وكيل الأزهر: من كمال الدين الإسلامي أنه صالح لكل زمان ومكان
وجه أ.د/ محمد الضويني، وكيل الأزهر، الشكر لمجلس الإمارات للإفتاء الشرعي على مؤتمره العالمي الثاني، والذي يدور حول: «الاستيعاب الشرعي للمستجدات العلمية»، والذي يحظى برعاية كريمة من سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية.
وأضاف وكيل الأزهر أن الله سبحانه وتعالى أنعم علينا بهذا الدين الذي أعلن في قرآنه أنه أكمله وأتمه ورضيه، ومن كمال هذا الدين أنه صالح لكل زمان ومكان، وأن الشريعة بأحكامها الثرية قادرة على التعامل مع المستجدات المختلفة في كل مجال، وإذا كانت إرادة الله تعالى وحكمته قد اقتضت أن تكون الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع والرسالة العامة للناس أجمعين؛ فإن هذا يعني مرونة أحكامها، وقدرتها على التفاعل مع كل عصر ومصر.
وبيّن الدكتور الضويني أن من تأمل أحكام الشريعة بإنصاف وترو ودقة نظر بان له أن هذه الأحكام تحقق مصالح الناس الدينية والدنيوية، وتجمع بين العقيدة والعبادة والمعاملة، وإذا كانت طبيعة الشريعة المرونة والاستجابة للمتغيرات؛ فإن الواجب على أهل الشريعة أن يكونوا على قدر عطائها ومرونتها ومعاصرتها.
وأكد أن من الضرورة بمكان أن نقوم بالواجب العلمي والمجتمعي تجاه التغيرات المتسارعة، التي أثرت على جوانب الحياة كلها، وأن نحرص من خلال بحوث جادة رصينة أن نجعلها بابا جديدا من أبواب تنشيط الملكة الفقهية؛ لنصل إلى أحكام معاصرة، فنثري الفقه بأحكام جديدة، ونضبط حركة الحياة بالشريعة المرنة، كما
أن من إحدى سمات العصر المميزة هذا التسارع والتغير في جميع مجالات الحياة؛ خاصة بعد أن صارت التكنولوجيا وتطبيقاتها جزءا من حياتنا.
وأوضح الدكتور الضويني أن الواقع يشهد أن الناس حول العالم أصبحوا أكثر اعتمادا على التكنولوجيا ومنجزاتها في تواصل بعضهم مع بعض، أو في إنجاز الأعمال، أو في نقل الخبرات، أو حتى في الترفيه؛ لدرجة أن بعض هذه التطبيقات تؤثر في أنظمة اقتصادية واجتماعية في عدد من الدول، وأن هذا التغير المتسارع بما يحمله من فيض معلوماتي ومستجدات علمية يفرض على الباحثين المعاصرين -وخاصة في مجال الفقه الإسلامي- ضرورة التصدي لهذا الواقع المتطور بالنظر والتأمل في نصوص الشريعة وقواعدها الكلية ومبادئها العامة ومقاصدها الشرعية؛ لتكييفه وإخضاعه للحكم الشرعي الذي يناسبها من خلال رؤية فقهية جديدة معاصرة.
وتابع وكيل الأزهر أنه إذا كانت أحوال الناس وقضاياهم المتجددة في حاجة إلى معرفة الحكم الفقهي؛ فإنها فرصة يثبت الفقهاء فيها قدرتهم على امتلاك أدوات الاجتهاد وقواعده، وموطن يكشف الصادقين في العلم من الأدعياء، والمتأمل لما طرأ على حياتنا واقتحم علينا بيوتنا وأفكارنا يدرك أن هذه المستجدات العلمية لا يمكن اختزالها واختصارها في صورة أجهزة حديثة ومخترعات جديدة، بل منها جزء اجتماعي فكري خطير، في صورة نظريات وفلسفات وشبهات، تطرح بدائل للإيمان والعقيدة، والعبادة والنسك، والمعاملة والسلوك، والواجب على الفقهاء والدعاة أن يحوطوا هذا كله بالتأصيل العلمي، والتكييف الفقهي.
