أحمد فايق يكتب : يعنى إيه كلمة وطن؟

مقالات الرأي

أحمد فايق يكتب :
أحمد فايق يكتب : يعنى إيه كلمة وطن؟


سؤال يحتمل الملايين من الإجابات غير المقنعة، هل الوطن هو أرض نجد أنفسنا ولدنا فيها، أم مكان اخترنا أن نعيش فيه، هل هو الأب والأم والعائلة التى اختارها القدر لنا أم الأصدقاء الذين اخترناهم، هل الوطن بشر أم مكان أم ذكريات نشعر بالحنين لها؟

هل الوطن بالنسبة لنا هذا الحلم الذى زرعته بداخلنا السينما المصرية وكلمات صلاح جاهين وروايات نجيب محفوظ وصوت أم كلثوم، وتلك الرسومات لأجدادنا على المعابد الفرعونية، هذه الأسئلة التى تذهب بك إلى عالم ليس له نهاية ستطرح نفسها تلقائيا بمجرد مشاهد الفيلم الجميل «دعاء عزيزة»، هو فيلم تسجيلى إخراج سعد هنداوى، ينتقل بك من متعة مشاهدة فيلم عادى، إلى حالة من التصوف والزهد حينما تتوحد مع الشخصيات، وتشعر بأنهما فى كل مشهد تعبران عن حالة مررت بها شخصيا.

دعاء عبد الرازق أو «درة» ولدت وتربت فى فرنسا وتنتمى لعائلة مصرية، ثقافتها فرنسية ووطنها الذى ولدت فيه هو فرنسا، لكنها قررت أن تتركه كى تعود إلى مصر بحثا عن عطر الشرق، لتعمل مذيعة فى الخدمة الفرنسية لقناة نايل تى فى، وتنتمى درة للشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة فى فرنسا.

عزيزة واصف مصرية من أم أوروبية، ولدت فى مصر وثقافتها مصرية لكنها تعتبر نفسها نصف أوروبية، وتعمل فى قناة النايل تى فى، وتقرر الهجرة إلى فرنسا، عزيزة من خلال صور منزلها وطبيعتها تكتشف أنها تنتمى للشريحة العليا من الطبقة المتوسطة فى مصر.

لو أعطيت هاتين الشخصيتين لأى كاتب سيناريو كى يكتب دراما عنهما، لن يستطيع أن يخلق دراما أكثر ثراء وتنوعا من دراما الواقع فى هذا الفيلم التسجيلى، فقصتهما التى تابعها المخرج سعد هنداوى مرت بكل أنواع الدراما والمشاعر من البهجة والسعادة والحب والبكاء، كل شىء فى هذا الفيلم حقيقى، حتى علاقة البطلتين بالكاميرا، ورغم أن التصوير استمر 7 سنوات إلا أن علاقتهما بالكاميرا بدت حميمية لم يستطع الزمن التفرقة بينهما، ولا حتى المكان، رغم تباين الأحداث والمشاعر، فقد تحولت الكاميرا إلى الحضن الوحيد لهاتين الفتاتين فى الدنيا، تلقيان بأنفسهما أمامهما كى تشكيا لها، تحكيا لها، لقد نجح إخراج سعد هنداوى ومونتاج رباب عبداللطيف فى تحويل الكاميرا إلى الأم التى لا يخجل أحد أمامها من البوح بأدق تفاصيل الحياة.

دعاء مثل أى مصرية تنتمى للطبقة المتوسطة مرت بكل المشاعر التى تعيش بداخلنا تجاه الوطن، فى البداية كانت ترى مصر سحر الشرق، ومدينتها الفاضلة التى تبحث عنها، تجد فى القاهرة أحلاما لم تستطع أن تحققها فى باريس، تريد أن تصبح مذيعة تليفزيونية لامعة، تبحث عن الحب والزواج، أن تنتهى من أزمة الازدواجية التى تعانى منها، فهى لم تستطع أن تعيش فى فرنسا مثل صديقاتها، حينما أرادت أن تعلق حلقا فى أنفها هددها الأب قائلا «هاعملك خرم فى عينيكى»، فهى تحمل العادات والتقاليد الشرقية المحافظة وسط مجتمع حر ومنفتح، لكن سرعان ما تتبخر هذه المشاعر، لتبدأ فى الشكوى من القاهرة وسائقى التاكسى والتحرش وتقييد حريتها والفساد والمرور، لقد مرت باختناق يعانى منه المصريون منذ سنوات، لكنها لا تستطيع العودة، فقد تاهت، وليس أمامها حل سوى أن تتظاهر فى التحرير مطالبة بإسقاط النظام، فالمصريون يستحقون حياة كريمة.

عزيزة واصف تبدو منذ البداية متسقة مع ذاتها، قوية الشخصية تعرف ماذا تريد بالضبط، سافرت لفرنسا وتركت كل شىء وراءها، فى الشهور الأولى قالت إنها لا تفتقد أى شىء فى مصر سوى الأب والأم والأصدقاء، ثم عادت تبحث عن هويتها من جديد داخل فرنسا، وبدأت فى الحنين للوطن «اللى يتكلم عن مصر أكله بسنانى»، تحاول أن تبنى نفسها فى عالمها الجديد، إلى أن تصبح مذيعة فى قناة «فرانس 24»، ما كانت تكرهه فى مصر أصبح ماضيا تضحك عليه، لنرى هذا التناقض بين المجتمعين بكل إيجابياته وسلبياته، دون أن ينتصر الفيلم لأى من الوطنين مصر أو فرنسا، لأن الشخصيات لم تنتصر لوطن واحد، ففى فرنسا كل شىء منظم ولا يتحرش بك أحد، ولا يهتم أحد بما تفعله، لكنك أيضا تعانى من الوحدة تفتقد إلى المحيط الاجتماعى والعائلى فى مصر، وتشتاق إلى اهتمام الآخرين بك.

فى مصر يبدو أنه ليس هناك أمل، الاخرون حينما ينظرون إلى الفتاة فى الشارع، تشعر بأنهم يغتصبونها بأعينهم، المرور السيئ، التلوث والفقر والبطالة، لكن وسط كل هذا السواد هناك نقاط بيضاء فالناس «طيبون»، يهتمون بك ويساندونك دون مقابل، تجدهم حينما تمرض، عكس فرنسا، فقد قالت عزيزة «هنا لما باتعب لازم أروح بنفسى للدكتور وأشترى الدواء بنفسى مش زى مصر الناس تساعدك».

يتجاوز الفيلم إلى أبعاد أكثر عمقا حول نظرة المجتمع للمرأة سواء فى الشرق أو الغرب، الواقع السياسى الذى نعانى منه، الرغبة فى الزواج والخوف من العنوسة رغم اختلاف الثقافات، حالة الاغتراب الداخلى التى نعانى منها فى الوطن «هذه المشاهد الجيدة التى تجمع بين الصديقات دعاء وعزيزة وريم ماجد فى القاهرة يفضفضن فيها للكاميرا»، لكن فى النهاية الحياة يجب أن تستمر، حتى لو جربنا الموت دون أن نعرف.. يعنى إيه كلمة وطن؟.