من كتاب «أحاديث السحاب» للكاتب الصحفى الكبير عادل حمودة.. هيكل الاختلاف لا ينفى الإعجاب (2)

مقالات الرأي

الأستاذ عادل حمودة
الأستاذ عادل حمودة

وُلد هيكل فى 23 سبتمبر 1923، تفتحت عيناه الثاقبتان على حى «الحسين» فى بيت جده لأمه عبدالله سلام، تاجر الحبوب والغلال. يساعده فى تجارته ابنه الأكبر سلام الذى أثّر كثيرًا فى حياة هيكل بالكتب التى كان يشجعه على قراءتها.

فيما بعد هُدم البيت ليُبنى على أنقاضه «مستشفى الحسين الجامعى».

تأثر هيكل بأمه «هانم» التى كانت أصغر الأبناء. تزوجت من والد هيكل (تاجر الحبوب والغلال أيضًا) رغم فارق السن الكبيرة بينهما ورغم أنه كان متزوجًا من سيدة أخرى هى «صالحة»، وأنجبت منه عددًا من الأولاد والبنات منهم أحمد ومجاهد اللذان كان يساعدانه فى التجارة، ولكنهما أضاعا الكثير من المال فى سهرات اللهو وحياة الليل فى منطقة «روض الفرج» حسبما سمعت من هيكل نفسه.

كانت الأم متعلمة فكانت تقرأ للأب ما يشتريه شقيقها من كتب وشهد لها ببراعتها فى رواية الحكايات الشعبية («الزير سالم» و«أبوزيد الهلالى» و«الأميرة ذات الهمة») التى شدَّت هيكل إلى عالم آخر بعيد عن الحبوب والغلال.

لكنْ حدث الصدام فى العائلة الصغيرة عندما أراد الأب أن يصبح هيكل أزهريًّا، ولكن أمه وخاله انتهزا فرصة سفره إلى السودان وألحقاه بمدرسة «خليل أغا»، حيث كان إحسان عبدالقدوس يدرس.

ورغم أن إحسان عبدالقدوس كان يؤمن بأن ما يُظهره هيكل لا يمتّ بِصلة لما يبطنه فإن هيكل أصر على أن يهديه الكثير من كتبه.

فى الطبعة الأولى من «سنوات الغليان» كتب هيكل: «إلى صديق الصبا والشباب وما بعدهما إحسان عبدالقدوس مع كل الود والمحبة».

ولكنَّ شيئًا ما جعل هيكل يكتفى بإهداء كتبه إلى السيدة «لولا» زوجة إحسان عبدالقدوس، ومنها كتاب «أكتوبر السلاح والسياسة».

كان إحسان عبدالقدوس يرى أن هيكل لا يدخل مكانًا إلا وسعى إلى السيطرة على «الرأس الكبير» فيه، ولكنْ مؤكدًا أن هناك حادثًا ما جعل إحسان عبدالقدوس ينتقم من هيكل بكتابة رواية «غابت الشمس ولم يظهر القمر» عنه.

من جانبه أوحى فتحى غانم أنه يقصد هيكل فى ثلاثية «الرجل الذى فقد ظله».

وذات يوم التقيا فقال فتحى غانم:

- أهلًا بالرجل الذى فقد ظله.

ورد هيكل:

- أهلًا بالرجل الذى فقد عقله.

وكما كُتبت روايات تحاول النيل من هيكل قُدمت رسائل لنيل الدكتوراه فى سيرته ومهنته وقوته فى جامعة «السوربون» الفرنسية وجامعة «أيوا» الأمريكية.

لكن كيف وصل هيكل إلى تلك المكانة العالمية الرفيعة؟

لِنَعُدْ بعيدًا إلى الوراء...

كان هيكل فى طفولته يمتلك خيالًا يحلق به بين السحب البعيدة، وضاعف من خياله حكايات عم حامد حارس البيت الذى كان يعود إليه من المدرسة حمايةً من شرور الطريق، كان حامد واحدًا من الجنود الذين حاربوا مع الجيش المصرى فى «القرم» بأمر من الخديو إسماعيل، ولم يتردد فى رواية ذكرياته لهيكل، ولكن الأهم أنه كان يعتقد أن الثعبان عندما يعمِّر ألف سنة ويموت تتحول عيناه إلى نوع نادر من الأحجار الكريمة؛ ياقوت أو ألماس مثلًا. وأقنع هيكل بذلك فكانا يخرجان إلى جبل المقطم ليفتشا عن عيون الثعابين الثمينة.

