كيف نجدُهم؟

التصوف الإسلامي.. نظرة نحو منشأ وتطور مذهب تهذيب النفس وتطهير القلب

إسلاميات

بوابة الفجر

التصوّف يمثل، بشكل عام، توجهًا إنسانيًا ظهر في مختلف الثقافات بأشكال متنوعة. يتمحور جوهره حول تحقيق الرضا الروحي والابتعاد عن متع الحياة الدنيوية، مع التوجه نحو الاقتراب من الله ورغبة في تجاوز الشهوات المادية بهدف التطور الروحي وتحقيق السعادة. يعبر التصوف عن امتداد للعبادة والتقوى في سياق الإسلام، حيث يتأثر بتعاليم الدين وقيمه. فهو يعتبر تطبيقًا لطريقة الزهد التي اتبعها النبي محمد صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين.

محاورات في التصوف - الكسنزان

أصل الكلمة

تتنوع وجهات النظر والآراء بين الباحثين ومؤرخي التصوف بشأن أصل مفهوم التصوف وتشتت الرؤى حوله. يظهر مصطلح التصوف في معاجم اللغة تحت مادة "صوف"، وقد اشتقت كلمة "تصوف" من الصوف المعروف منذ القدم، ويشتمل مفهوم التصوف على عدة معانٍ، منها استخدام كلمة "صوف" للإشارة إلى الصوف الناعم الذي يُستخرج من شعر الحيوانات، ومنها استخدامها للإشارة إلى التصفية والتنقية الروحية والاقتراب من الله.

ظهور التصوف في المجتمع الإسلامي 

ظهور التصوف في المجتمع الإسلامي كان منطلقًا من الثقافة الإسلامية المتميزة، حيث كان يعتمد على الروحانية المستمدة من الزهد في الدين. يتجلى التصوف في المجتمع الإسلامي من خلال الالتزام بتعاليم الدين والسعي نحو القرب من الله، مما ينعكس تلك القيم في الحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية.

التصوف السنيّ.. الزّهد وقصة النشأة الأولى وأحوال ومقامات الطّريق

ومع ذلك، يجب أن نلاحظ أن التصوف يتأثر بالخصوصيات الثقافية لكل مجتمع، ويتم تجسيده وفقًا للمعتقدات والقيم الخاصة بذلك المجتمع. لذلك، فإن ممارسة التصوف قد تختلف من ثقافة لأخرى ومن فترة زمنية لأخرى، ولكن الهدف العام لها يظل السعي نحو الروحانية والتقوى.

أقسام التصوف الإسلامي

ينقسم التصوف الإسلامي إلى قسمين: قسم يتعلق بالتربية وتهذيب الروح ونبل الخلق والتحلي بالفضائل والمحاسن الأدبية، وهو ما اصطلح على تسميته بعلم المعاملة، وقسم يتعلق بالرياضة الروحية والعبادة وما فيها من نور وطهر وكشف وفيض.

والقسم الأول يمثل عماد فلسفة الغزالي الأخلاقية، وهو القسم الأساسي في كتابه الأكبر "الإحياء"، الذي يعتبر مرجعًا رئيسيًا في تاريخ الفكر الإسلامي. يجسد هذا القسم مدى أهمية الغزالي كشاهد دائم لجماليات الإسلام، حيث يقدم توضيحًا لفضائل الدين وأنواره. فهو يوفر مصدرًا غنيًا للمفكرين الذين يدرسون الأخلاق، ويمثل مرجعية لأولئك الذين يسعون إلى النبل والتحضر، حيث يبرز من خلالها معاني الحديث الشريف: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

وأما القسم الثاني وهو قسم العبادة والفيض، فأول شروطه كما يقرر الغزالي: معرفة الكتاب والسنة معرفةً عليا خلافًا لمن قال: إن الفيض يأتي بالطهارة فقط ولو لم تكن هناك معرفة بالكتاب والسنة والفقه.

مراحل التصوف الإسلامي

تاريخ التصوف يتضمن عدة مراحل تطور، حيث يتنوع هذا التطور بتأثير المؤثرات الخارجية والعوامل الداخلية. تبدأ المرحلة الأولى في القرنين الأول والثاني الهجريين، وتعرف بمرحلة الزهد. تتأثر هذه المرحلة بتعاليم الإسلام التي تدعو إلى الزهد والتبتل والعبادة، وأيضًا بالتوسع الإسلامي الذي أحاط بالمجتمعات المسلمة بالبذخ والترف، مما دفع ببعض المسلمين إلى اتخاذ حياة الزهد. 

المرحلة الثانية تتميز بتطور التصوف كحركة منتظمة، حيث يطرح المتصوفة مواضيع جديدة كالسلوك والمقامات والأحوال والمعرفة والتوحيد والفناء. تنقسم هذه المرحلة إلى نوعين، الأول يلتزم بالكتاب والسنة، بينما يبتعد الثاني عن الشطحات الصوفية والكرامات. 