وأردف الضويني أنه من الواجب أن نسأل عن علاقة المخترعات الحديثة والتطبيقات التكنولوجية بالعبادات وتيسير إخراج الزكاة والصدقات لمستحقيها، وتيسير أعمال الحجاج والمعتمرين في الطواف والسعي والرمي، وعن علاقة المستجدات العلمية بالأحكام الشرعية المتعلقة بالمسائل الطبية المعاصرة، كإثبات النسب، وإثبات الشهادة، وبيان قدرة هذه المخترعات الحديثة والمستجدات العلمية على كبح جماح التطرف والانحراف الفكري بما يضمن المحافظة على الأمن القومي.
وتساءل وكيل الأزهر هل تستطيع المستجدات أن تغير النظرة للمعاملات الاقتصادية المعاصرة؟ أو أن تدير وأن تعالج الأزمات الاقتصادية الطارئة؟ أو أن تحقق الاستخدام الأمثل للموارد في ظل استخدام غير عادل للبيئة وكنوزها ومواردها؟ وغير ذلك من أسئلة تبحث عن جواب، وإذا كان من الواجب أن نسأل مثل هذه الأسئلة التي تبين أثر المستجدات العلمية على بعض مجالات الحياة؛ فإن من واجب الفقيه والداعية أن يسأل أيضا عن هذه المستجدات العلمية الفكرية والمجتمعية فليست أقل خطرا ولا أثرا من المخترعات والأجهزة.
وأكد الدكتور الضويني أن الشريعة وأحكامها قد استطاعت عبر قرون طويلة أن تبقى حية نابضة، وأن سر بقائها تفاعلها مع معطيات كل عصر بما لا يخرج عن الفقه وأحكامه، وبما لا يضيق على الناس حياتهم، ولا يضيع عليهم فرصة الاستمتاع بطيباتها ومستجداتها واستثمارها، ولا ننكر أن بعض الفقهاء والدعاة قد عكفوا على التقليد، واكتفوا بإعادة طرح الفقه القديم دون أن يراعوا الواقع المتطور المتغير، فقدموا الفقيه للناس على أنه ذلك الرجل الجامد المتحجر الذي يفتي بما يحفظ دون أن يكون له اتصال بالعالم ومستجداته وتطوراته، وقدموا الفقه على أنه علم قديم لا يناسب الحياة، وأن الحياة قد سبقت الفقه.
وشدد وكيل الأزهر أنه إذا كنا نؤمن أن الإسلام دين العلم، فإن من الواجب أن نفهم أن العلم الذي ندب إليه الإسلام لا يتوقف عند العلم الشرعي وحده، بل إنه يمتد ليشمل علوم الحياة وعلوم الكون، وضروب النشاط الإنساني كافة؛ ومن ثم فإن الفقه الآن ليتداخل مع التاريخ والجغرافيا والطب والهندسة وعلم النفس وبقية العلوم، وإن الفقهاء والدعاة الذين لا يستطيعون تحديد مكانهم اليوم في هذا العالم الذي يموج بالمستجدات في فروع العلم كافة سيكونون فقهاء بلا فقه، ودعاة بلا دعوة، وسيتركون الناس فقراء في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المستقبلية.
واختتم وكيل الأزهر كلمته أنه يجب على المؤسسات التعليمية -من باب القيام بالأمانة التي أنيطت بها- أن تعمل على إعداد الطلاب بما يتماشى مع هذا التغير المتسارع، والذي لا يتوقف في ناحية واحدة من نواحي الحياة، بل يشملها كلها اقتصادا، واجتماعا، وثقافة، وسياسة، وحتى في المهن والأعمال والوظائف التي تغيرت أو استحدثت أو أدخل فيها من التقنيات ما لم يكن بها من قبل، وإن تفاعل الدراسات الشرعية مع المستجدات العلمية، وقدرتها على استيعابها يؤكد في مضمونه مرونة الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وهو خطوة جادة نحو تقريب الناس إلى حياض الشريعة، باعتبار أن هذه المستجدات العلمية مما لا غنى للناس عنه.