجنس إلى وتد محرك للحياة، ونجح موت الأم فى عودة الإخوة إلى بعضهم كى يبدءوا فى بناء الحلم.