«شمس» الفتن.. ناقوس خطر
بلا شك إن انضباط المشهد الإعلامي، سيكون له أفضل الأثر في تقويم المجتمع وبناء مجتمع قوي متماسك، يصعب اختراقه وتفتيته وتقسيمه، فضلا عن أن ثقة المشاهد في المنظومة الإعلامية، وعدم اتجاهه إلى مشاهدة القنوات المعادية.
ويجب قياس ذلك على جميع المحتويات التي تقدمها وسائل الإعلام، سواء سياسية أو رياضية أو اجتماعية أو دينية، ليتحقق الانضباط الذي تنشده الدولة من خلال الهيئة الوطنية للإعلام، ولكن هذا يبدو بعيد المنال، فبين الفينة والأخرى، لا بد أن تخرج علينا قناة ما ببرنامج حواري قائم على الإثارة والتجاوز في موضوعات دينية شائكة تفقتد فيها أبسط معايير الموضوعية والانضباط، من أجل مشاهدات كثيرة يريدها القائم على القناة، غير مكترث معها بتأثير تلك التجاوزات على نسيج المجتمع، وما تحدثه من صدع وهدم لقيم وثوابت دينية وأخلاقية واجتماعية.
على شاشة إحدى القنوات الخاصة، التي تغرد خارج السرب على ما يبدو (تغريد سخيف)، عُرضت حلقة نقاشية حول مسألة دينية نتيجة تصريح من الفنانة إلهام شاهين على مخرج كان يترك لوكيشن التصوير ليؤدي الصلاة على وقتها، وبعيدا عن تلك القضية التي تعد جلية وواضحة وضوح الشمس في حكم أن يؤدي المخرج الصلاة في وقتها، إلا أن البرنامج أتى بضيف يقول إنه يعمل محاميا، ليتحدث في حكم الصلاة في وقتها وتأخيرها وأسباب تأخيرها، ولا أدري ما علاقة أن يفتي شخص بفتاوى دينية مهمة وهو غير أهل للفتوى، ولماذا اختاره البرنامج ليتحدث إلى الناس بما ليس من اختصاصه.
المحامي أخذ يتحدث هنا وهنا وتركت له المساحة ليفتي بغير علم في كلام لا يفهمه، ويبدوا أنه جاء على هواه فكرة عدم أداء الصلاة في وقتها ولديه رأي مسبق في فكرة عدم الصلاة أصلا ضاربا عرض الحائط بالآيات القرآنية الصريحة التي تنص على وجوب أداء الصلاة في وقتها مثل (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) والآية التي تنص على تجريم التهاون في أداء الصلاة على وقتها مثل (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون)، وكذلك الأحاديث النبوية الصريحة التي توضح وجوب الصلاة على وقتها مثل ما جاء في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، وكذلك الأحاديث التي تفسر الأحوال التي يجوز فيها تأخير الصلاة ومنها مثلا المطر والخوف والسفر وفيها تفسيرات جاءت بها أحاديث نبوية صريحة.
وما زاد الطين بلة، أن استضاف البرنامج شيوخا وقامات دينية -مع كل الاحترام لها- لتوضح حكم تأخير الصلاة، وتفند ادعاءات المحامي، ولكن لم تكن ردود معظمهم كافية، إما لشوشرة المحامي الدائمة وتشتيته للمتحدثين عبر الهاتف، وإما لعدم إعطائهم المساحات الكافية في الرد، وهنا لي أن أسأل كيف لبرنامج يناقش قضية دينية حتى ولو كانت معروفة أحكامها في أبسط الأمور للعامة، أن يأتي بشخص غير متفقه في الدين ليفتي للناس؟ ولماذا -ومع احترامي لكل الشيوخ والقامات التي تحدثت هاتفيا إلى البرنامج- لم يستعن القائمون على الإعداد بشيوخ الأزهر المختصين بالرد على مثل تلك القضايا؟
كما أتسائل، ما الهدف من تلك المناقشات أصلا في ذلك الوقت؟ ولصالح من أن تثير بلبلة يمكن أن تتنهي بتوجيه سؤال إلى الجهة المخولة بالفتوى مثل الأزهر الشريف أو دار الإفتاء لتوضيح قضية ما، بدلا أن نترك المساحة إلى من هم غير مؤهلين للحديث في أمور دينية؟
إن الصورة التي عرضت بها الحلقة قميئة جدا، تجعل المشاهد يشعر بالغثيان، لعدة أسباب: إدارة الحوار من المذيع الذي أراه ضعيفا جدا غير كفء لإدارة الحوار، وتركه الفرصة للمحامي ليشتت المتحدث ويقطع عليه الكلام، ويُشعّب الموضوعات ليظهر كأنه انتصر، لعدم استطاعة المتصل الرد على أكثر من موضوع.
