عادل حمودة يكتب: علموا أطفالكم السياسة في حكايات قبل النوم
- برامج الانتخابات فى الديمقراطيات الأوروبية سببها أسطورة «راتنج فنجر»
- مجانية التعليم تحقق حلم «سندريلا» دون تعويذة الساحرة الطيبة
- الذئب الذى افترس «ذات الرداء الأحمر» ظهر فى غزة حاملًا نجمة داود
- سفينة الأشباح لا تجد ميناء بسبب تعنت القبطان فى حكاية «الهولندى الطائر»
- سياسيون تطول أنوفهم على طريقة خرافة «بينوكيو»
لن نفهم ما يحدث لنا وما يجرى حولنا إلا بالسياسة.
كل شيء فى حياتنا سياسة.
من نظام الحكم إلى رغيف الخبز ومن موضة الثياب إلى طراز العمارة ومن أسلوب التعبير إلى كلمات الحب.
هل يمكن أن يلتقى رجل وامرأة اليوم إلا وكان صندوق النقد الدولى ثالثهما؟
وذات يوم تساءل الجنرال «شارل ديجول» غاضبا: من المجنون الذى يحكم شعبا يأكل كل هذه الأنواع من الجبن؟
وفى مواجهة المد العثمانى اخترع الفرنسيون «الكرواسون» على شكل هلال رمز الإسلام ثم أكلوه.
وفرض اليهود خبز «بيجل» الجاف على العالم ليتذكر أنهم عندما خرجوا من مصر لم يكن لديهم الوقت لتخميره.
أكثر من ذلك سنجد السياسة متنكرة فى حكايات الصغار.
إن هذه الحكايات على بساطة أسلوبها وبراءة أبطالها وجاذبية سردها فيها من النبوءات والتفسيرات ربما ما لا نجده فى كتب السياسة الثقيلة.
راتنج فنجر
وربما لو ذكرنا الكبار بها فإنهم قد يتخذون قرارات صائبة يعالجون بها أخطاء شائعة قاتلة.
فى قصة «ذات القبعة الحمراء» التى أبدعها كاتب فرنسى مجهول هو «شارل بيرو» يلتهم الذئب الجدة العجوز ويرتدى ثيابها ويختبئ تحت فراشها ويضع على عينيه نظارتها ليخدع الطفلة البريئة «ليلي» قبل أن يفترسها على العشاء.
لكن قبل الوليمة الشهية جرى بين الفتاة والوحش حوار مثير سجله «نزار قباني» فى إحدى مقالاته بأسلوبه الساحر:
ــ لم عيناك كبيرتان يا جدتى؟
ــ حتى أراك أجمل يا حبيبتى.
ــ ولم أذناك طويلتان؟
ــ حتى أسمع نغمات صوتك العذب يا نور عينى.
ــ ولم اتسع فمك فجأة؟
ــ حتى أقبلك بحنان يا ضناى.
ــ ولم أسناك حادة؟
ــ حتى أمضغ لحمك بسرعة يا روح جدتك.
لفت «نزار قباني» نظرى إلى أن هذه القصة قصة سياسية موحية.
ذات القبعة الحمراء
سندريلا
الطفلة البريئة صار اسمها مصر والغابة فى الحكاية صار اسمها سيناء التى التهمها الذئب الإسرائيلى بهزيمة «جمال عبد الناصر» فى حرب يونيو.
وما إن انتزعت سيناء من بين أنيابه وأظافره بالقوة العسكرية والمفاوضات الدبلوماسية والمحكمة الدولية حتى استدار باحثا عن فريسة أخرى فى القدس وغزة والضفة الغربية والجولان حيث لا يزال يلتهم أطفال الفلسطينيين ويشرب من دمهم فى صحة الديمقراطية الغربية والسكينة العربية.
ولوحظ أنه يعلق فى رقبته نجمة داود زرقاء صنعتها الولايات المتحدة بيديها حتى يتقى شر الحسد.
ويبدو أننا لم نتعلم الدرس ولم نستوعب ما فيه من حكمة وحنكة فالحياة مع الذئب ليست حياة طبيعية والإقامة معه ليست إقامة مريحة والمفاوضات السلمية والحضارية معه لن تحوله إلى ذئب مثقف متدين يخشى الله ويحترم الجيرة ويعيد الحقوق إلى أصحابها.
السبب معروف ومفهوم لا يحتاج إلى «الموسوعة البريطانية».
إن طبيعة الذئب النفسية والعصبية والعقلية والسياسية محكومة بطول أنيابه وحدة أظافره وجيناته العدوانية التى تكونت منذ ٧٥ سنة واستساغت لحم الفلسطينيين دون سلق أو شوى أو مايونيز.
لقد حان الوقت ليكف العرب عن الرقص مع الذئاب وأن لا نتعامل معها معاملة «الجنتلمان» فهو فى النهاية من فصيلة الكواسر ولو ارتدى «بابيونا» ودخن سيجارا ونطق شعرا حفظه عن «شكسبير» فنحن فى عينيه وأذنيه وأسنانه لسنا سوى «ليلي».
