عادل حمودة يكتب: نتنياهو يعود إلى الجيتو اليهودى
لو نفذت إسرائيل أوامر محكمة العدل الدولية فإنها ستوقف إطلاق النار
وثيقة تطالب بعزله وقعها رؤساء أركان ومديرو أجهزة أمنية إسرائيلية
أدولف هتلر لن يصبح المهاتما غاندى فلمَ يأمل العرب فى إسرائيل؟
السباحة ضد جاذبية الأرض عملية منهكة، وتحدى نفوذ القبيلة الاستعمارية الغربية وأطماعها وأخطاؤها وقواعدها وقناعتها مهمة صعبة.
ولكن من قراءة التاريخ البعيد والقريب يتبين أن تحرر الشعوب اقترن دائما بالشهادة.
هكذا فهم الفلسطينيون الدرس.
وقفوا ضد كل «جيتويات» الصفقات المشبوهة التى نزعت السلام من نفسه وجعلت من العدل طفلا يتيما لا يجد فراشا فى معسكر لاجئين.
رفضوا تحويل المقاومة إلى «طروادة» تعيش فى حصار تاريخى مع نفسها.
رفضوا أن تتحول إلى ناد مغلق مثل نوادى البريدج أو نوادى العراة تنبطح فيه على قفاها وتعد نجوم السماء.
عرفت كيف تموت وكيف تقهر الموت وتجبره على الانحناء لها.
لكن الثمن كان غاليا صارخا فادحا فاضحا.
هكذا اعترفت محكمة العدل الدولية بعد أن نظرت دعوى دولة جنوب إفريقيا ضد إسرائيل.
أعلنت للمرة الأولى أن فلسطين ليست قضية سريالية ولا كلمة مجهولة من كلمات متقاطعة فى القانون الجنائى والإنسانى الدولي.
رفضت أن تحول إسرائيل غزة إلى مقبرة أو مذبحة لا ينجو منها أحد.
وأمسكت برئيس حكومتها وأنصاره وجنرالاته من شعورهم وجرجرتهم علنا فى الفضائيات والتظاهرات بما اتخذت من قرارات وبما أعلنت من توصيفات.
إنهم سكبوا الحبر الأحمر على السماء الزرقاء وألغوا اللون الأخضر من الحياة وحولوا غزة بمنازلها وشوارعها ومدارسها وعصافيرها وأطفالها ونسائها إلى كتل من الفحم والدم.
وضعوا الشمس فى إقامة جبرية سبع سنوات وسرقوا سجاد المساجد وأيقونات الكنائس وبراءة الجنين قبل أن يرى النور إذا ولد حيا.
لم توقف المحكمة (التى تضم خمسة عشر قاضيا ينضم إليهم قاضيا اختارته جنوب إفريقيا وآخر اختارته إسرائيل) إطلاق النار لكن كل ما أمرت به من إجراءات احترازية عاجلة لا بد وأن يؤدى إلى وقف إطلاق النار.
بأغلبية خمسة عشر صوتا مقابل صوتين على إسرائيل أن تتخذ جميع التدابير لمنع قتل الفلسطينيين أو التسبب فى ضرر جسدى أو عقلى خطير لهم أو فرض ظروف معيشية عليهم من شأنها تدميرهم كليا أو جزئيا أو فرض تدابير تهدف إلى منع الولادة داخلهم.
وبنسبة التصويت نفسها على إسرائيل أن تضمن فورا عدم قيام جيشها بارتكاب ما سبق أيضا.
وبأغلبية ستة عشر صوتا مقابل صوت واحد على إسرائيل أن تتخذ جميع التدابير التى فى وسعها لمنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلنى على ارتكاب إبادة جماعية فيما يتعلق بأفراد المجموعة الفلسطينية فى قطاع غزة (٢.٣ مليون نسمة)
وبنفس الأغلبية فى التصويت على إسرائيل أن تتخذ إجراءات فورية وفعلية لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التى تشتد الحاجة إليها لمعالجة الظروف المعيشية المعاكسة التى يواجها الفلسطينيون فى غزة.
وبأغلبية خمسة عشر صوتا مقابل صوتين على إسرائيل أن تتخذ تدابير فعالة لمنع تدمير وضمان الحفاظ على الأدلة المتعلقة بالادعاءات بارتكاب أفعال ضمن نطاق المادة الثانية والمادة الثالثة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقب عليها ضد أفراد الشعب الفلسطينى فى غزة.
(حسب المادة الثانية تعنى الإبادة الجماعية قتل أعضاء من جماعة قومية أو إثنية أو دينية وإلحاق أذى جسدى أو روحى خطير بأعضاء منها أو إخضاعها عمدا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادى كليا أو جزئيا أو فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة أو نقل أطفال من الجماعة عنوة إلى جماعة أخري.
(أما المادة الثالثة من الاتفاقية فتعاقب كل من ارتكب الإبادة الجماعية أو تآمر على ارتكابها أو حرض مباشرا وعلنا على ارتكابها أو حاول ارتكابها أو اشترك فيها).
