غزة.. رسائل النصر والثبات
مع فجر كل يوم جديد، يزداد المشهد قتامة في قطاع غزة، الذي أصبح شبه مستوٍ بالأرض، جراء حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الصهاينة، على المدنيين العزل الأبرياء.
تلك القتامة التي يتجرع معها الغزيون الويلات ليل نهار، منذ هجوم السابع من أكتوبر ونحن على نقترب من نهاية الشهر العاشر، حالكة وتزداد سوءا بعد سوء، فمشاهد القتل ترتفع يوميا وعدد المنازل المدمرة كذلك، والجثث ملقاة على الطرقات -تنهشها الكلاب الضالة- وأسفل الأنقاض لا تصل إليها طواقم الإسعاف، والبنية التحتية للمؤسسات الخدمية (مدارس - جامعات - مستشفيات - مخابز إلخ......) أصبحت والعدم سواء.
ولا مبالغة في وصف حال القطاع حاليا، بأنه أصبح منكوبا، فما أدل على ذلك من عدد الشهداء الذي يتجاوز الـ40 ألفا، إضافة إلى الجثث التي يواريها ركام المنازل والمنشآت المختلفة في القطاع، وأكثر من 100 ألف مصاب، وتشريد مئات الآلاف الذين يقطنون الخيام والمنازل المهدمة، ونسف أكثر من 85% من المنازل في القطاع وبنيته التحتية.
كل ما سبق خراب كبير وخسارة في القطاع، من وجهة نظر فريق يرى أن الصهاينة قد نجحوا في مخططهم، وأرى أن ما يحدث ليس خسارة للفلسطينيين، فالله تعالى له حكمة في اصطفاء كل هذا العدد من الشهداء، والموت آت آت لا محالة سواء بصاروخ أو بالجوع أو بالوفاة الطبيعية، فلكل أجل كتاب، يقول الله تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ» الآية 38 سورة الرعد، ولكن ما أعظمها وفاة إذا كان الله أراد أن يكون صاحبها شهيدا.
والقرآن والسنة لم يتركا مسلكا في إيضاح فضل الشهادة إلا وبيناه، يقول الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ»، 111 سورة التوبة، وقوله «اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» 124 سورة الأنعام، وقوله «إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُۥ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ» 140 آل عمران، وغيرها من الآيات التي تشير إلى اختصاصه سبحانه وتعالى باصطفاء من يشاء من عباده شهداء، وهذا بالطبع يسري على غزيي القطاع الذين يدفعون أرواحهم يوميا ثمنا لمقاومة احتلال بغيض جاسم على أنفاسهم منذ أكثر من 75 عاما.
والسُنَّة أيضًا أوضحت فضل الشهادة، فعن أنس بن مالك قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما مِن عَبْدٍ يَمُوتُ له عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهُ أنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنْيا وأنَّ له الدُّنْيا وما فيها، إلَّا الشَّهِيدَ؛ لِما يَرَى مِن فَضْلِ الشَّهادَةِ؛ فإنَّه يَسُرُّهُ أنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنْيا، فيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى».
عملية القتل المنهجة لسكان القطاع ليل نهار من وجهة نظر (من لعنهم الله وغضب عليهم) انتصار، ولكن هيهات هيهات، فمكانة إخواننا عظيمة جدا، فنحتسبهم جميعا شهداء، فها هي قصة أصحاب الأخدود، تخبرنا بفوزهم وتخليد ذكراهم في القرآن الكريم، فقد أمر ملك قريتهم بحفر أخدود كبير وأشعل فيه النار، وألقى فيه المسلمين وقتها، فمن المنظور الدنيوي أنهم خسروا وماتوا وانتصر الملك، لكن الله تعالى أخبرنا أنهم فازوا، بقوله تعالى عنهم، في الآية 11 من سورة البروج «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ».
ماذا جنى سكان القطاع من أفعال المقاومة؟ سؤال منطقي والرد عليه بأن كل شيء مكتوب ومقدر، فالله حكيم في تصرفاته «لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ» الآية 23 سورة الأنبياء، وهو الذي قال في كتابه العزيز «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ» الآية 49 سورة القمر، وهو أيضًا القائل «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» الآية 11 سورة التغابن، وهو القائل في محكم كتابه «قال «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» الآيتان 155 - 156 سورة البقرة، فكل ما يحدث هو بإذنه وبقدرته وبحكمته، وهو عادل لا يظلم أبدا «وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا» الآية 49 سورة الكهف.
لماذا يترك الله الصهاينة الملاعين يفعلون كل هذا في الفلسطينيين؟ مردود عليه بأن الله تعالى جل في علاه، توعد في الكتاب العزيز، إذ يقول في سورة آل عمران في الآية 178، «وَلَا يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوٓاْ إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ»، وليس معنى أنهم متمادون في غيهم أن الله يوافقهم حاشاه، فقال وقوله الحق في القرآن «لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ» 196 - 197 سورة آل عمران.
كما أن ما يحدث يأتي ضمن ما أخبرنا به تعالي، في حديثه إلى اليهود بأنهم سيفسدون في الأرض مرتين وفي المرة الثانية، إن لم يحسنوا -بتقتيلهم وتخريبهم لعباد الله في الأرض- ستكون عاقبتهم من يسوء وجوههم، ويحرر المسجد الأقصى وفلسطين ويهدموا كل ما بنوه طوال احتلالهم «إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا» الآية 7 سورة الإسراء.
لست في معرض توزيع صكوك شهادة على إخواننا في القطاع، ولكني أحتسبهم كذلك، فمن مات دون ماله فهو شهيد، ومن مات دون أرضه فهو شهيد -وهذا ما أراهم عليه- مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم، فيما جاء عن سعيدِ بنِ زَيْدِ بنِ عَمْرو بنِ نُفَيْلٍ، قَالَ: «سمِعت رسُول اللَّهِ ﷺ يقولُ: منْ قُتِل دُونَ مالِهِ فهُو شَهيدٌ، ومنْ قُتلَ دُونَ دمِهِ فهُو شهيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهو شهيدٌ، ومنْ قُتِل دُونَ أهْلِهِ فهُو شهيدٌ»، فالاحتلال البغيض لأرضهم يستبيح أموالهم وأعراضهم وينتهك حرماتهم باستمرار.
ولا أحاول هنا فرض وجهة نظر على أحد، فكل يؤخذ منه ويرد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن وعد الله حق، وقوله حق، ورسوله حق، وكلام رسوله ليس عن هوى، فقد قال الله عز وجل في الآية 3 من سورة النجم «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)»، وما علينا إلا التسليم بقضاء الله وقدره، ولا ينبغي أن نشك ولو لحظة في كلام الله، ولا نيأس من حكمته ورحمته بعباده، بل يكون اليقين دائما أن وعده نافذ وسيتحقق ولا بد للظلمة أن تنقشع ويأتي النهار، ويزول العسر ويأتي اليسر، فهو القائل «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾، في الآية 21 سورة المجادلة.
وأعي جيدا أن الفلسطينيين يعلمون ما أقول، ولديهم من الثبات والعزيمة والإيمان ما يعينهم على هذه المحنة الشديدة، وأدعو لهم ليل نهار أن يثبتهم الله وينصرهم ويرفع عنهم البلاء الذي يبكينا، فقد ولدوا في قطعة غالية من الآرض، مباركة كما قال الله عز وجل «سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» الآية 1 سورة الإسراء، تلك البركة التي تمنحهم الثبات والرضى بقضاء الله وقدره، فهم ومع تلك المحن والبلاءات دائما ما يرددون «الحمدلله».