ولو كانت «ليلي» ضحية فإن «سندريلا» ساذجة.
هربت تلك الفتاة اليتيمة من قسوة زوجة الأب وابنتيها إلى صحبة الطيور والشجر والحيوانات الأليفة وهربت من النوم على بلاط بارد لا تحميها منه ثيابها البالية إلى حلم خرافى تأتيه فيها ساحرة طيبة تتعاطف معه وتحولها من هيئة خادمة إلى هيئة «برنسيسة» لتذهب إلى حفل الأمير الذى دعا إليه كل الفتيات ليختار عروسه وفى لحظات وقع فى هواها وأحبها قبل أن يكمل رقصته معها ولكنها جرت منه هاربة والساعة تدق الثانية عشرة ليلا خشية أن ينتهى مفعول السحر وتنكشف حقيقتها وفى جريها فقدت حذاءها الزجاجى.
لم يطق الأمير اختفاءها وكلف رجاله بالطواف على فتيات الإمارة ليجربن الحذاء لعلهم يعثرون على من يدخل الحذاء فى قدمها ليتزوجها.
الحذاء هنا هو المرشد الوحيد إلى سندريلا والدليل الوحيد عليها وهى نقطة ضعف فى الحكاية فالمؤكد أن سندريلا لا تنفرد وحدها بمقياس القدم الذى يصلح للحذاء وهناك بالقطع عشرات الفتيات اللاتى يناسبهن الحذاء.
ولو كان الأمير قد وعد صاحبة الحذاء بالزواج فإنه ربما تورط فى الاقتران بفتاة قبيحة لها نفس مقاس القدم ووصول إليها رجاله قبل أن يصلوا إلى سندريلا.
لكن الأخطر فى الحكاية أن الفتاة المعدمة ليس أمامها سبيل لتغيير واقعها الاجتماعى (والطبقي) والانتقال من قبر تعيش فيه إلى قصر تحلم به إلا بمعجزة سحرية خرافية يصعب تحقيقها إلا فى الخيال.
إن الإنسان البسيط لا يصعد درجات السلم الاجتماعى إلا بالتفوق فى التعليم ليصبح بمعرفته وموهبته وشخصيته مميزا ومؤثرا.
الهولندي الطائر
من هنا كان التعليم المجانى ضرورة لمنح الفقراء فرصتهم الوحيدة (الشريفة) لتغيير واقعهم المر ولكن فى زمن أصبح فيه التعليم سلعة والحصول على شهادة عليا يحتاج إلى ثروة لم يعد أمام غالبية البسطاء سوى البحث عن وسائل غير مشروعة لتحقيق طموحاتهم.
ليس أمامهم سوى احتراف السرقة أو تهريب البضائع أو تجارة المخدرات أو اللجوء إلى خرافة السحر الأسود أو الزئبق الأحمر على طريقة سندريلا.
إن الذين يطالبون بإلغاء مجانية التعليم والعلاج يحكمون على ملايين الفقراء بالبقاء فى أماكنهم دون حراك وهو حكم جائر يحرم المجتمع من مواهب تموت قبل أن تتفتح ثم ألا نستخرج حبات الماس وعروق الذهب فى الطين أحيانا؟
المثير للدهشة أن الذين يدعون إلى إلغاء مجانية التعليم لم يكن ليتعلموا ويصلوا إلى مناصبهم العليا بدونها.
ومن حكايات الأطفال التى أرست قواعد العلاقة بين السلطة والمواطن فى أوروبا حكاية «زمار هاملين» أو «راتنج فينجرز» الألمانية.
ألهمت الحكاية الشعبية أدباء مثل «يوهان جوته» و«ياكوب جريم» و«لودفيج أخيم» لكتابة أعمال إبداعية ضربت السياسيين على أيديهم حتى يحترموا كلمتهم ولا يتنكروا لعهدهم.
تبدأ الأسطورة فى مدينة حقيقية قائمة حتى اليوم تكاثرت فيها الفئران وهلك معها الغذاء وانتشر بسببها المرض وعجز العمدة عن القضاء عليها.
ذات يوم وصل إلى «هاملين» رجل يرتدى ثيابا مزركشة متعددة الألوان عرض تخليص البلدة من الفئران مقابل مبلغ من المال وعندما وافق العمدة سحب الرجل مزماره ومشى فى الشوارع يعزف عليه نغمات مسحورة فخرجت الفئران من البيوت والحقول والجحور وتبعته إلى نهر «الويزر» حيث غرقت.
طالب الرجل بالمال الذى وعده العمدة به لكنه رفض.
لم يعترض الزمار وخرج إلى شوارع القرية يعزف نغمات سحرية أخرى فإذا بجميع الأطفال يخرجون من منازلهم ويتبعونه إلى كهف فى تل قريب يسمى «كوين» وانطبقت عليهم المغارة ولم يرهم أحد بعد ذلك أبدا.
تتوقف الأسطورة هنا لتبدأ دروس الأعمال الأدبية التى استوحيت منها.
