دكتور مصطفى ثابت يكتب.. لماذا نعجز عن التغيير؟
رغم محاولات الكثيرين لإحداث تغييرات جذرية في حياتهم، مثل تحسين الصحة أو تطوير المهارات الشخصية، فإنهم غالبًا ما يجدون أنفسهم يعودون إلى نقطة البداية بعد وقت قصير. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا نعجز عن التغيير رغم الإرادة والرغبة؟ الجواب يكمن في مزيج معقد من العوامل النفسية والاجتماعية التي تتداخل لتعطيل عملية التغيير.
نظام الحماية الداخلي: العقل يبحث عن الأمان
العقل البشري مبرمج على حماية الإنسان من المخاطر المحتملة والتهديدات. هذا ما يُعرف بـ”نظام الحماية الداخلي”، وهو مجموعة من الدفاعات النفسية التي تتكون بمرور الزمن استجابة لتجاربنا السابقة. على سبيل المثال، عندما يحاول الشخص البدء بروتين رياضي جديد، قد يبدأ بحماس، لكنه سرعان ما يشعر بعدم الراحة ويجد نفسه يتراجع. هنا يتدخل العقل، مفسرًا التغيير على أنه تهديد للاستقرار الحالي حتى لو كان هذا الاستقرار غير صحي. على سبيل المثال، يمكن للعقل أن “يقنع” الشخص بأنه مرهق أو مشغول جدًا ليتابع الرياضة، مما يؤدي إلى التراجع عن القرار.
الخوف من التغيير: المجهول يثير القلق
التغيير بطبيعته يثير الخوف، لأن الإنسان يميل إلى البقاء في المنطقة المألوفة له حتى وإن كانت غير مرضية. أحد الأمثلة البارزة هو الخوف من ترك وظيفة غير مرضية. كثيرون يعلمون أن هناك فرصًا أفضل في مكان آخر، لكنهم يترددون بسبب الخوف من المجهول. المخاوف من الفشل، من عدم التكيف مع البيئة الجديدة، أو من عدم تحقيق النجاح المتوقع تسيطر على تفكيرهم. العقل يميل في هذه اللحظات إلى استحضار أسوأ السيناريوهات، مثل عدم العثور على وظيفة جديدة أو مواجهة صعوبات مالية، مما يعرقل اتخاذ خطوات جادة نحو التغيير.
التعاطف مع النفس أثناء التغيير: الفشل ليس النهاية
عندما يحاول الشخص إحداث تغيير في حياته ويواجه انتكاسات، فإنه غالبًا ما يقع في فخ القسوة على النفس. هذا الشعور بالذنب قد يؤدي إلى توقف المحاولة بالكامل. لكن التغيير ليس عملية خطية، ومن الطبيعي أن تحدث عثرات. على سبيل المثال، قد يحاول الشخص تحسين نظامه الغذائي والالتزام بخطة صحية، لكن في يوم ما يتناول وجبة غير صحية. بدلًا من الشعور بالإحباط والتوقف عن المحاولة، يجب أن ينظر إلى هذا الخطأ كجزء من عملية التعلم والنمو. القبول بأن الفشل جزء من الرحلة يمكن أن يجعل الطريق نحو التغيير أكثر سلاسة وأقل إرهاقًا.
أهمية البيئة والعلاقات في التغيير: الأشخاص حولك يصنعون الفارق
العلاقات الاجتماعية تؤثر بشكل كبير على قدرتنا على التغيير. البيئة التي نعيش فيها والأشخاص الذين نتفاعل معهم قد يكونون إما محفزين أو معرقلين للتغيير. إذا كان الشخص يسعى إلى الإقلاع عن التدخين، على سبيل المثال، لكن أصدقائه المقربين لا يزالون يمارسون هذه العادة، فإنه سيجد صعوبة كبيرة في الالتزام بقراره. في المقابل، إذا أحاط نفسه بأشخاص يدعمونه ويشجعونه على التغيير، فإن فرص النجاح تزداد. تغيير البيئة المحيطة، أو حتى إدخال أفراد جدد داعمين، يمكن أن يكون له تأثير كبير على قدرتنا على التغيير.
التحفيز الداخلي والخارجي: ما الذي يدفعك؟
هناك فرق كبير بين التحفيز الداخلي، الذي ينبع من داخل الشخص ويعتمد على رغباته وأهدافه الشخصية، والتحفيز الخارجي الذي يأتي من ضغوط المجتمع أو رغبة في إرضاء الآخرين. على سبيل المثال، إذا كان الشخص يحاول فقدان الوزن فقط بسبب رغبة الآخرين أو لتجنب الانتقادات، فمن المحتمل أن يتوقف عن المحاولة بمجرد غياب تلك الضغوط الخارجية. أما إذا كانت دوافعه نابعة من رغبة حقيقية في تحسين صحته والشعور بالراحة النفسية، فإن هذا التحفيز الداخلي سيجعل التغيير أكثر استدامة على المدى الطويل. التحفيز الداخلي يضمن استمرار الجهد حتى في غياب التوقعات المجتمعية أو الضغوط الخارجية.
التغيير التدريجي والمستدام: خطوة بخطوة نحو النجاح
التغيير الحقيقي لا يأتي من التحولات الجذرية المفاجئة، بل من التقدم التدريجي والمستدام. هذا النوع من التغيير يمنح العقل والجسم الوقت للتكيف مع العادات الجديدة، مما يقلل من المقاومة الداخلية. على سبيل المثال، بدلًا من محاولة ممارسة الرياضة لساعة يوميًا من اليوم الأول، يمكن للشخص البدء بخمس دقائق في اليوم ثم زيادتها تدريجيًا. هذا النهج التدريجي يجعل التغيير أقل إرهاقًا وأكثر استدامة.
أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو إدارة الوقت. بدلًا من محاولة تنظيم كل دقيقة من اليوم بشكل مفاجئ، يمكن البدء بجدولة مهام صغيرة في جدول يومي ثم بناء نظام أكثر تعقيدًا مع الوقت.
التغيير ممكن لكنه يتطلب فهمًا عميقًا
في النهاية، التغيير ليس عملية سريعة أو سهلة. يتطلب التغيير فهمًا عميقًا للعوامل النفسية والاجتماعية التي تؤثر فينا. التعامل مع المقاومة الداخلية، التغلب على الخوف، الاعتماد على التحفيز الداخلي، وإحاطة النفس ببيئة داعمة كلها عوامل تساهم في تحقيق التغيير المستدام. المهم هو إدراك أن التغيير عملية تتطلب الصبر، والتعاطف مع النفس، والخطوات التدريجية.