وبنفس أغلبية التصويت أمرت المحكمة إسرائيل بتقديم تقرير إليها حول جميع الإجراءات المتخذة لتنفيذ هذا الأمر خلال شهر واحد من تاريخ الحكم الصادر يوم ٢٦ يناير عام ٢٠٢٣.
حركت المحكمة نهر التاريخ عن مجراه الذى رسمته وفرضته عليه إسرائيل متناسية أن التاريخ لا يسمع سوى صوت نفسه وينظر باحتقار إلى الذين لا يستفيدون منه ويكررون أخطاء سبق أن نهى عنها وحذر منها.
إن اليهود أنفسهم ساهموا بالكلمة والصورة والفيلم والسيمفونية والشهادات البشرية الحية فى دعم اشمئزاز التاريخ من جرائم الهولوكوست التى ارتكبتها النازية فى جماعاتهم الأوروبية.
بل إنهم كانوا أكثر المتحمسين إلى اتفاقية منع الإبادة وانضمت إسرائيل إليها فى ١٧ أغسطس ١٩٤٩ وصدقت عليها فى ٩ مارس ١٩٥٠.
لكن المظلوم أصبح ظالما والمضروب أصبح ضاربا والقتيل أصبح قاتلا والمسروق أصبح سارقا والصهيونية السياسية سرعان ما تقمصت النازية.
ولو كان «أدولف هتلر» نفذ أوهام نقاء الجنس الآرى فإن العدوى انتقلت إلى حكام إسرائيل من «ديفيد بن جوريون» إلى «بنيامين نتنياهو» فآمنوا بأنهم «شعب الله المختار» رغم أنهم على ما يبدو «شعب الله المحتار».
على أن الجريمة لا تكون جريمة إذا ما دلل الكبار مرتكبوها وتساهلوا معه ووضعوا على جبينهم خرزة زرقاء منعا للحسد وأرسلوا إليهم باقات الزهور وعلب الحلوى والسلاح الذى يقتلون به.
إن أكبر كبير يسكن البيت الأبيض ويؤمن بالمعجزات التوراتية ويفتخر بأنه صهيونى رغم ديانته المسيحية ومنذ اشتغاله بالسياسة وهو يعلن: «إن إسرائيل حقيقة على الأرض لو لم نجدها عليها لاخترعناها».
لقد أخذ «جو بايدن» عصا النبى «موسى» التى يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه وأرسل إلى «نتنياهو» حاملات طائرات وغواصات نووية وأسلحة متطورة وفرق نخبة مقاتلة وضباط استخبارات من أجهزته الأمنية وحضر بنفسه مجلس الحرب الإسرائيلى وأرسل وزراءه ومستشاريه واحدا بعد الآخر إليه ليرفعوا من معنوياته وليضاعفوا من جنونه وليزيدوا من قناعته بأنه أحد أساطير العهد القديم مثل «يوشع بن نون» وهو فى الحقيقة لا يزيد أداؤه كثيرا عن تمثيل «بربارة سترايسند».
كل ذلك من أجل شعب محشور فى قطعة أرض ضاقت عليه ولا يريد سوى حريته.
هل اختلط على الولايات المتحدة الأمر فتصورت دولة الصين على أنها قطاع غزة؟
إن المشكلة فيها وليست فى إسرائيل.
وتاريخها معنا لا يفوح مسكا وعنبرا.
وسوابقها فى سجلاتنا سوداء.
لكننا نحن العرب نتصورها بريئة عذراء لم يمس أحد بكارتها السياسية مع أن شهود العيان رأوها تنزف فى أنهار فيتنام وجبال أفغانستان ومدن العراق.
رأوها تقدم أسلحة قتل الفلسطينيين ودمار بلادهم مكتفية بزيادة شاحنات المساعدات الإنسانية ليتناولوا العشاء الأخير قبل أن يموتوا.
رأوها تحاول تمييع القضية الفلسطينية وتأجيل البت فيها وإبعاد أهلها عنها حتى يتولى الزمن إلغاءها ووجودها وذاكرتها.
فى الوقت نفسه يخرج علينا وزير خارجيتها «أنتونى بلينكن» ليبشرنا وسط القصف الإسرائيلى الذى لا يتوقف على غزة بوجود «دول عربية وإسلامية مستعدة لإقامة علاقات مع إسرائيل ضمن مسار يؤدى إلى قيام دولة فلسطينية».
لم يكذبه أحد.
ولم يستنكر الموقف أحد.
ولم يطلب فتح سرادق عزاء فينا أحد بعد أن تساءل «نزار قباني» فى إحدى قصائده «متى يعلنون وفاة العرب»؟
لنتذكر بعضا من أبياتها لعلنا نسترد الذاكرة الضائعة.
«أنا منذ خمسين عاما. أراقب حال العرب. وهم يرعدون ولا يمطرون. وهم يدخلون الحروب. ولا يخرجون. وهم يعلكون جلود البلاغة ولا يهضمون.
