أحمد فايق يكتب : للثورة شعب يحميها فى إمبابة والمطرية والسلام والأميرية

مقالات الرأي



■ يقيمون المهرجانات فى الحوارى يغنون للحرية والبنات والمخدرات والثورة والشهداء

■ صور «بوب مارلى» غزت جدران بيوت العشوائيات والمطرب الشعبى تحول إلى مناضل


فى المشاهد الأولى للفيلم نرى دخول مطربى المهرجان إلى الحارة والجميع ينتظرونهم ويطلقون الشماريخ وتبدأ ليلة من الرقص الصاخب



هل تنظر باستغراب للـ«توك توك» أو «الميكروباص» والسائق يجلس فيه يمارس كل أنواع المخالفات المرورية فى العالم، ويستمع لموسيقى غريبة صوتها عال يغنى فيها أشخاص مجهولون لا تعرف عنهم شيئا، لا تستطيع أن تفهم كلماتهم، لكن يبدو أنها تؤثر فى شريحة كبيرة من المصريين، تدفعهم للرقص بطريقة غريبة، ومحاولة إخراج طاقة الكبت من خلال القيادة بشكل جنونى، هل مرت أمامك «مركب » صغيرة فى النيل ترقص فيها البنات والشباب بشكل جنونى على أنغام هذه الموسيقى التى تتميز بأن إيقاعتها متقاربة وسريعة وعالية وتدفعك للرقص بدون توقف، وصوت المطرب فيها يتحول إلى نغمة موسيقية، فهى موسيقى حولت الأصوات العشوائية إلى نغمات وأفرغت طاقات الغضب عند الطبقات الشعبية.

هل تسمع عن هذه الأسماء «سادات 73.. علاء فيفتى.. دى جى وزة.. عمر حاحا.. ديزل.. بلية»؟

بالتأكيد ربما تسمع عن «أوكا وأورتيجا» فقط لأنهم الأكثر شهرة الآن، لكنك لم تقرأ أو تسمع عنهم سوى كل شىء سيئ، وعناوين من نوعية «الانحطاط فى الذوق» «تدمير الفن» «قلة الأدب وأنكر الأصوات»، بالتأكيد نظرتنا لهؤلاء لا تختلف عن نظرة الكثيرين لأبناء المناطق الشعبية فى مصر ونظرة الإعلام لهم بشكل عام، لكنك بمجرد أن تشاهد فيلم «إليكترو شعبي» للمخرجة التونسية هند مدب وإنتاج ستديو مصر، الفيلم الذى شاهدته فى الأيام السينمائية بالجزائر، ستكتشف أن هناك شيئا ما فى هذه الأسماء يستحق أن تقف أمامه كثيرا، هذا الفيلم سيجبرك على أن تتواضع قليلا، وتتأكد أن هذه الثورة لها شعب يحميها، يفهم كل شىء ولا يستطيع أحد أن يضحك عليه، ستخرج وأنت على يقين بأن من سيعادى العدالة الاجتماعية والحرية سيخرج عليه أبناء الأميرية وإمبابة والسلام والمطرية ليلقنوه درسا فى فنون الحكم، وأدب التعامل مع المواطن البسيط، لا أستطيع أن أنكر أننى وقفت فى الشارع بعدما شاهدت الفيلم واضعا يدى فى وسطى ناظرا لأعلى شاعرا بالبهجة والسعادة، لأن مصر فيها شعب يعى ويفهم وينتظر ويصبر ثم ينقض على الديكتاتور والفاسد ليلاقى مصير من سبقوه، شعرت بالبهجة لأن الفيلم رحلة نجاح فى شخوص خرجت من مجتمعات بسيطة، شخوص تعانى من قهر وتخلف وجهل لكنها تعلمت وواجهت ونجحت، نجحوا لأن سائقى التوك توك والميكروباص اقتنعوا بما يقولونه، لم ينتظروا عقدا من شركة كبيرة، أو دعما من قناة فضائية، بل أجبروا الجميع حتى يلهثوا وراءهم.

اخترعوا نوعا جديدا من الموسيقى الشعبية وهى ماتسمى بموسيقى المهرجان، وغنوا فى الحوارى وفى الشوارع وصنعوا جماهير واسعة، لكن السؤال هنا ماذا غنوا؟

قالوا فى إحدى الأغنيات التى دائما لا تستطيع أن تميز كلماتها إلا إذا سمعتها أكثر من مرة «جامع كنيسة على أرض النيل.. اسمع منى حكاية ثورة.. قلبت حال المصريين.. خلت كل الناس محتارة.. هى الثورة لصالح مين.. على الفيس بوك كانت بدايتها.. وإحنا لسة مش عارفين.. اللى بدأها شباب وبنات.. شافوا منها الويل وعذاب.. راحوا وقفوا فى التحرير.. كانوا بيطالبوا بالتغيير.. من على الكوبرى وعالمكشوف.. ولعوا فيهم بالمولوتوف.. شباب كثيرة محتاسة.. بيضربوك بالقناصة.. ضربوهم بأحصنة وجمال.. كام شهيد قدامنا مات.. ضحكوا علينا وشالوا النظام.. وقالوا العيشة تبقى تمام.. أتارى كله طلع أوهام.. واللى يصرخ ويقول حقى.. يضربوه زى العبيد..كلام كثير عمال يتقال.. والنظام السابق شغال.. عملنا إيه فى دم الضحايا.. لوثتوا الثورة فى النهاية.. ولا مجمع الأديان.. ولعت فيه بنفسك ياجبان.. أنا هاسيح وأقول بأعلى صوت.. أنا ليه ياناس أخويا يموت.. ياللى ساكت ساكت ليه.. أخوك مامتش ولا إيه».

