عادل حمودة يكتب: عواصف النار تهب على مصر!
مليشيات في ليبيا وسيرك سياسي في السودان وجحيم في غزة وجنون في باب المندب!
لم يكن "جمال حمدان" يكتب وإنما كان "ينزف".
استخدم الحبر الأسود.
لم يبحث عن حبر أخضر أو أصفر أو أحمر ليجمل كلماته أو لينال الرضاء وهو يشخص حالة مصر ويكشف سر تميزها ويرسو على بر أزمتها.
في عام 1980 بدا في نشر "شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان" على أربع أجزاء امتدت إلى 3651 صفحة.
لكنه قبل الإبحار وضع وصايا الرحلة وكأنه مثل "الخضر" الذي حذر "موسي" بأنه لن يستطيع معه صبرا.
وصايا تنقذنا من الخطايا منها:
ستنقرض الحقيقة إذا ما ظلت تحت الحراسة.
سيغطي الملح الشفاه إذا ما كفت عن الحركة.
ستتجمد الحرية في مكانها إذا ما وضعت امام فوهة بندقية.
ستتوقف حركة التاريخ إذا ما فرضنا عليها مصادرة.
إنها تحذيرات مثقف "بالغ الحساسية شديد الكبرياء" اختار عزلة "الراهب" وشغف "الباحث" وتحدي "المؤرخ" وحياة "الزاهد" ليخرج علينا حاملا كتابه بيمينه.
لكنه قبل أن يبدأ حذرنا من أنفسنا.
قبل أن يكشف أوراقه صارحنا بعيوبنا.
قبل أن يمضي رفع الكارت "الأحمر" في وجه نرجسيتنا.
لنمسك اعصابنا قبل ان نقرأ ما كتب عنا جميعا.
"نحن شعب نمجد أنفسنا بحق وبغير حق ونحب ما يرضينا ويعجبنا".
"نحن نكره أشد الكره أن نسمع عن عيوبنا وشوائبنا ونرفض أن نواجه بها".
"ولا توجد فضيلة أو ميزة على وجه الأرض إلا وننسبها إلى أنفسنا ونلصقها بها".
بل أسوأ من ذلك "قد نتباهى بعيوبنا وسلبياتنا ذاتها" فيما يسميه البعض "الشخصية الفهلوية".
والمؤكد "أنه كلما زاد جهلنا بمصر كلما زاد تعصبنا لها".
"وكلما زادت أحوالنا سوءا كلما زاد تفاخرنا بأمجادنا وعظمتنا".
"نحن معجبون بأنفسنا أكثر مما ينبغي متجاوزين الكبرياء الصحي إلى الكبرياء المرضي".
"ونحن نتلذذ بممارسة عبادة الذات في نرجسية تتجاوز العزة الوطنية إلى النعرة الشوفينية الساذجة".
"إنه مركب عظمة بكامل أبعاده وهذا مقتل كامل للشخصية المصرية".
حتى في مستقبل مصر "نحن أما متفائلون بإسراف يدعو إلى السخرية أو متشائمون إلى حد متطرف قابض للحيوية".
في النظرة إلى مستقبلنا "نلاحظ غالبا أولئك الذين يفضلون خداع النفس لراحة البال على مواجهة الحقيقة المرة "في عينها" ومن جهة أخري هناك خطر المتشائمين المنفرين المحترفين الذين أفقدهم التوتر حس النسبية هم أيضا".
"باختصار مصر أما "بخير" دائما أو في "خطر" أبدا" وكلا الحكمين لا يضع قدميه على الأرض.
ومنذ الفراعنة اعتبر كل حاكم عصره أفضل العصور وكلما زادت شعبيته زادت شدته.
نحن امام "مفكر" يؤمن بأن الكلمة رفيقة وشريكة دقيقة التكوين والتعبير وليست خادمة أو جارية أو موظفة حكومية تتحدث بلسان غيرها وتخرج علينا هزيلة في رغوة الصابون وشاشة التلفزيون وأعمدة الصحف.
