منى غنيم تكتب: أنبياء كاذبون
منذ بداية الأحداث في السابع من شهر أكتوبر الماضي، تعلق ذهني بالكامل بذكرى واحدة، واقعة واحدة من عمر الزمن قد لا يكترث لها أحد؛ لأنها مثل معظم الأشياء ليست مميزة؛ بل هي مجرد ومضة ضوئية أنجبت صورة "بولارويد" من مئات الملايين من الصور الفوتوغرافية التي تلخص قصتنا على الأرض.
كنت صغيرة السن - لا يتجاوز عمري الـ١٠ سنوات - حين استيقظت على طرقات سريعة ملهوفة على باب شقتنا تشي بآلام صاحبتها وبالمصيبة المتوقعة، كانت جارتنا الست المصرية "أزهار" تستغيث بوالدتي لأن زوجها الفلسطيني - الذي لم أستطع أبدًا تذكر اسمه - سقط مريضًا وهو في حاجة لمساعدة عاجلة، بطبيعة الحال والشخصية المصرية الخدومة هرولت أمي للطابق الذي يعلونا، وتسللت أنا، لا أعرف إن كان تسلل أم إن كان تم جرّي للشقة العلوية، لكنني أتذكر جيدًا جلوسي أمام الرجل المحتضر على سريره وجهًا لوجه وكأن الزمن تجمد؛ كان يشهق وروحه تتسابق للخروج وينظر لي بثبات، وقد أعياه المرض عن محاولة التجمل أو إخفاء الأصوات أو عدم إخافتي، كان نبيًا صادقًا.
ربماكان ينظر لي مستجديًا النجدة؟ وربما كان منتظرًا للاشىء؟ بينما تمكنت السيدتان بنجاح من طلب الإسعاف، توفي الأستاذ الذي لا أذكر اسمه بعدها بأيام قليلة، أما صورة وجهه فقد حُفرت بذاكرتي للأبد، ربما كان يحاول أن يقول أن الشعب الفلسطيني خُلق ليموت؟
قد يبدو نوع من أنواع التجديف أو الهرطقة الفكرية التي لا تؤمن بعصر المعجزات، ولكنها حقيقة دولية منذ بداية عملية "طوفان الأقصى" الأخيرة، أعرف أنه نزاع مسلح حول حق واضح وبديهي يبدو مثل وضوح وبديهية عمليات الجمع والطرح في الرياضيات، لكنه استمر - وسيستمر - لعدة أجيال، بل وربما زال بزوال الأرض نفسها.
ما استوقفني في الصراع الأخير كان طوفان "الأنبياء الكاذبين" الذي نزلوا لعالم البشر دون عقيدة، هم يعون أن ليس بيدهم الحل وأنهم لا يقدرون على شىء؛ ومنهم الشركات الكبرى التي حاولت بشكل مثير للضحك التنصل من علامتها التجارية من أجل استمرار المبيعات، ثم حرب الفنانين التي لا طائل منها والتي كان ممكن استبدالها بالكامل بشيك تبرعات أو اعتذار صامت عن عمل ما أو صمت موسيقي جميل، ثم المناقشات الدولية - وما أدراك ما المناقشات الدولية - التي لا تسمن ولا تغني من جوع مع دول رئيسية ومنها قائدة العالم الحر شخصيًا المعروفة منذ ولادة المجرات وفصول السنة بمساندتها للكيان الصهيوني وهي لم تبذل حتى أبسط الجهد لإخفاء ذلك بل تعلنه صراحة حتى في قلب الأزمة المشتعلة كما هو الحال الآن.
وبرغم ذلك يتوهم الأنبياء الكاذبون أن بيدهم مفتاح الحل.
الأنبياء الكاذبون في تعريفي الخاص هم كل من يتوهم أنه يدعو لنصرة الحق وهو لا يقدر على شىء وللأمانة لا يكترث حقًا لكنه الترند، لكنها الهوجة، وهل يعلو صوت فوق صوت الجنون؟
تتذكرون مأساة "سيزيف" عندما ارتقى الجبل وهو يحمل الصخرة ثم لا تلبث الصخرة أن تتدحرج للأسفل مجددًا نحو الوادي؟ ما يحدث الآن هو ملايين "السيزيفات" التي سمحت لها "السوشيال ميديا" بالوجود وجميعهم يحاولون الارتقاء لعنان السماء من أجل أن تسقط صخرتهم على الأرض، عقاب أبدي لكنه جدير بالنبوة الكاذبة.
الخلاص لن يأتي إلا بالوحدة، وكيف تنتظر الشىء من غير معطيه؟ كيف تتوقع الوحدة والاتحاد من مجموعة من المتناحرين داخليًا وخارجيًا وعلى كافة الأصعدة، يمزقهم النصب والفساد الذي يسري في الأوردة وفي الضمائر وفي الواقع المشوه، والمصالح الفردية، والغيرة، وقانون الغاب، بل والتنمر القبلي الذي قد يكون حلًا جيدًا لو كنا في سوق عكاظ.
النصر مشروع جاد، ولكن هل نحن جادون؟ تذكرت شخصية "سمارة بهجت" في رائعة نجيب محفوظ "ثرثرة فوق النيل"؛ الفتاة الوحيدة الجادة وسط مجموعة من المنحلين المدمنين، ترى هل يمكن تطبيق تجربتها الكاملة على عالمنا الناقص؟ أم يجب "المهادنة" وترقيع الحقيقة بالكذب؟ الساسة يكذبون حين ينادون بوقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن، ما يريدونه حقًا أن تنجلي الأزمة بعصا سحرية وأن يحيا أولاد العمومة الثلاثة المتجاورين معًا في انسجام تام، كانسجامنا في الأيام الغابرة مع جارتنا، نصعد إلى شقتهم وينزلون إلى شقتنا.
آلهة المنتجات الاستهلاكية الحديثة يكذبون؛ لا أحد مهتم بتحرير الأقصى بقدر اهتمامه بسب هؤلاء الغزاة الخنازير من أجل ثمن زجاجة مياة غازية بالتأكيد لن يتقاسمون ريعها مناصفة مع غزة، أما القنوات التليفزيونية - العربية والغربية - لا تكترث سوى لنسب المشاهدات، ترى هل يمكن وجود واقع لا تشوبه "الواقعية السحرية" بل تشوبه المعطيات والنتائج؟ أم أنه مجرد خيال قارىء؟!
من يريد النصر فعليه بالقوة؛ النبوة الكاذبة ليست سوى مرآة للضعف، ولا تعكس سوى ضحكات السخرية العالمية المستترة وراء كاميرات التصوير التي قد تشجب أو تدين فقط، على حسب الموديل.
((هل هو أمر طبيعي أنني لا أتذكر سوى اسم السيدة جارتنا؟ أم هي مفارقة كونية مقصودة؟))
لا حرية ولا كرامة إلا بالوحدة، وإن كانت مشروع خيالي في مخيلة بعض القراء الرومانسيين مثلي فقط، أما الباقي فتحصيل حاصل.
أما الباقي فنظرة الخواء في عين الأستاذ المتوفي رحمه الله الذي لم أفك شفرتها حتى الآن.
((أكانت استغاثة أم استجابة للمصير؟ ))