٩٠ سنة فيروز.. زهرة وسط الدمار
غنت فيروز للحب والأرض..للمشاعر والإنسانية خلال مسيرة فنية ممتدة لأكثر من نصف قرن، بدأتها صغيرة منذ بدأت تتعلق بالغناء فى منزلها فى حارة زقاق البلاط، كانت تستمع للراديو من خلال الجيران الذى كان يشدو بأغنيات لأم كلثوم وعبد الوهاب وآخرين، لم تتخيل تلك الطفلة الصغيرة ذاك الوقت أنها هى الأخرى ستصبح أيقونة فى عالم الغناء ليس فى لبنان فقط ولكن فى الوطن العربى والعالم.
حسب تعبيرها فى لقاء سابق لها قالت: «كنت أسمع الموسيقى آتية من عند الجيران بالطابق العالى، كنت أبدأ بالغناء، فيصل صوتى إلى مسامع جار يعمل فى الليل وينام فى النهار فيستيقظ، ويفتح الشباك ويبدأ بالصراخ والتململ قائلًا «ليش ما بيجو يفتحوا الإذاعة هون شو هيدا؟!».
وبينما تحتفل لبنان بميلاد «جارة القمر» التسعين.. كان القصف الإسرائيلى يطيح بغرفتها فى فندق «بالميرا» فى مدينة بلعبك وهى الغرفة التى اعتادت أن تقطنها خلال مشاركتها فى حفلات بلعبك، وهو مبنى تاريخى يعود للعصر العثمانى، احتضن شخصيات فنية مثل صباح، وديع الصافى، الأخوين رحبانى، فريد الأطرش، أم كلثوم، دريد لحم، وغيرهم.
لم تمر أسابيع قليلة حتى اشتعل القصف فى البيت الأثرى الذى ولدت وعاشت فيه فيروز فى حى زقاق البلاط، وهو المنزل الذى قررت بلدية بيروت تحويله إلى متحف إلا أن القرار لم ينفذ حتى الآن رغم محاولات ابنتها ريما الرحبانى عبر السنوات لكن دون صدى، ليصبح المنزل مهددا بين أن يصبح كوما من الرماد بالقصف الإسرائيلى أو الإهمال الذى أطاح بمشروع متحف يليق بمنزل جارة الوادى الذى عاشت فيه إلى جوار شقيقها جوزيف وأختها هدى وهى تخطو أولى خطواتها نحو حبها للموسيقى والغناء.
الجو العائلى الذى تربت فيه فيروز واسمها الحقيقى «نهاد» التى عاشت طفولتها فى عائلة متوسطة الحال لأب يدعى وديع حداد كان عاملا فى مطبعة لجريدة «لو جور»، حيث كانت هى الابنة البكر التى تساعد مع الأم فى تربية باقى أخوتها، حتى تزوجت وغادرت منزل أسرتها فى منتصف خمسينيات القرن الماضى بعد زواجها من الملحن عاصى الرحبانى، لتبدأ مرحلة جديدة فى الفن والحياة.
لكنها ظلت محبة للأسرة والدفء العائلى، وعلى الرغم من الشهرة التى يحظى بها ابنها الموسيقى الكبير زياد الرحبانى وابنتها ريما التى تتولى أعمالها وشئونها، لكن قبل سنوات قليلة تم الكشف ابنها هلى الذى كشف جوانب إنسانية تليق بـجارة القمر.
فالمطربة التى ما دام سحرت الملايين بصوتها الذى يمس الروح، استطاعت أيضا أن تعكس من خلال أمومتها مع ابنها هلى جوانب إنسانية أعمق حيث منحته القوة وألهمت بتجربتها معه الملايين.
قبل عامين وبالتحديد فى عام ٢٠٢٢ كسرت ريما الرحبانى الحصار الذى فرضته فيروز لأكثر من ٦٠ عاما عن ابنها الأصغر هلى، بعدما نشرت ريما صورة تجمع فيروز بابنها –من أصحاب الهمم- وكان الابن الأكبر لفيروز الموسيقى زياد الرحبانى أيضا فى الصورة التى جمعت بينهم جميعا لأول مرة فى إحدى الكنائس فى إحياء ذكرى عاصى الرحبانى، وظهر هلى فى الصورة مقعدا ممسكا بيد والدته.
