قوانين الحرب المطاطة.. أسوأ استخدام لكلمة «ربما»
قرأت بامتعاض شديد، تصريح مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بأن إسرائيل ربما انتهكت قوانين الحرب في عدوانها على قطاع غزة، واستوقفتني كلمة «ربما» التي أراها أسوأ مرة استخدمت فيها، نظرا لأنها قيلت في غير محلها وموضعها، خاصة وأنها جاءت لتفرض احتمالية عدم وجود جريمة إبادة جماعية واضحة للعيان، تحدث بحق الأشقاء في قطاع غزة.
«ربما» كلمة في اللغة العربية تعني «من المحتمل»، وقد استخدمت هنا لتقول: إن إسرائيل يحتمل أو لا يحتمل أنها ارتكبت انتهاكات لقوانين الحرب! في القطاع، فبعد نحو 257 يوما، من المجازر الجماعية التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق الأبرياء، من أطفال ونساء وشيوخ القطاع، فضلا عن تدمير المستشفيات والمساجد والمدارس والمخيمات ومراكز الإيواء ومراكز الأونوروا التابعة للأمم المتحدة، تقول المفوضية، إن إسرائيل «يمكن» انتهكت قوانين الحرب.
لا أرى تصريح المفوضية بهذه الطريقة، إلا غض طرف صريح وفج تجاه جرائم الاحتلال، يدعونا نتساءل عن ماهية المنظمات الدولية، التي من المفترض أنها أنشئت لوضع قوانين صارمة تمنع أي دولة أو جهة أو أيا ما كان أن يتجاوزها، أو يتغول على حقوق الآخرين، أو يعتدي عليهم، كما أنشئت لتضع أسسا واضحة يسير عليها العالم، ويتحقق بها العدل والمساواة بين جميع الدول من دون تفرقة أو تمييز.
كما أرى أن التصريح، غطاء شرعي للاحتلال لمواصلة جرائمة، بحق المدنيين، ويعبر عن ضعف المنظمة الأممية الأكبر في العالم، ويدها المغلولة أمام الغطرسة الأمريكية-الإسرائيلية، في الدفاع عن الأبرياء في العالم.
لا أدري ما موقع كلمة «ربما» في جرم واضح عيانًا بيانًا، خلف أكثر من 37372 شهيدا، و85452 جريحا، فضلا عن الجثث والأشلاء التي تتوارى أسفل ثرى العقارات المهدمة التي وصل مجموعها حتى الآن، إلى أكثر من 70% من حجم العقارات في القطاع، ناهيك عن الجثث التي تنهشها الحيوانات الضالة، في الشوارع والأزقة.
ناهيك عن كلمة قواعد الحرب المطاطة، التي يجري تفصيلها بالأهواء، وفق ما يتوافق مع الرؤية الأمريكية، إن كانت تتعلق بهجومها وحلفائها على أي دولة أو منطقة، تكون عملية عسكرية ضد جماعات إرهابية، يحق لتلك الدول أن ترتكب ما تشاء من جرائم في سبيل تحقيق أهدافها، من دون قيود أو مسائلة، تصحبها دائما كلمة «ربما» والتصريحات الفضفاضة عن الشجب والإدانة، ولنا في حروب فيتنام وأفغانستان والعراق وسوريا وغزة آلاف الأمثلة.
وإن كانت قواعد الحرب تتعلق بدول خارج التحالف الذي تقوده أمريكا، فإنها تكون جرائم حرب صريحة قاطعة وواضحة ولا ريب فيها، ولنا في التعامل الأممي مع روسيا خلال حربها في أوكرانيا، وإصدار مذكرة اعتقال من الجنائية الدولية، بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتهم ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، فضلا عن النشاط الدولي الأممي المناهض لروسيا في مجلس الأمن والأمم المتحدة والعدل الدولية وغيرها، فقط لأن روسيا دولة خارج المنظومة الموالية لأمريكا وحلفائها، وتنفذ أجندة تراها أمريكا تعارض سياستها التوسعية في العالم.