وكذلك اختيار البرنامج لشخص المحامي الذي بدى من كلامه أنه يرفض أصلا فكرة الصلاة، فهو يتمسك دائما بكلمة (أصل دا عقد عمل وصاحب العمل اللي يحدد الصلاة جائرة ولا لأ، ولازم تؤدي العمل كله وبعد كدا تصلي أو متصليش)، فضلا عن إثارته الجدل في فقرة أخرى من البرنامج بالحديث عن المساكنة وعدم ممانعته أن تدخل ابنته في علاقة مساكنة مع شخص آخر ما دام تتوافق مع الحداثة وما إلى ذلك.
تلك القناة ليس الوحيدة التي تسير في هذا الطريق، بفتح موضوعات جدلية، لا جدوى من النقاش فيها إلا مضيعة الوقت وزيادة الانقسام من أجل الحصول على الترافيك الملعون، فهناك ثلة من القنوات التي تلهث وراء التريند التي تتعمد الخوض في الأمور الشائكة مثل الحجاب والميراث والناسخ والمنسوخ والمساكنة وإرضاع الكبير وصحة أحاديث البخاري ومسلم، وكأن تقدم الدولة تعيقه تلك الموضوعات، وليس هذا فقط، بل تمتد المناقشات إلى الرياضة في قصة الأهلي وزمالك وبيراميدز، وغيرها من المجالات الأخرى.
وأخاطب الهيئة الوطنية للإعلام: المشهد لا يحتمل كل هذه الشروخ التي تحدثها تلك البرامج التي تلهث خلف التريند والسوشيال ميديا لتحقيق مشاهدات وأرباح على حساب أمن ووحدة وسلامة المجتمع، الأمر يتطلب الضرب بيد من حديد على تلك البرامج ولو لمرة واحدة حتى يخاف أرباب الترافيك والتريند.
كما أن حديثي أيضًا موجه للأزهر ولدار الإفتاء: لا تتركوا المجتمع فريسة لكل ذي غرض مسموم يسعى للحصول على موطئ قدم ليبث سمومه بين الناس، يستغل جهل البسطاء لسيطر على عقولهم ويبعدهم -أكثر مما هم عليه- عن دينهم.
لا بد من إنشاء وحدة جديدة، أو تكليف الجهة المنوط بها في المؤسستين الدينيتين الكبريين في مصر (الأزهر والإفتاء)، للرد على كل ما يثار من شبهات ومنها بالطبع قضية تأخير الصلاة التي طرحتها الفنانة إلهام شاهين، وقطع الطريق على المتربصين وذوي القلوب المريضة الذين يفضحهم رأيهم ويكشف عن كرههم للدين.
الأمر ناقوس خطر، يشير بما لا يدع مجالا للشك أننا ممقبلون على انهيار كبير وتصدع في نسيج المجتمع، الذي تتطلب اللحظة الراهنة تماسك أطيافه كافة، خلف الدولة وقيادتها لمواجهة التحديات المحيطة بنا، وتجاوز الأوضاع الاقتصادية التي نعاني منها.