نحن أمام "قديس" أو "ولى" حرق كل ما لديه من أقنعة وأثواب تنكرية.
ليس مثقفا في بلاط سلطة أو ثروة يتجلى لنا مرة ليبراليا في هيئة "سعد زغلول" ومرة أخري نازيا في هيئة "أودلف هتلر".
لكنه طراز نادر من العلماء لا يخاف التشهير والتشويه إذا ما وجه إلى مصر نقدا موضوعيا صادقا مخلصا.
إنها آفة المنافقين أن يفتحوا النار على كل من يريد الإصلاح.
إذا كان أجنبيا "فهو عدو بغيض أو حاقد موتور".
وإذا كان مصريا فهو "خائن" و"عميل".
هجوم شرس يصل إلى حد "الإرهاب الفكري والمصادرة على المطلوب مسبقا".
هنا يفقد الكاتب وظيفته ومبرر وجوده.
وربما انسحب أو صمت أو انتحر إذا تملق الحاكم أو دغدغ غرائز الشعب.
"روشتة" كتبها "جمال حمدان" بحروف من النور والنار صاغت ملاحظاته ونصائحه التي طبقها على نفسه قبل أن يدعوا إلى تصديقها عيره.
يكتب: "أن أبن مصر البار الغيور عليها هو وحده ــ لصالجها ــ ينتقدها بقوة وقسوة إذا لزم الأمر وهو يؤمن بأنها لن تتغير ولن تتطور إلا حين يأتيها المفكر والحاكم الصادق كلاهما مع نفسه والجريء مع جمهوره فيواجهه علنا بعيوبه بلا وجل أو دجل".
يضيف: "في الوقت نفسه "قد يكون أعدي أعداء مصر هم بعض المصريين المتعصبين أولئك الذين يدفنون رؤوسهم في الرمال ويتغابون أو يتغافلون عمدا عن عيوبنا زاعمين باستمرار أن أم الدنيا مصر بخير وا، ليس في الإمكان أفضل مما هو كائن متشنجين على كل مصري ينتقد مصر لصالحها".
ويستطرد:
ــ والمثير والمؤسف أن على رأس هؤلاء من يشتغلون بالسياسة في مختلف مواقعهم فهم بحكم تعريف السياسي يبيعون الوطنية للمواطن ولا يملك الواحد منهم إلا أن يقدم الأوهام الوطنية والآثار التاريخية للجماهير.
مرة نحن "ام الدنيا" ومرة ثانية نحن "فوق الجميع" ومرة ثالثة نحن "خير أمة أخرجت للناس" ومرة رابعة نحن "فاتحة التاريخ".
ويكمل:
وفي وقت نحن نعيش أروع وأمجد عصر.
كل ما فات خطأ وكل ما نحن فيه صواب.
ودائما نبدأ من الصفر.
وكأن الجغرافيا التي يسكنها الوطن معزولة عن التاريخ الذي عشناه وننكره أو نرفضه أو ندفنه.
أو كأن الخريطة التي نعيش عليها تغيرت حتى نحصل على نتائج جديدة مختلفة عن التي عشناها من قبل.
إن الخريطة تحكمنا وتحدد مدي حركتنا وطبيعة تحالفاتنا ونوعية أعدائنا وتفرض شروطها الإجبارية على دوائر الأمن القومي.
الخريطة تحدد "عبقرية المكان" على حد وصف جمال حمدان.
مصر تقع في قلب العالم القديم.
تلتقي عندها ثلاث قارات سبقت غيرها في التأثير.
تشارك مصر أوروبا في مياه دافئة يتميز بها البحر الأبيض المتوسط الذي انتقلت عبر أمواجه الهادئة الحضارة المصرية إلى أوروبا الغارقة في العتمة لتنيرها ثم بعد قرون من التطور حملت الأمواج وهي عائدة النهضة الأوربية ثقافة وصناعة ربما ردا للجميل.
ولكنها جاءت أيضا بجيوش إمبريالية شرسة لتستولي على مصر.
لم يكن الهدف مصر في حد ذاتها.