حاكم الشعب العمدة وطالب بإعدامه وجردوه من منصبه وثروته وبيته وأسرته وتركوه يموت وحيدا عاريا فى العراء.
وهناك من يصدق أن القسم الذى يؤديه المسئول قبل تسلمه المنصب بدأ بعد أسطورة «هاملين» التى يعتقد البعض أن بها ظل من الحقيقة وأنها حدثت فى عام ١٢٨٤ وكان ضحيتها ١٣٠ طفلا.
أكثر من ذلك بدأ المرشحون فى الانتخابات العامة يقدمون برامجهم التى يتعهدون بتنفيذها إذا ما فازوا ولا يعاد انتخابهم إذا ما عجزوا عن الوفاء بها.
إن القواعد السياسية والتشريعية المستقرة بدأت بحكايات شعبية وهمية أو حقيقية ولكنها جزء من الضمائر والجينات العامة.
بينوكيو
كأن تلك الحكايات طعنات جميلة ينبت على ضفافها القمح والعنب والقانون.
ليست مخدرا ينام عليه أطفالنا ولكنها مدرسة سهلة نعلمهم فيها السياسة.
والحكايات كلها بنات أصل لا فضل لحكاية عن حكاية إلا بقدرتنا على استيعاب مغزاها وكأنها ثوب لا يأخذ شكله النهائى إلا بنا.
ويخاف الصغار من الكذب حتى لا تطول أنوفهم كما فى أسطورة «بينوكيو».
صنعه نجار فقير اسمه «جييتو» ليؤنسه فى وحدته ولكنه فوجئ به يتحرك ويتكلم ويرقص ولكن كانت مشكلته أن أنفه يطول إذا ما كذب.
فيما بعد شاهدت حوارًا تليفزيونيا مع المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل» اعترفت فيه أنها منذ سمعت حكاية «بينوكيو» وكان عمرها خمس سنوات وهى تتحسس أنفها كلما تكلمت حتى تطمئن أنها لا تكذب.
وسمعت من «نجيب محفوظ» أنه يلاحظ كثرة السياسيين والحزبيين فى مصر وهم يمسحون على أنوفهم وهم يتكلمون وكأن العقل الباطن يذكرهم بحكاية «بينوكيو»؟
لكن من بين الأساطير التى اتفقنا على تفسيرها ــ نزار قبانى وأنا ــ أسطورة «الهولندى الطائر».
تحكى الأسطورة عن سفينة ملعونة حكم عليها أن تبحر فى المياه إلى الأبد ولا ترسو على بر وتظهر فى الليالى الهوجاء بطاقمها الخرافى القادم من العالم الآخر.
تعود الأسطورة إلى أواخر القرن الثامن عشر عندما تعددت تقارير البحارة عن رؤية سفينة أشباح تنذر رؤيتها بحدوث كارثة.
لكن لا دليل واحدًا على وجودها.
أما ما تناقلته الأجيال فبدأ بعودة القبطان الهولندى «هندريك فان دير يككن» إلى أمستردام من جزر الهند الشرقية ولكن عندما وصلت السفينة إلى رأس الرجاء الصالح هبت عاصفة مدمرة أطاحت بأشرعتها السفينة وحينها توسل البحارة إليه بتغيير المسار لكنه رفض الإصغاء إليهم وغرقت السفينة فى قاع المياه عند جنوب إفريقيا وعقابا على عناده حكمت الآلهة عليه وعلى سفينته بالإبحار فى المحيطات إلى الأبد مع طاقمه الشبحى من القتلى.
والقصد أن القبطان ــ ولو كان هو صاحب القرار ــ فإن وقت الخطر عليه أن يستشير شركاء الرحلة ولا يعاند كما يحدث فى كثير من دول العالم.
تحولت الأسطورة إلى فيلم لعبت بطولته «افا جردنر» و«جيمس ماسون» وفسره «نزار قباني» بطريقته الشعرية:
«إن البطل رجل حكمت عليه الأقدار أن يبقى مبحرًا ملايين السنين دون أن يكون له الحق أن يشيخ أو يتعب أو يموت أو يستقر فى مرفأ من المرافئ.
«وكان شرط الآلهة الوحيد على «الهولندى الطائر» للخلاص من هذه اللعنة التى تلاحقه أن يجد امرأة تحبه وترضى أن تصعد معه إلى ظهر السفينة الملعونة وتشاركه طوافه اللا مجدى فى جميع المحيطات وتقبل بإرادتها أن تبحر معه وترسو معه وتموت معه.
ويعتقد «نزار قباني» أن قصة الهولندى الطائر هى باختصار قصة كل من يؤمن بالحرية.
«لا مرفأ من المرافئ يقبل دخوله ولا أسماك القرش ترضى أن تصالحه ولا العاصفة ترضى أن تكون لطيفة معه ولا القراصنة يقبلون مناقشته ولا امرأة يقابلها لديها الاستعداد لتحبه إلى درجة أن تقبل معه أن تصعد إلى سفينة الأشباح التى يركبها وتبحر معه إلى آخر العمر وتموت معه».
إنه قدر الكتاب والشعراء.