عادل حمودة يكتب: الكولونيل الإسرائيلي المتسول في شارع الحمراء!
لكأنه "أبو الريش" الذي ما كان أحد يعرف اسمه فأطلق عليه هذا الاسم لاعتماره قبعة تعلوها ريشة.
يحكي ان "أبا الريش" ظهر في سنة 1976 في شارع الحمرا الشهير قلب بيروت وكان يتنقل رث الثياب وسخ الوجه واليدين حافي القدمين أشعث الشعر واللحية متسربلا صيف شتاء بمعطف أسود ممزق تفوح منه رائحة كريهة كالحمام.
كان الرجل مجهول الاسم والنسب وما استطاع أحد أن يسأله من أين جاء ول لماذا ظهر فجأة في حيهم فقد كان أخرس تماما كالحمام.
وكالحمام كان "المتسول الأخرس" مسالما لطيفا مع الصغير والكبير يتصدق عليه الناس بفضلات طعامهم أو برغيف أو بسيجارة فيرد عليهم بابتسامة ودود.
وكالحمام أيضا عاش بينهم سنوات دون ضغينة ولم يؤذ إنسانا ولا تعدي على أحد.
كالحمام كان ليلا يلتحف السماء وينام في الحدائق على المقاعد العمومية ولا يبدو في النهار معنيا بحرب طاحنة تدور بين البشر إذ لم يعرف عنه انحيازه إلى ميليشيا أو حزب بل كان يبدو غير عابئ بكل ما يجري حوله حتى ان بعضهم أشفق عليه حين اشتدت المعارك وأشار إليه بمغادرة الحي ولكنه واصل حياته متنقلا بين المقاهي التي يرتادها المثقفون والشوارع التي يتقاسمها المسلحون.
وبسبب ضراوة المعارك التي اشعلتها الحرب الأهلية لم يعبأ بأمره أحد ولا انتبه إلى اختفائه وعودته أحد فالجميع في صيف عام 1982 كان مشغولا بالاجتياح الإسرائيلي للبنان وواقعا تحت صدمة دخول إسرائيل لأول مرة عاصمة عربية.
ولكن صدمة أكبر كانت في انتظار سكان الحمراء عندما شاهدوا دورية إسرائيلية تتوقف على بعد خطوتين من المتسول المستلقي على الأرض وتؤدي له التحية العسكرية فينتصب الرجل واقفا ليتبادل مع جنوده جملا بالعبرية.
بعد سنوات من الخرس نطق وقال متوجها إلى الجنود: "تأخرتم بعض الشيء يا جماعة" وصعد على متن الدبابة.
هكذا انتهت مهمة الكولونيل المتسول بعد ان فتح البابا للدبابات الإسرائيلية.
المصدر: "أحلام مستغانمي" كتاب "أصبحت أنت" سيرة روائية.