كانت مصر مجرد استراحة وواحة في منتصف الطريق إلى المستعمرات الغنية بالتوابل والحرير في الهند وجاراتها.
هكذا فكر الحالمون بإمبراطوريات القوة مثل "الإسكندر الأكبر" و"نابليون بونابرت" و"ونستون تشرشل".
وتضاعف الحلم بعد حفر قناة السويس حيث قصرت سفريات حملات البحرية العسكرية من شهور إلى أيام.
لكن مصر لم تكن مقصودة بذاتها.
وإنما كانت مقصودة بخدمات الطرق التي تقدمها مجبرة تحت قهر أسلحة مجنون بالهيمنة.
يفسر ذلك لماذا لم تصبح لغة المحتل اللغة الوطنية الأولى كما حدث في دول الكومنولث حيث اللغة الإنجليزية وكما حدث في الدول الفرنكوفونية حيث اللغة الفرنسية مثلا.
بل ربما كانت المفارقة ساخرة أنه في وجود الاحتلال البريطاني كانت النخبة في مصر تفضل اللغة الفرنسية.
يفسر ذلك أيضا شعور المحتل بأن وجوده في مصر وجود مؤقت ومرهون بوجوده في المستعمرات البعيدة الغنية فلم يضف إلى مصر إلا ما يخدم جيوشه لوجستيا.
اكتفت بريطانيا ــ آخر استعمار احتلنا ــ بمد شبكات السكك الحديدية التي تنقل جنودها إلى مستعمرات تحكمها مثل فلسطين أو السودان أو مستعمرات تحلم بحكمها مثل ليبيا.
لم تفتح جامعة أو تطور زراعة أو تجمل مدينة أو تضيف صناعة مثلما فعلت فرنسا في الجزائر حيث اعتبرتها جزاء منها وامتدادا لخريطتها ومزرعة النبيذ الذي يسكرها فلم تجل عنها إلا بعد أن قتلت مليون ونصف المليون جزائريا.
وامتدت عبقرية المكان في مصر من البحر الأبيض إلى البحر الأحمر.
بحر له طبيعة استراتيجية تسمح بتمدد مصر من شماله حيث خليجي السويس والعقبة إلى جنوبه حيث باب المندب البوابة الجنوبية لقناة السويس.
لذلك حاربت مصر في اليمن حتى تضمن حرية المرور في باب المندب.
وأرسلت سفنها الحربية لمزيد من الحماية والضمان.
إن التوتر في باب المندب يؤثر على حركة السفن التي تمر في قناة السويس وتنقل ما يزيد عن عشرة في المئة من تجارة العالم.
لكن ما يهمنا ان القناة برمزية التضحيات المصرية في حفرها وفي قسوة الحروب التي دخلناها بسببها وفي وفرة العائد الذي تحققه لا مفر من تجدد القتال في سبيلها إذا ما أجبرنا على ذلك سواء كان الطرف الآخر عربيا أو أعجميا.
ومهما كانت الاعتبارات القومية التي يعلنها "الحوثيون" لتبرير التوتر عند باب المندب فإن الإضرار بالمصالح المصرية إضرار أيضا بمصلحة قومية يحق لنا مواجهته بالقوة المسلحة.
لقد جلبت علينا "عبقرية المكان" تحديات في كل الجهات.
وربما وافقت أحد المؤثرين في موقعه حينما قال في لهجة ساخرة وإن كانت منصفة:
ــ يا ليت مصر وجدت في مكان آخر يجنبها متاعب عبقرية المكان.
كان يري عواصف النار تهب علينا من كل جانب ودون إنذار مسبق وكأن هناك مستوطنة شياطين فتحت فجأة أبواب الجحيم.
في الغرب تمتد حدود مصر مع ليبيا إلى 1115 كيلومترا.
مساحات شاسعة من المتاعب التي يسببها التحالف بين المهربين والإرهابيين.
وفي داخل ليبيا تتستر الانقسامات القبلية وراء مظاهر سياسية خادعة ومصالح مالية مغرية دفعت كل منها لتحالفات إقليمية ودولية ضاعفت من فرص تجدد الحرب الأهلية وانفجار عواصف محملة بالنار يسهل أن تمتد إلينا.
