حينما غَنَّى الباريسيون
"أعيدوا لي مشنقتي الخشبية".. قصة اليوم الذي أغضب مدينة النور
أعيدوا لي مشنقتي الخشبية.. باريس مدينة النور وعاصمة الجمال الفرنسية، لم تكن ليلتا هادئة ساحرة بقدر هذا الجمال الذي يعايشه سكَّانه، فقد كان صوت الأغنية يتعالى كترنيمات تسعى لإيصال اللحن إلى السماء، لكنَّها كانت ترنيمات غضب لا سلام ولا عشق.
كانت صيحات الباريسيين تتعالى لما رأوه من فظاظة المشهد الدموى الذي صار متناشرًا بعدما اصطدمت شفرات المقصلة بعنق هذا المنبطح المقيَّد، لتفصل بين الرأس والجسد، في مشهد يلتقي فيه الجلَّاد والمجرم، علنًا على مرأى ومسمع من الحضور في ساحة التحرير في باريس على الساعة الثالثة والنصف بعد زوال يوم 25 أبريل 1792 بالمقصلة.
لحظات مؤلمة.. ولكن!
كانت اللحظات المؤلمة ليس لإعدام رجل مبادئ أو زعيم وطني، ولكنَّا كانت تجسيدًا صريحًا لتنفيذ حكم بآلية قانونية تستهدف إعدام نيقولا جاك بيليتييه، الذي كان يمتهن قطع الطريق واستخدام السلاح؛ لسلب الأموال، على يد الجلَّاد تشارلز هنري سانسون، وسط حضور جماهيري كثيف.
كانت المقصلة آلية اعتمدها الملك الفرنسي لويس السادس عشر، بعدما عرض الطبيبان جوزيف إنياس غيوتان (Joseph-Ignace Guillotin) وأنطوان لويس (Antoine Louis)، الفكرة عليه؛ تسريعًا لوفاة المحكوم عليهم، وتقليصًا لمعاناتهم على المشنقة.
بدابة القصة
بعدما سجلت المقصلة أو Guillotine دخولها الخدمة رسميا عام 1792، وضعت حدًا فاصلًا بينها و حدا لطرق الإعدام السابقة التي كات منتشرة لتفتصر على الشنق أو تقطيع الأطراف أو استخدام السيف أو غيرها من أساليب إنهاء حياة المجرمين أو المحكوم عليهم بقوبة الإعدام.
اعتقل رجال الأمن رجلًا يُدعى نيقولا جاك بيليتييه، عُرِفَ بأنَّه قاطع طريق، بعدما تمّ اتهامه بطعن رجل حتى الموت يوم 14 أكتوبر 1791 ونهب مبلغ - تمَّ تقديره - نحو 800 جنيها، وذلك في شارع بوربون فيلنوف بالعاصمة الفرنسية باريس.
كانت التهمة المنطقية المُوجَّهة إلى بيليتييه، تتمثل في القتل العمد والسرقة باستخدام العنف بالطريق العام وتهديد أمن المواطنين، التي عُرض بسببها أمام القضاء، ما دفع القاضي جاكوب أوغستان مورو (Jacob Augustin Moreau) أن يصدر حكما بالإعدام بحق بيليتييه تم تأييده من قبل محكمة الاستئناف والقضاء الفرنسي يوم 24 ديسمبر 1791.
داخل الزنزانة
شبح الموت بين الفينة والأخرى، انتظار للمصير، تفاجأ نيقولا جاك، داخل زنزانته، بسماع خبر استعداد السلطات الفرنسية لإعدامه، وذلك باعتماد طريقة غير مسبوقة بتاريخ البلاد.
وفي اليوم المُحدد 24 أبريل من العام اجتمعت حشود المواطنين لتشهد أولى عمليات تنفيذ الإعدام بالمقصلة، التي ما إن أدَّت مهمتها، حتَّى كان الهرج بين الحاضرين، واستُثِر غضبهم، فخرجوا في اليوم التالي يهتفون بأغنية:
"أعيدوا لي مشنقتي الخشبية.. أعيدوا لي مشنقتي"
عجيبة قدَرية
ومن عجائب القدر أنَّ المقصلة التي أقرَّ باعتمادها الملك لويس السادس عشر، كانت قلمًا سطر نهاية حياته وزوجته ماري أنطوانيت، وعلى يد ذات الجلاد الذي أعدم نيقولا جاك بيليتييه.
جدير بالذكرأن المقصلة طالت لتقطف رؤوس الكثيرين، لا سيما فترة الثورة الفرنسية الممتدة بين عام 1789 و1799، كما أنَّ شفرتها لم تفلت رؤوس أبرز منظِّري ومهندسي الثورة الفرنسية من أمثال جورج دانتون وكامي ديمولان وماكسيمليان روبسبيار، فالآلية كان سببًا أو بالأصح وسيلة لإنهاء حياة الكثيرين، وتقديمهم نحو مثواهم الأخير.