استسلم الأب للأم لتعليم ابنه بعيدًا عن الأزهر لكنه أصر على دخوله مدرسة «التجارة» المتوسطة ليمسك حسابات تجارة والده، ولكنه لم يقبل بدفن أحلامه تحت غبار الحبوب.

كان هيكل يحلم بمكان فى السماء ليناطح السحاب ويواجه الشمس ويمد يده ليكبش النجوم أو ليشرب حليبها. ربما لهذا السبب كانت أولى أمنياته أن يصبح طيارًا، لكنه تنازل عن تلك الأمنية كما تنازل عن أمنية أن يكون نجمًا فى ملاعب كرة القدم، وراح يتصور نفسه طبيبًا مشهورًا، ولكنَّ الطريق إلى الطب لا يبدأ من مدرسة التجارة.

جاءت الفرصة عندما أُتيح له حضور محاضرات سكوت واطسون، الصحفى «الإيجيبشيان جازيت». كان ذلك فى عام ١٩٤٢.

اختاره سكوت واطسون، هو وثلاثة غيره، للعمل «مساعد صحفى»، وكانت مهمته الأولى فى حيٍّ مشبوه عليه أن يأتى برأى العاهرات فى قرار إلغاء الدعارة، ونجح بمساعدة صاحبة المقهى فى مهمته (راجع كتابنا «هيكل- الحياة الحرب الحب»).

وكانت المهمة الأخطر تغطية الحرب فى العلمين.

وبانتهاء الحرب انهارت «الإيجيبشيان جازيت» وراح هيكل يبحث عن فرصة فى مطبوعة عربية، ونشر عدة مقالات فى «روزاليوسف»، ولكنه وجد نفسه أكثر فى «آخر ساعة».

لو رجعنا لكتاباته فى تلك الفترة (عن الكوليرا، وخُط الصعيد، وعيد ميلاد الملك فاروق) سنجد الطابع الأدبى يغلب عليها وتفتقر إلى المعلومات وآراء البشر.

لن نعرف أسلوبه الذى اشتهر به إلا بعد أن اقترب من عبدالناصر وأصبح وثيق الصلة به، بل إننا لم نجد تدفق الوثائق فى كتاباته إلا بعد رحيل عبدالناصر، حيث أخرج ما كان يحتفظ به من ملفات وحكايات وأسرار.

المؤكد أن عبدالناصر منح هيكل تميزًا مهنيًّا تعلّمنا منه، كما أطلعه على خبايا وضعته على القمة فى صحافة الدنيا ومنحته فرصة التعرف على شخصيات حاكمة ومؤثرة ما كان ليصل إليها مهما كانت براعته.

ودعمت علاقته بالسادات اتجاهه ناحية العالمية.

ولكن بنشره كتاب «خريف الغضب» ضد السادات، لم يعد حكام مصر فيما بعد يقرِّبونه إليهم خشية أن يفعل بهم ما فعله بالسادات.

وبمرور الوقت نفدت الوثائق التى تحت يد هيكل والتى جذبت الناشرين الكبار فى العالم إلى مؤلفاته، ولم يعد أمامه سوى النشر المحلى.

ولكنه لم ينسَ أن يتذكر أيام المجد القديم -بمناسبة أو من دون مناسبة- بالحديث عن علاقاته القديمة بالرؤساء والمشاهير الذين سيطروا على الدنيا قبل عقود.

ومنذ أن صعد نجمه فهم قانون التعامل مع السلطة: استجب لما يريد الرئيس. لا تكشف لأحد عمّا يدور بينكما من أحاديث. ابتعد بحياتك الخاصة عن الحياة العامة حتى لا يجد الخصوم فيها منفذًا لطعنات جارحة إن لم تكن قاتلة.

بعد ١٨ شهرًا من ثورة يوليو أصبح هيكل النجم الأول فى «أخبار اليوم» بعد أن أصبح قريبًا من عبدالناصر ومسموع الكلمة عنده، حتى إن مصطفى وعلى أمين أدخلاه فى وصيتهما التى كُتبت فى اليوم الأخير من عام ١٩٥٣، وطبقًا لتلك الوصية فإن هيكل واحد من عشرة لهم الحق فى إدارة «أخبار اليوم» (منهم محمد التابعى وأم كلثوم وكامل الشناوى وجلال الدين الحمامصى).

فى عام ١٩٥٥ رشحت الشائعات أسماء فتيات بعينها للزواج من هيكل، لكنَّ هيكل خرج بمفاجأة خيَّبت كل الظنون.

كان هيكل فى زيارة لعائلة صديقة عندما قابل هناك هدايت علوى تيمور بالصدفة، وكانت بصحبة والدتها، ويبدو أن ثراء عائلتها صعَّب اللقاء الأول بعد أن هاجمت والدتها عبدالناصر بسبب قانون الإصلاح الزراعى.

