ربيع جودة يكتب: علمونا بالألغاز
كنت سأختار الجلوس معه.. حتى مع فقداني لرفاهية الوقت في تلك الليلة.. وقد كنت على عجلة من أمري.. لكني وجدت فيه من رسوخ الرأي.. ورجاحة العقل.. ما يجبرني على اطالة الحديث معه.. وقليل ما تجد في هذه الأيام من يحنو عليك بخبرة السنين.
وكان حديثنا عن التربية.. فقال بابتسامة تحمل الحنين إلى الماضي.. لقد علمني والدي بالألغاز!!.. فتغيرت ملامحي إلى نظرة تعجب كيف ربَّاك والدك بالألغاز؟؟.. فقال الرجل كان والدي قليل الكلام.. يخبرني عن مقصده بجملة أو جملتين على الأكثر.. ثم يتركني مع الأيام والمواقف هي التي تخبرني عن مراده.. فقلت له كيف ذلك سيدي.. قال حينما اشتد عودي إلى طور المراهقة دار بيني وبين أبي حديث.. أخبرته فيه بأنني صرت رجلاً.. فأجاب باستنكار.. لا أنت لست برجلًا.. ستصبح رجلاً عندما تستخرج البطاقة.. فصرت أعد الأيام والليالي حتى صار عمري ستة عشر عامًا.. وجريت مسرعًا استخرج تلك البطاقة وأستوفي أوراقها ثم أتيته أحملها في يدي.. وأقول له لقد صرت رجلاً يا أبي.. فقال دون أن ينظر حتى مجرد النظر..وهو يقرأ جريدته.. لم تعد رجلاً بعد حتى تدخل إلى الجيش.
أكملت دراستي وتقدمت إلى الجيش.. أحمل على كتفي السلاح وارتدي الزي العسكري المهيب.. كنت أشعر بفرحة كبيرة.. لكنه أبداً لم يحاول زيارتي في الوحدة كباقي الزملاء... زارتني أمي وأختي الكبيرة وخالتي التي تحمل الطعام الشهي.. ولا أرى والدي من بينهم.. وأنا كلي شغف.. أن يراني على هذه الصورة حتى يتأكد له أني صرت رجلاً..
مرت الأيام وذات يوم أخبروني في الوحدة أن لدي زيارة.. خرجت محبطًا وأنا أعلم إنها ربما تكون خالتي أو أمي.. وزملائي يهرولون من خلفي لما يعلمون ما تحضره أمي من شهي الطعام.. لكنني وجدت في ساحة الانتظار والدي يأتي من بعيد يحمل في يده كيسًا من اللب يأكل منه الواحدة بعد الأخرى.. وقد أحضره لنفسه حتى إنه لم يقم بإعطائي منه شيئًا.. فقط نظر إلي من خلف نظارته العريضة.. وتساءل عن أحوالي.. فقلت له يا والدي أرأيت.. لقد صرت رجلاً.. انظر.. هذا زي الرجال.. فابتسم وهو ينتقل بنظره إلى زملائي.. من السهل أن تدخل الجيش لكن من الرجولة أن تكمل أيامه ولياليه.. لن تصير رجلاً حتى تنتهي من جيشك.
حينها أدركت مراد والدي من هذا كله.. ومن الطبيعي ألا أسأله حين أنتهي من جيشي.. هل صرت رجلاً في نظره أم لا.. لأني أعلم وقتها إنه سيقول لي بذات الابتسامة ستصبح رجلاً عندما تفتح بيتاً وتكون لك زوجة.. وحين أصل إلى هذه المرحلة سيقول ساخرًا.. وهل كل من تزوج صار رجلاً.. ستكون رجلاً حين تستر بيتك وتكون كالخيمة لعيالك.. أدركت أنه يريد أن يعلمني مفهوم كلمة (مسؤولية).. ربما لو أخبرني بهذه الكلمة مجردة لم أكن لأفهمها.. بل إنه لم يحاول أبدًا أن يتحدث عنها.. وعلمت مع مرور الأيام أن لديه كل الحق فكيف تستطيع أن تأمر أحدًا أن يكون مسؤولًا.. دون أن يعرف أولاً مفهوم تلك الكلمة.. وهل بكل ما تملكه من لباقة.. تستطيع شرح كلمات كالمسؤولية والخير والحق والخلق والجمال.. وكلها قيم مطلقة.. لا تحويها المفردات ولن تعبر عنها المعاني.. لكن حتمًا ستخبرك عنها المواقف.. وستحكيها لك الأيام.
انتهى الرجل من كلامه وأنا أنظر إليه في صمت رهيب كيف لهذا الرجل البسيط أن يكون لديه كل تلك الفلسفة.. وتعلمت منه في دقائق أن التربية حرفة.. يجيدها فقط من تربى على يد مثل هؤلاء.. ودعني الرجل بعد أن ترك بداخلي لغزاً آخر.. هل تربيتي لأولادي على هذا النحو.. ستخرج منهم تلك الفصاحة.. أم أنني بحاجة إلى تربيتهم بالألغاز.. تمامًا كما يفعل هذا الحكيم.