فى المشاهد الأولى للفيلم نرى دخول مطربى المهرجان إلى الحارة والجميع ينتظرونهم ويطلقون الشماريخ وتبدأ ليلة من الرقص الصاخب، ومجموعة من مشاهد الـ«فوتو مونتاج» لمهرجانات فى مناطق شعبية بعضها شارك فيها «أولتراس الزمالك والأهلى»، ثم يتحدث لنا «سادات73» و«علاء فيفتي» عن فكرة التحول من الفرح إلى مهرجان فالفرح قديما كان فيه راقصة ومطرب شعبى، أما المهرجان فهو يقام لشخص محبوب فى الحى الشعبى يغنى ويرقص فيه الشباب حول موسيقى المهرجان وكلمات تعبر عن الحالة الاجتماعية والسياسية.

ومن خلال لقطات لأبطالنا داخل مدينة السلام نرى أحدهم يشير بفخر قائلا «الموسيقى خرجت من هذه المدينة»، ثم يغنى على طريقة «السلام بلدنا الجميلة اللى الحكومة مبهدلاها»، ونرى مشاهد تستعرض مدينة السلام التى تملأها القاذورات ومياه الصرف الصحى فى الشوارع، والسكان الذين يعانون من الفقر الشديد، ووسائل نقل غير آدمية، مدينة لا تقنعك بأنها قادرة على إنجاب إنسان وليس مبدع أو صاحب خيال، مثلها مثل المدن التى خرج منها أبطالنا، لكن بعد قليل ستكتشف أن صور «بوب مارلي» مرسومة على الجدران، وهناك ستديوهات موسيقية كاملة مرسومة جدرانها بالجرافيتى تم رسمها فى حوارى إمبابة ووسط مقالب القمامة.

يستطيعون استغلال أبسط الإمكانيات من أجل عالمهم، فى شوارع السلام تلتقى الكاميرا، أجيال جديدة من مطربى موسيقى المهرجان، أحدهم يغنى «حبوب منشطات.. وإدى كله للشباب.. شبح الموت قرب خلاص.. بيقولوا الكيف غلاب.. تعالى وإنت الصح.. بص لنفسك فى المراية.. هتلاقى إنسان ضعيف.. وهاتبقى هى دى النهاية.. شكلك إيه قدام أصحابك.. لما تكون إنسان ضعيف..مافيش فلوس فى جيبك.. حتى شكلك مش نضيف.. ياخسارة على الشباب».

هذه الحالة يلخصها لنا «وزة» قائلا «هم واخدين عننا فكرة إن المناطق الشعبية فيها ناس وحشة.. أحب أقول لهم عندنا ناس كويسة ومحترمة ويطلع منها مواهب »

نسمع نغمات أغنية تقول كلماتها «أنا اللى عيشتى حرام فى حرام.. ونسيت عذابى اللى مابينام.. لا صمت مرة ولا صليت.. وكنت قادر ولا حجيت.. وكان معايا كثير المال.. مافتكرش فى يوم زكيت.. فى كل يوم تلاقينى فرحان.. وعقلى تايه من الدخان.. وقلبى تايه مافيهوش إيمان.. ياويلى لو مالحقتش أتوب»، من غنى هذه الكلمات هم أنفسهم من تظاهروا فى التحرير ضد دستور الإخوان، وسمعنا توصيفات لمرسى على لسانهم من نوعية «ده عبيط.. الشعب مش هايسكت له».

نعود إلى «وزة» حكيم وفيلسوف المجموعة، الذى يقول «قبل الثورة ماكانش لينا رأى أو صوت والمهرجانات الناس بتقول فيها اللى شايفينه صح»، وبين «وزة» و«أوكا» و«أورتيجا» علاقة خاصة، فقد بدأوا المشوار سويا وجمعهم حلم واحد، نجحوا فى الوصول إلى الجمهور من خلال الإنترنت والتوك توك والميكروباص، لكن دائما مايقف الآخرون أمام الأصدقاء، فقد نجحت قناة مزيكا فى التفرقة بينهم، وقعوا عقدا مع أوكا وأورتيجا وتم استبعاد «وزة» من التعاقد، ليفترقوا حتى الآن، وبقى «حاحا ووزة وشيبسى وسادات 73» وغيرهم يقيمون المهرجانات فى الحوارى، يغنون للحرية والبنات والمخدرات والثورة والشهداء، يقول لنا «إسلام شيبسى» الذى يعتبر نفسه أصغر موسيقى فى إمبابة «كنا مكبوتين ومتكتفين كفاية حتى لو ماتغيرناش دلوقتى على الأقل بنختار اللى إحنا عاوزينه».

الأمل فى قصة الـ«دى جى فيجو» الذى أصبح أشهر مؤلف موسيقى مهرجانات، فقد بدأت علاقته بالموسيقى داخل منطقة عشوائية، بحث على الإنترنت عن برنامج لعمل الميكسات الموسيقية، وخرج له برنامج «ful studio»، وظل فيجو طوال عام يبذل مجهوداً كى يفهم المونتاج والتأليف الموسيقى، إلى أن أتقنه وأصبح محترفا وله ملايين من المعجبين، تعلم كام شىء بنفسه، فهو لا يمتلك ثمن الدراسة فى الكونسرفتوار أو معهد الموسيقى العربية، لكن بأدوات بسيطة حول كل شىء عشوائى فى حياته إلى موسيقى ونغم، فيجو مثلهم غنى للحرية والحب والثورة والبسطاء، أبطالنا شاركوا فى كل أحداث الثورة منذ بدايتها سواء بالتظاهر أو بالغناء.

إنهم قصة نجاح حقيقية قادمة من مصر العشوائية يحذرون من ثورة الجياع ويؤكدون أن للثورة شعباً يحميها.