كانت هدايت متطوعة نشطة فى جمعية «الهلال الأحمر» وجمعية «النور والأمل» التى ترعى المكفوفين وترأسها السيدة استقلال راضى.

فى زيارة لـ«أخبار اليوم» لجمع التبرعات استقبلها هيكل فى مكتبه ليَعِدها بحملة تبرعات بالكتابة والاتصالات، وبالفعل نشر افتتاحية «آخر ساعة» يوم ٢٧ أكتوبر تحت عنوان «الدنيا بخير»، بل نجح فى إقناع عبدالناصر بالتبرع بخمسة جنيهات كانت كفيلة بأن يقلّده مئات من البشر فى ساعات محدودة.

فى ٢٧ يناير عام ١٩٥٥ تزوج هيكل وهدايت التى قررت منذ اللحظة الأولى تحديد مجالها الذى تتحرك فيه كزوجة وأم وعضو جمعية خيرية فقط.

وعندما شبَّ الأولاد (على وأحمد وحسن) سافرت معه مرات، وفى رحلة إلى الهند شاهدت آثار ملوك المغول فى «فاتح بورسيكرى»، وفى رحلة إلى الأندلس بُهرت بالحضارة الإسلامية، ومع مضيّ الوقت ظهرت عليها أعراض عشق دراسة العمارة والفنون الإسلامية وقررت الالتحاق بكلية الآثار، ورغم أنها تحمل شهادة البكالوريا الفرنسية فإنها بدأت فى دراسة الثانوية العامة العربية لتحقق شرط الالتحاق بكلية الآثار.

نالت شهادتها الجامعية بتفوق حتى انضمت إلى سلك التدريس دون أن يعرف أحد أنها زوجة هيكل، وحصلت على الماجستير برسالة عن «العمارة العثمانية فى مصر»، وقبل أن تنتهى من الدكتوراه قررت أنها لا جدوى منها لأنها ليست فى حد ذاتها هدفًا.

تجمع هدايت تيمور بين المجاملة والخجل، وهى شديدة الترحيب بضيوفها مهما كان عددهم، لكنها سرعان ما تنسحب فى انتظار أن يأتى «محمد» كما تناديه، ويبدو ذوقها الكلاسيكى واضحًا فى أثاث مكتب زوجها، وفى بيتهما يحتفظ لها هيكل بلوحة زيتية، ولكن يندر أن تجد لها صورة منشورة فى صفحات المجتمع كأنها نبات لا يُزهر إلا فى الظل.

وعندما ساءت العلاقات بين هيكل والسادات توقع هيكل اعتقاله، وفى تلك الفترة طلب من زوجته ألا تتصل إلا بشخصين هما الدكتور محمود فوزى رئيس الوزراء الأسبق، وممتاز نصار المحامى.

وذات صباح كنت إلى جوار هيكل على شاطئ «قرية الرواد» عندما جاءت سيرة ابنه أحمد، فأبديتُ ملاحظة جعلت هيكل يستدعى هدايت قائلًا:

- عادل لاحظ أن وزن أحمد زاد بعد أن التقاه مؤخرًا فى مكان ما... لا بد من تنبيهه.

وعندما قرر حسن أن يتزوج دُعيت لحضور حفل زفافه فى «البلفدير» الذى يقع فى الدور العلوى من فندق «هيلتون النيل» (ريتز كارلتون فيما بعد).

لم يكن عدد المدعوين من أصدقاء هيكل ليزيد على الخمسين، وحتى اليوم لم تُنشر صورة واحدة من الحفل.

أما على فكنت أراه أحيانًا فى مكتب والده ليطمئن على صحته.

على طبيب فى «قصر العينى» جهّز غرفة أحد نوابه بجهاز تكييف ليعيش فيها والده بعد أن نجح ممتاز نصار فى نقله سجينًا إليها خوفًا على تدهور صحته.

ولا ينسى الصحفيون موقف هيكل من القانون (٩٣) لسنة (١٩٩٥) حين بعث إلى الجمعية العامة لنقابة الصحفيين برسالة وصف فيها القانون بأنه «يعكس أزمة سلطة شاخت فى مواقعها وهى تشعر أن الحوادث تتجاوزها ثم إنها لا تستطيع فى نفس الوقت أن ترى ضروريات التغيير، وهنا لا يكون الحل بمعاودة المراجعة والتقييم ولكن بتشديد القيود وتحصين الحدود كأن حركة التفكير والحوار والتغيير تستحق أن تُوضع فى قفص».