لتكشف الصورة عن الأمومة الاستثنائية لجارة القمر والتى بدأت فى أواخر الخمسينيات من القرن الماضى وبالتحديد فى عام ١٩٥٨ حين أصيب طفلها هلى الذى لم يكمل ثلاث سنوات وقتها بمرض السحايا، وهو ما تسبب له فى إعاقة صحية وحركية استلزمت تقديم الرعاية الكاملة له، حتى أن الأطباء فى البداية أخبروا فيروز أن هلى لن يعيش لأكثر من ثمانى سنوات، ليخالف التوقعات ويتجاوز الستين من العمر وتظل المطربة اللبنانية الكبيرة تعكف على رعايته حتى بعد أن تجاوزت الثمانين من عمرها، لتكمل دورها الذى بدأته قبل سنوات طويلة حين رفضت أن تدخله إلى مصحة تهتم بشؤونه وقررت أن تتولى هى كل مهام أمومتها، ولم يقف عمرها حائلا أمام خدمته ورعايته وتوفير بيئة آمنة له.
فهى تهتم بالكثير من التفاصيل اليومية مثل الرعاية الصحية، فتذهب معه فى زيارات الأطباء، كما تتولى بنفسها الإشراف على تناوله وجبات تناسب حالته الصحية، كما تساعده فى التفاصيل اليومية مثل الاستحمام وتغيير ملابسه ورعايته الشخصية اليومية.
مسيرة ممتدة يسبقها نبل الأمومة
مسيرة فيروز الغنائية والمسرحية الممتدة والطويلة لم تعطلها عن تكريس الكثير من الوقت لرعاية هلى، ولم يقف جدول أعمالها المزدحم عن أمومتها، التى وضعتها فى المقام الأول.
وهو ما كشف عنه المؤرخ الموسيقى السورى سامى المبيض، حين كشف اعتذار فيروز عن إحياء حفلة فى معرض دمشق الدولى والغناء على خشبة مسرحه، وقال المبيض إن المجلات كتبت وقتها أن السبب هو إصابة طفلها بمرض السحايا، رغم ذلك ثارت وبحسب وصفه ثارت إذاعة دمشق وثارت معها دمشق فى المساء، وغضب الفيروزيون السوريون من غياب نجمتهم المفضلة، وقال: «تجمهروا أمام شُبّاك بيع التذاكر رافضين التعويضَ المادّى، مُطالبين بحضور فيروز». وتابع أن اعتذار فيروز عن الحفل كان لسبب مقنع ونبيل.
فيروز التى ولدت فى منتصف الثلاثينيات من القرن الماضى وتميزت بأسلوبها الموسيقى المميز والعاطفى، حيث غنت للوطن والحياة والحب والأمل، لكن هناك قصة متداولة أن فيروز كانت دائما ما تغنى مقاطع كتبتها بنفسها لـهلى قام بعدها زياد الرحبانى استكمالها وتلحينها لتصبح «سلملى عليه» التى صدرت ضمن ألبوم غنائى «مش كاين هيك تكون» عام ١٩٩٩، حيث قامت فيروز بتأليف كلمات الأغنية فى البداية بطريقة ارتجالية لم تلتزم خلالها بالقافية والوزن.
إرث فيروز الفنى لا ينفصل عن إرثها الإنسانى، فعلاقتها بهلى تضيف بعدًا إنسانيًا لجارة القمر، وتجعل منها نموذجًا للأم التى لم تفقد بوصلة الحب والحنان رغم مشاغلها ومسؤولياتها وكونها واحدة من أهم المطربات فى الوطن العربى فى القرن العشرين، وإن كان العدو الإسرائيلى تمكن بالعدوان الغاشم والقصف هدم معالم أثرية هامة، لكنه لم ينجح فى محو عطائها الكبير، لن ينجح فى هدم المشاعر والحب ولا الأرض.