قواعد الحرب -المجني عليها- كما أقرها الدين الإسلامي، جات فيما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما كان يبعث جيوشه، وفق ما رواه ابن عباس: «اخرجوا باسم الله تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة: «لا تقتلوا الذرية في الحرب»، فقالوا: يا رسول الله، أوليس هم أولاد المشركين؟ قال: «أوليس خياركم أولاد المشركين؟».
وقال عمر بن الخطاب: «اتقوا الله في الفلاحين، فلا تقتلوهم إلا أن ينصبوا لكم الحرب»، ومرَّ رسول الله، في غزوة من غزوات المشركين بامرأة مقتولة ذات خلق، اجتمع الناس عليها، فقال رسول الله: «ما كانت هذه لتقاتل!» وسأل: «من قتل هذه؟» فقال رجل أنا أردفتها خلفي، فأرادت أن تقتلني فقتلتها، فأمر النبي بدفنها.
ولما بعث أبوبكر الصديق رضي الله عنه، يزيد بن أبي سفيان، إلى الشام، خرج معه أبوبكر يوصيه، ويزيد راكب، وأبوبكر يمشي، فقال يزيد: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال: «ما أنت بنازل وما أنا براكب، إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله، يا يزيد، إنكم ستجدون أقوامًا قد حبسوا أنفسهم في هذه الصوامع (يعني الرهبان) فاتركوهم وما حبسوا أنفسهم له، ولا تقتلوا كبيرًا هرمًا، ولا امرأة، ولا وليدًا، ولا مريضًا، ولا راهبًا، ولا تخربوا عمرانًا، ولا تقطعوا شجرة إلا لنفع، ولا تحرقن نخلًا ولا تغرقنه، ولا تغدر ولا تمثِّل، ولا تجبن، ولا تغلل، ولينصرن الله من ينصره ورسله بالغيب، إن الله لقوي عزيز، أستودعك الله وأقرئك السلام، ثم انصرف».
تلك القواعد المجني عليها، لا أراها تختلف عن المنصوص عليها في الشريعة المسيحية، الحقيقية، فلا أعتقد أن الله يأمر البشر بأن يقتلوا طفلا أعزل أو امرأة أو كهلا، لا يقوون على القتال أو حمل السلاح، وإلا انتفت عت الله صفات الرحمة والعدل والرأفة.
وبحسب اتفاقية جينيف، فإن قواعد الحرب، تشمل حماية المستشفيات والمدارس والمدنيين وعمال الإغاثة والطرق الآمنة لتقديم المساعدة الطارئة، وجميعها استهدفتها قوات الاحتلال في قطاع غزة، فلا أعلم هل الأهداف تلك هي المنصوص عليها في محظورات اتفاقيات جنيف، أم هناك قواعد أخرى غير معلنة لا تعلمها إلا المنظمات الأممية وأمريكا وحلفائها.
بيد أن فتح الباب على مصراعيه أمام انتهاك قواعد الحرب، من دولة بعينها، دون محاسبة أو ردع، يعطي الضوء الأخضر لباقي الدول -التي لديها نفوذ دولي- أن تنتهك القانون من باب «المعاملة بالمثل»، ويتحول العالم بعدها إلى غابة كبيرة، يصبح البقاء فيها للأقوى، من دون مراعاة لحقوق إنسان أو نصوص دينية أو حتى تحكيم عقل.
إن تصريح المفوضية ليس الأول، من قبيل التصريحات «حمالة الأوجه»، التي تطلقها المنظمات الأممية باعتبارها حامية النظام الدولي، القائمة على تطبيقه على الكبير قبل الصغير -كما علمونا- أو من الدول التي لديها القدرة على ردع إسرائيل وعلى رأسها أمريكا، ولكن الإسهاب في إطلاقها، مرارا وتكرارا، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أنها تعطي الضوء الأخضر للاحتلال لمواصلة جرائمه، ومنها يستمد قوته وجبروته على الأبرياء العزل في القطاع، الذي اكتوى بنيران حرب الإبادة الطاحنة.