لكن بالرجوع إلى أرشيف هيكل بعد ثورة يوليو وتزايد علاقته برجالها وأولهم عبدالناصر، سنجد موقفًا متناقضًا تمامًا. فبعد ٢٠ يومًا فقط على الثورة طالب بتطهير الصحافة فى مقال نشره فى «آخر ساعة» (١٣ أغسطس ١٩٥٢) متهمًا الصحفيين بأنهم لا يكفّون عن توجيه الاتهامات إلى الناس كأنهم كلاب صيد، وفى الوقت نفسه لا يقبلون بأن ينتقدهم أحد.

وطالب بتدخل ديوان المحاسبة ليفحص الذمة المالية للصحف «لنعرف مصادر تمويلها وكيف تعيش»، وطالب بإلغاء المصاريف السرِّية وإعلان أسماء الذين يحصلون عليها، ووجدتها السلطة الجديدة فرصة لتتهم بتقاضيها مَن تشاء، وهكذا بلا ذنب وُضع اسم كامل الشناوى وفاطمة اليوسف.

ورأى الصحفيون الدعوة لتطهير الصحافة دعوة ظاهرها الشرف وباطنها التدخل فى شؤونهم وتقييد حريتهم والتفتيش فى عقولهم، كما أنهم تذكروا أن هيكل قبل الثورة سبق أن حرر إعلانات عن شركات رجال أعمال وتقاضى مبالغ كبيرة بالمخالفة لقواعد العمل فى النقابة.

وأحالت النقابة هيكل إلى مجلس تأديب، ولكنَّ السلطة كانت معه فلم يمسه أحد بسوء، بل صعد نجمه وزاد تأثيره.

وبتأميم الصحف أصبح هيكل أقوى من ملّاكها السابقين رغم أنه الوحيد الذى لم يكن يملك صحيفة.

فيما بعد عندما التهبت العلاقة بين السادات وهيكل تعرض هيكل لاتهامات سبق أن وجَّهها لصحفيين بعينهم.

كان نجم التليفزيون الأمريكي# (قناة سى بى إس) يزور هيكل، وما إن سار معه حتى المصعد ليودِّعه -كعادته مع ضيوفه- سأله:

- محمد هل عندك مشكلة مع الضرائب؟

- سؤال غريب غير متوقع.

- كنت عند السادات وقال إنه سيحاكمك بتهمة التهرب من الضرائب وسيقوم بسجنك خمس سنوات.

- كلام فارغ.

لكن الكلام الفارغ سرعان ما أصبح كلامًا جادًّا باستدعاء هيكل للتحقيق أمام المستشار عدلى حسين (المحافظ فى ما بعد).

اتُّهم بأنه تقاضى من «الأهرام» ٢٠٠ جنيه شهريًّا لم يسدد عنها ضرائب، وكان رده أنها مصاريف مكتب تُسأل عنها سكرتيرته.

واتُّهم بأنه أخذ ١٢ ألف جنيه من «الأهرام» دون وجه حق، وكان رده أن صحفيًّا هنديًّا كان على صلة طيبة برموز الدولة أراد السفر إلى إسرائيل عارضًا التعاون مع الجهات المختصة فى مصر وكُلف هيكل بدفع تكاليف الرحلة (١٢ ألف جنيه) وكان لديه إيصال موقع من السادات بأن الصرف حدث بأمر منه.

وفى صيف ١٩٧٨ واجه هيكل تحقيقًا سياسيًّا أمام المدعى العام الاشتراكى المستشار أنور حبيب استمر ٣٠ ساعة، للتفتيش فى أفكاره التى أعرب عنها فى كتاباته وأحاديثه، ونُشرت وقائع التحقيق فى كتاب خاص فى فيما بعد.

والسؤال الذى حيَّر كل من تناول سيرة هيكل:

- هل كان مشاركًا فى الأحداث أم كان يحرص على ألا يتجاوز حدود تغطيتها؟

ويقدم هيكل الإجابة بنفسه.

فى الجزء الثالث من كتاب «المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل» يروى قصة تكوين «حركة تحرير فلسطين» واختصار حروفها الأولى «حتف»، مما جعل مؤسسيها يعكسون الحروف لتكون «فتح». وبتكليف من عبدالناصر جلس هيكل مع رموزها ليستمع منهم قبل أن يحملهم فى سيارته إلى عبدالناصر، كما أن عبدالناصر كلَّفه بالتوفيق بينهم وبين القادة فى موسكو عندما سافر معه ياسر عرفات تحت غطاء محكم بصفته عضوًا فى «الوفد» حتى لا يلفت نظر إسرائيل.

