د. رشا سمير تكتب: الشغف هو الأمل
لعل مصر لا تمتلك ثلث آثار العالم مثلما تعلمنا فى كتب التاريخ ونحن صغار، لكنها دون جدال تمتلك السحر وعبق التاريخ فى كل زاوية وكل جدار، فمصر هى تلك الخطوات والمسارات والأصوات التى كتبها التاريخ على مدار عقود طويلة..
مصر هى مسار العائلة المقدسة.. هى صوت صهيل الخيول فى معارك طيبة..ومذاق الزيتون فى بساتين سيناء..هى ضوء المشاعل فى طريق الكباش..وشعاع القمر الذى يخطو بخفة فوق جدران معابد الأقصر وأسوان..
هذه هى مصر التى علمتنى أن ارتاد شوارعها وأحبو بين صفحات تاريخها لتسكن جوانحى ووجدانى..مصر التى تعلمنا منذ نعومة أظافرنا أن حبها هو العنوان، وعشقها هو الملاذ والمأوى..
قادتنى قدماى إلى المتحف القومى للحضارة المصرية بدعوة كريمة من الدكتور أحمد غنيم الرئيس التنفيذى للمتحف..المكان الذى يختلف فى شكله ومضمونه عن أى مكان آخر فى مصر، فهو بحق وجهة حضارية عظيمة..
اصطحبتنى فتاة أنيقة ومتحدثة لبقة إلى جولة بين أروقة المتحف، مع إصرار الدكتور «غنيم» بدخولى مراكز ومعامل الترميم داخل المتحف، انصعت إليه ولم أكن متحمسة فى البداية، إلا أن حالة الانبهار والفخر التى تسللت إلى مسامى أثناء الجولة كانت كفيلة لمعرفة سبب إصراره..
فقد أيقنت أن هذا المركز هو أهم ما فى المتحف، بعد أن استمعت إلى شرح القائمين على المركز فى مختلف القطاعات، من ترميم المخطوطات والجلود والخزف والأحجار والمومياوات، فى رحلة طويلة مُنظمة تبدأ من استلام القطعة الأثرية بعد خروجها من باطن الأرض إلى إعادتها ببراعة وفهم إلى هيئتها الأولى بعد جهد جهيد لتُعرض فى المتحف..
تحدثت طويلا مع المسئولين عن عملية الترميم وسألتهم عن تفاصيل عملهم والصعوبات التى تواجههم، ولماذا دون غيرها التحقوا بقسم الترميم، ففوجئت أن الإجابة ببساطة تتلخص فى كلمة واحدة هى:
«الشغف»
تعجبت من الكلمة..وعدت أسألهم من جديد:
«هل كان مجموع الثانوية العامة هو السبب؟»
كانت إجابة الجميع واحدة برغم اختلاف الوجوه..إجابة مُفادها: الآثار هى العشق الأول.. سكنتنا التفاصيل وأصبح التحدى الحقيقى أمامنا هو جمع القطع المبعثرة المكسورة وترميمها لإعادتها إلى هيئتها الأولى هى مسئوليتنا تجاه وطننا».
خرجت من هناك وكلى فخر وسعادة، ليصبح يقينى أن هناك مصريين يذوبون عشقا فى تراب هذا البلد..وأن الحل الحقيقى لكل المشاكل التى تجابهنا فى الوقت الحالى هو البحث عمن لديهم شغف تجاه هذا البلد لنوليهم المسئولية، ولسوف يتحملون المسئولية بدافع حب..
وما أكثر هؤلاء..
الشباب الذين نزلوا إلى الشوارع عقب الثورة لينظفون الأرصفة ويعيدون طلاءها يمتلكون الشغف..
المصريون الذين خرجوا إلى الجبانات والشوارع فى محاولة جادة لتوثيق المقابر القديمة والأماكن الأثرية التى تعرضت للإزالة يمتلكون الشغف..
الشاب الذى يمد يده فى منطقة أثرية لمساعدة سائح لا يعرفه بمعلومة أو شربة ماء..يمتلك الشغف..
خريجو الفنون الجميلة الذين يرسمون الجرافيتى على جدران العشوائيات المتهدمة والبيوت القديمة لإعطائها من روحهم آملا وحياة يمتلكون الشغف..
جمعيات المجتمع المدنى والشباب الذين يجوبون النجوع والكفور لتوصيل المياه إلى بيوت غير القادرين وتسقيف منازلهم يمتلكون الشغف..
هؤلاء هم أبناء مصر القادرين على تحمل المسئولية من واقع حب..أما من يجلسون فى موقع المسئولية ولا يمتلكون تجاه الوطن أى مشاعر تدفعهم لتنحية مصالحهم وإعلاء المصلحة العامة، فهؤلاء سيظلون أبدا منتفعين من مناصبهم دون أن يقدموا شيئا وستبقى الدولة عالقة مثل الدين فى رقابهم إلى يوم الدين..
مازال قلبى يئن وأنا فى زياراتى المتكررة للمساجد والأبنية التى تم ترميمها دون وعى أو دراية، لتصبح مثل عروس متعجلة لتشطيب شقة الزوجية!..الحجر الذى فاق عمره عمر الزمان وتم طلائه باللون الأصفر تحت مسمى الترميم يحتاج إلى إعادة نظر لأنه قبيح.. والقبح لم يلق أبدا أن يكون عنوان مصر الجميلة!.
نحن نمتلك المقومات التى تجعل مصر أهم دولة سياحية فى المنطقة بل فى العالم كله، ونمتلك السواعد التى تعى جيدا كيف تُدير وتطور وترمم لإعادة رونق الأشياء دون المساس بجوهرها وقيمتها..فلماذا لا يتم الاستعانة بهؤلاء؟.
أنتأ فى مرحلة نحد حقيقى ولم يبق أمامنا سوى الاتكال على من يعشقون هده الأرض الطيبة علهم يزرعون وفاء وحب ليحصدون
الأمل..
فهل من مجيب؟!