في الجنوب حيث عمق مسر الاستراتيجي في السودان تتصاعد فرص الحرب الأهلية التي تؤدي إلى خروج أقاليم أخري عن السيطرة المركزية مثل ما حدث في الجنوب.
وفي عصر المليشيات نافست قوات "الدعم السريع" الجيش النظامي.
وبدا مشهدا انقلابيا في العلاقات الدولية ان يستقبل قائدها استقبالا رسميا في أثيوبيا وكينيا وكأنه رئيس دولة؟
ما هذه اللعبة البروتوكولية الانقلابية في العلاقات السياسية والدبلوماسية؟
إن السودان يدفع ثمن قوانين السيرك الذي يعيش فيه لكننا نشاركه في سداد الفاتورة على الأقل باستقبال مئات ومئات من اللاجئين إلينا.
لكن مهما كانت المأساة وراء حدودنا الجنوبية فإنها لا تقارن بالجحيم القادم من وراء جدودنا الشرقية.
في الشرق تمتد الحدود مع إسرائيل 12 كيلومترا وتمتد الحدود مع قطاع غزة المسافة نفسها.
"24" كيلومتر يمكن ان تتحول إلى "تبة ضرب نار" إذا ما انفجرت الحرب بين الدولة العبرية والمقاومة الفلسطينية.
في هذه الحالة تتطاير شرارة بعد شرارة حتى تصبح عاصفة جديدة من عواصف النار التي علينا حماية أنفسنا منها.
حدود ستظل حبلي بالقنابل حتى تطرد إسرائيل سكان غزة إلى مصر أو تنجح المقاومة في اجبار إسرائيل على الاعتراف بحقها المشروع في وطنها فلسطين.
في يوم السبت 7 أكتوبر 2023 نفذت المقاومة عملية جريئة مذهلة أطلقت عليها "طوفان الأقصى" سببت إهانة موجعة لنجوم الغطرسة في المؤسسات الإسرائيلية السياسية والعسكرية والأمنية والمالية فقررت الانتقام بقصف البشر والحجر.
لم تستوعب إسرائيل حكمة "كونفوشيوس" أن المنتقم يحفر قبرين أحدهما لعدوة والآخر له.
طالت الحرب حتى وصلت إلى رقم قياسي غير مسبوق.
دخلت المقاومة في دم الناس وبدأت بالتوالد والتناسخ.
كأنها شجرة أصبحت غابة أو قطرة أصبحت محيطا أو شرارة أصبحت ثورة.
سكتت السياسة وتكلمت الرصاصة.
فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها المعلنة من الحرب فقررت تهجير الفلسطينيين إلى سيناء ورفضت مصر ورفض الفلسطينيون.
وهددت إسرائيل بضرب ممر "فيلادلفيا" الفاصل بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية.
في هذه اللحظات الصعبة وضعت مصر يدها على الزناد.
ارتفعت احتمالات الحرب بين إسرائيل ومصر إلى نسبة عالية غير مسبوقة.
لا تريد مصر القتال لكن إذا كتب علينا فلا مفر منه.
في الوقت نفسه سيطرت "التقية" على السياسية الإيرانية.
اكتفت إيران بصواريخ يطلقها حزب الله من الجنوب اللبناني أو مسيرات يعلن بها الحوثيون عن ولائهم للخومينية في باب المندب أو بهجمات سورية وعراقية من جماعات شيعية على اهداف أمريكية.
هل يعني ذلك توسع الحرب في غزة وتمددها إقليميا لتتورط فيها قوي دولية؟
هل من مصلحة إسرائيل النفخ في النار لتصل عواصفها الحارقة من المحيط إلى الخليج ومن الخليج إلى البوسفور؟
وهل تستعد مصر للحرب؟
وكيف ستواجه اعبائها في ظل الأزمة الاقتصادية القائمة؟
الإجابة يمكن أن تنتظر العدد القادم.