قبل ذلك بسنوات طوال صاغ هيكل أفكار عبدالناصر فى كتاب «فلسفة الثورة»، كما شارك فى صياغة «ميثاق العمل الوطنى»، لكنه فى الوقت نفسه حرص على ألا يخرج من بلاط صاحبة الجلالة ورفض أكثر من مرة أن يكون وزيرًا، وعندما قَبِل حقيبة الإعلام بعد هزيمة يونيو اشترط أن يحتفظ برئاسة تحرير «الأهرام».

مراجعة كتب وأحاديث هيكل تعطينا أمثلة لا حصر لها على أن هيكل كان يلعب دورًا مزدوجًا متنقلًا بين الصحافة والسياسة، بين المقالات العلنية والمهام السرية.

لكن تظل رغبته فى السيطرة على «الرأس الكبير» عُقدته الشخصية والمهنية التى تسببت فيها علاقته بعبدالناصر، وزادت عندما ورث الدور نفسه مع السادات، لكن السادات استوعبه واستغله ثم عند حدٍّ ما أبعده، بل وسجنه. هنا عبَّرت العقدة عن نفسها غضبًا وانتقامًا فى «خريف الغضب».

نجح مبارك فى تحييده متجنبًا قرص النحل ولو لم ينل عسله، وإن عرض عليه تحمل تكاليف العلاج، إلا أنه رفض، وعندما تنحى مبارك لم يكن هيكل يعرف الكثير عن خباياه ومن ثم جاء كتابه «مبارك وزمانه» خفيفًا بسيطًا أقل مما اعتدنا عليه فى كتبه السابقة.

وسنحت فرصة مع محمد مرسى، ومن جانبهم كان الإخوان بانتهازية واضحة مستعدين للاستفادة منه فى ظل الظروف السياسية المضطربة التى انفجرت بوصولهم للرئاسة، وأقنعهم بذلك عصام العريان الذى سبق أن دعاه هيكل -مع ٢٥ صحفيًّا مثقفًا- للقاء الرئيس الإيرانى محمد خاتمى فى مزرعة برقاش، وكنتُ هناك.

وبالفعل قدم هيكل نصائحه تليفونيًّا بالساعات إلى محمد خاتمى قبل السفر إلى طهران لتسليم قيادة عدم الانحياز لإيران، ولم يكن رأى هيكل فيه -حسبما سمعت منه- إيجابيًّا.

«إنه يفكر بالعرض لا بالعُمق».

هكذا لخَّص محادثاته الهاتفية معه.

وفى الوقت الذى ارتفع فيه الغضب ضد الجماعة استجاب هيكل لدعوة من محمد مرسى وزاره فى قصر الاتحادية وتظاهرات المعارضة على بُعد خطوات منهما، وما إن انتهت المقابلة حتى طالب هيكل جبهة الإنقاذ بالتفاهم معه بدعوى أنه لن يسقط بسهولة.

وهنا فقد هيكل كثيرًا من أنصاره الكبار مثل الدكتور حسام عيسى الذى صرَّح بأنه لن يتابع أحاديثه فى الصحف والفضائيات بعد ذلك.

فى ذلك الوقت بدأ خلافى مع هيكل.

وفى عين حياته نشرتُ حيثيات الخلاف لكنه آثر الصمت مكتفيًا بأن يوهم الصحفيين المقربين منه أن كتاباتى مؤامرة دبَّرتها جهة ما.

وتناسى إن نشر آرائه فى «روزاليوسف» كان سببًا من أسباب الإطاحة بى، على حد اعترافه.

ولا أريد أن أُعيد ما سبق أن نشرت، ولكن لمن يشاء الحكم على موقفى الرجوع إلى كتاب «خريف هيكل».

لكنَّ ذلك لا ينفى أننى واحد من أشد المعجبين والمتأثرين به، ولمن يشاء الدليل عليه الرجوع إلى كتاب «هيكل: الحياة... الحرب... والحب».

ما المانع أن نشيد ونختلف معًا؟

معادلة صعبة ونادرة، ولكنها موجودة فى الحياة الحقيقية مهما غطَّتها قشرة الزيف والنفاق ورؤية المواقف بعين واحدة.


أنور السادات

مهمته الصحفية الأولى كانت فى حيٍّ مشبوه وهى الحصول على رأى العاهرات فى قرار إلغاء الدعارة


إحسان عبدالقدوس

إحسان عبدالقدوس كان يؤمن بأن ما يُظهره هيكل لا يمتّ بِصلة لما يبطنه ويسعى دائما إلى السيطرة على «الرأس الكبير»

 

محمود فوزى

عبدالناصر