في المرحلة الثالثة، يتأثر التصوف بالمؤثرات الفلسفية الخارجية، مما يؤدي إلى تطوير نظريات جديدة. يستمر التصوف في المراحل التالية بالتأثير المزدوج بين المصادر الإسلامية الداخلية والمصادر الفلسفية والثقافية الخارجية، ويتطرق المتصوفة إلى تفسير المذهب الإسلامي بطرق مبتكرة ومستقلة. يتجسد هذا التطور في أعمال كبار المتصوفة مثل الغزالي وابن عربي. تعاني التصوف في فترات لاحقة من التدهور بسبب التضييقات والاضطهادات التي تعرضت لها، ولكنها تظل حاضرة كجزء لا يتجزأ من تاريخ الإسلام.

هل اختلف أئمة الإسلام مع التصوُّف؟

بالطبع في العلوم الإسلامية ونهج البحث الإسلامي، ليس هناك من ينتقد المذهب والظواهر بالكليَّة، إنَّما يُنظر لما هو فيه الفوائد وما هو محطُّ الضرر، فإن كانت الأولى فيكون الاستحسان، وإن كانت الثانية يكون خلاف ذلك. 

إنَّ العقيدة لا تعرفُ غير طريق الحق وطريق الله، وإنَّما في دراسة الأصول والطرق، ما يثير العقل والبحث لدى الدارسين، فيكون الحكم من قِبل الطرائق العلمية والمنهاج الذي لا يخرجُ عن الأصول. فدراسة المذهب ليست كالتعبُّد به؛ لأنَّ في الدراسة أخذ وردّ، وقولٌ وقولٌ آخر، وآراء تستفيض. فإن كان السؤال حول اختلاف الأئمة، فإنَّه وارد على سبيل البحث والقراءة؛ لنجد أنَّهم فرَّقوا بين  مدح شخص معين ينسب إلى التصوف والزهد، كالجنيد بن محمد، وأبي سليمان الداراني ممن عرف بالصلاح والعبادة، وبين مدح الصوفية على سبيل العموم.

طبيعة الاختلاف

انَّ التصوُّف الإسلامي يعتبر ظاهرةً اسلاميةً نشأت وازدهرت في إطار البيئة الإسلامية، وتأثرت بشكل أساسي بتعاليم سيدنا محمد - صلوات الله عليه وعلى آله - وأصحابه الكرام. استمدت التصوف حكمتها ومواعظها من القرآن الكريم والسنة النبوية. ومع ذلك، لم تظل التصوف معزولة عن التأثيرات الخارجية التي توجهت إلى العالم الإسلامي. فلقد تأثر التصوف بعناصر غير إسلامية في مراحل تطوره، لا سيما الديانات المسيحية والفارسية واليهودية، والبوذية.

  • الإمام مالك

فيما يتعلق بالإمام مالك، قال القاضي عياض رحمه الله: "وقال المسيبي: كنا عند مالك وأصحابه حوله، فقال رجل من أهل نصيبين: يا أبا عبد الله، عندنا قوم يقال لهم الصوفية، يأكلون كثيرًا، ثم يأخذون في القصائد، ثم يقومون فيرقصون. فقال مالك: الصبيان هم؟ قال: لا. قال: أمجانين؟ قال: لا، قوم مشائخ. قال مالك: ما سمعت أن أحدًا من أهل الإسلام يفعل هذا".

  • الإمام الشافعي

فقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: “ لو أن رجلا تصوف أول النهار لم يأت عليه الظهر إلا وجدته أحمق “ رواه البيهقي في "مناقب الشافعي".

  • شيخ الإسلام ابن تيمية

في قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهؤلاء المشايخ لم يخرجوا في الأصول الكبار عن أصول 'أهل السنة والجماعة'، بل كان لهم من الترغيب في أصول أهل السنة، الدعاء إليها، الحرص على نشرها ومنابذة من خالفها، مع الدين والفضل والصلاح: ما رفع الله به أقدارهم، أعلى منارهم. وغالب ما يقولونه في أصولها الكبار: جيد؛ مع أنه لا بد أن يوجد في كلامهم وكلام نظرائهم من المسائل المرجوحة، والدلائل الضعيفة؛ كأحاديث لا تثبت، ومقاييس لا تطرد، مع ما يعرفه أهل البصيرة، وذلك أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم" من كتاب "مجموع الفتاوى" (3/ 377). يستنتج من كلام شيخ الإسلام أن الصوفية الأوائل كانوا مستقيمين على منهج أهل السنة والجماعة بشكل عام، ولكن قد تحمل بعضهم بعض الأفكار التي قد تختلف معها.