«أنا منذ خمسين سنة. أحاول رسم بلاد. تسمى مجازا بلاد العرب. رسمت بلون الشرايين حينا. وحينا رسمت بلون الغضب. وحتى انتهى الرسم ساءلت نفسي. إذا أعلنوا وفاة العرب. ففى أى مقبرة يدفنون؟ ومن سيبكى عليهم؟ وليس لديهم بنات. وليس لديهم بنون. وليس هناك حزن. وليس هناك من يحزنون.
وينتهى قائلا: «رأيت العروبة فى مزاد الأثاث القديم. ولكني. ما رأيت العرب».
وكل ما حدث أن الدول العربية منعت نشر القصيدة ما عدا مصر.
وعندما نشرتها فى «روز اليوسف» أصبحنا نزار قبانى وأنا أصدقاء تجمعنا الحرية.
إنها مصر نفسها التى أيدت قرار محكمة العدل الدولية بعد خمس دقائق من صدوره.
إنها أيضا مصر التى عرفت حقيقة متطرف متهور يحكم إسرائيل ومستعد أن يحرق المنطقة بأكملها دون أن يهتز ضميره وأعطته ظهرها له.
فى الوقت نفسه هناك من يتعهد بمد يده إليه.
إن أقرب الناس إلى «نتنياهو» يتمنون زرع جهاز «كشف الكذب» فى حنجرته فما يقوله علنا لا يمت بصلة لما قاله فى اجتماعات مجلس الحرب وكل جسور الثقة بينه وبين من يديرون الأزمة معه قد احترقت تماما فلم نستمر فى الرهان عليه أو على من سيخلفه وهم جميعا من نفس النطفة الفاشية؟
فى يوم صدور حكم المحكمة كشفه «نعوم بارنباع» الكاتب الشهير فى صحيفة «يديعوت أحرنوت» عن وثيقة وقعها ٢٦ مسئولا أمنيا و١٧ مسئولا مدنيا سابقين فى إسرائيل ضمت اثنين من قادة الأركان واثنين من مديرى الموساد واثنين من الشباك جهاز الأمن الداخلى والمفتش العام للشرطة.
ستنشر الوثيقة فى الولايات المتحدة بدعم من رجل أعمال يمتلك شركة أدوية للحفاظ على ما تبقى من العلاقات الأمريكية الإسرائيلية التى دمرها «نتنياهو» دون مبالاة ليحافظ على وجوده سياسيا وحتى لا يدان جنائيا.
«ليست قيمة الوثيقة فى أسماء الموقعين عليها وإنما قيمتها فى اتهام «نتنياهو» بإضعاف القضاء وهدم الديمقراطية واعتباره المذنب الوحيد فيما حدث يوم ٧ أكتوبر وتلطخت يداه بدماء الإسرائيليين كما أنه جوهريا وأخلاقيا لا يجوز له قيادة إسرائيل خاصة فى الحرب وطالبت بإسقاطه والتخلص منه تجنبا لمزيد من الأضرار فى العلاقات بين واشنطن وتل أبيب».
وسعت رئيسة حزب العمل «ميراف ميخائيلي» إلى سحب الثقة من حكومته المتحالفة مع أحزاب توراتية مجنونة بالسيطرة على كامل فلسطين وتهجير شعبها.
ويوما بعد يوم يتزايد انقسام المجتمع الإسرائيلى بسببه ويتمرد جنود الجيش على قراراته ويهرب إلى الخارج من يستطيع النجاة بنفسه أو ماله.
إن «نتنياهو» محاصر فى داخل إسرائيل من كل جانب كما تحاصر مياه البحر سفينة مضروبة بالطوربيد فلم لا يتركه العرب ليلقى مصيره الذى يستحقه؟
لم يصر البعض على مد يده إليه رغم أن أهدافه الصهيونية القريبة والبعيدة أصبحت مكشوفة فهو لا يحتمل الشراكة مع أحد فى الأرض أو فى الحياة وأن قدره الوحيد أن يكون ذابحا أو مذبوحا.
إن عقلية الجيتو التى تسيطر عليه ليست سوى تجسيدا لهروبه ــ مثله مثل اليهود ــ فى اتجاه نفسه وتقوقعا فى محارته التوراتية بعيدا عن الشمس والهواء والضوء.
أما الشكل الوحيد الذى يعرفه ويؤمن به هو وحكومته فهو «المستوطنات المقاتلة» حيث مواسير البنادق أهم من مواسير المياه وحقول الألغام أنفع من حقول القمح. لا يجب أن نخدع أنفسنا ونتصور أن أدولف هتلر سيصبح المهاتما غاندى أو أن «أفران الغاز» الإسرائيلية ستخبز عيشا تطعمه للفلسطينيين أو أن الوصايا العشر ستعرف طريقها إلى العرب إذا ما جلسوا على موائد المفاوضات.