د. رشا سمير تكتب: دكتور إلحقني المغص جوه في بطني!
أتذكر جيدا أن الدكتور هاشم فؤاد عميد كلية طب القصر العيني سابقا، وهو رجل يتمتع بهيبة ومكانة كبيرة، كان يستقبل طلاب الفرقة الأولى للكلية في أول محاضرة له معهم بقوله الشهير:
"أنتم كريمة المجتمع"
هكذا كان الأستاذ المحنك يُشكل بجملته العميقة وجدان هؤلاء الطلاب وكان دوما يدفعهم للظهور بمظهر لائق يليق بمهنة الطبيب التي كانت وقتها أرفع مكانة في المجتمع..
أتذكر أيضا أنه في وقت ما كانت إعلانات بيع السيارات المستعملة لا تخلو من جُملة مُحفزة للبيع هي (السيارة إستعمال طبيب)!، وكأن الشخص الذي يحمل هذا اللقب يتعامل مع الأشياء بطريقة خاصة تجعل لمجرد مروره عليها قيمة أكبر.
هذا كان أمس..أما اليوم فقد تبدلت الأوضاع..
من دُفعة هي خمسين طالب حصلوا على مجموع مرتفع في الثانوية العامة نتيجة تعب ومجهود حقيقي في وقت كانت مدرسة الطب هي القصر العيني وعين شمس..إلى دفعة هي خمسمائة طالب نجحوا في زفة الغش الجماعي دون أدنى مجهود والتحقوا بعشرات الكليات العامة والخاصة في زفة التنسيق أو بفلوس ذويهم..
تلك هي الحكاية بإختصار..مهزلة تعليمية أدت إلى مهزلة أكبر والقصة هذه المرة أبطالها أطباء كلية طب البشري والأسنان..الطبيب الذي كان يوما يُطلق عليه لقب (حكيم).
بدأت المهزلة برسوب أكثر من ٦٠٪ من طلاب الفرقة الأولى بكلية الطب البشرى جامعة أسيوط، بعد التحري والتقصي توصل عميد الكلية إلا أن هؤلاء هم نفسهم أبطال واقعة لجان الغش الجماعى في الثانوية العامة العام الماضي!..
كلاكيت تاني مرة..وتتكرر المأساة في جامعة جنوب الوادي وبالتحديد في فرع قنا بكليتي الطب البشري والأسنان برسوب أكثر من ٧٠٪ من طلاب كلية الطب البشري بالفرقة الأولى و٨٠٪ من طلاب الفرقة الأولى بكلية طب الفم والأسنان (يعني بإختصار مدرسة النجاح لم ينجح أحد)!.
الحقيقة المؤكدة أن ضعف منتج الثانوية العامة والمهازل التي تحدث في اللجان منذ الأمد وتسريب الإمتحانات والتسيب الأخلاقي وعدم وجود الوازع التربوي الذي يجعل من ضمير كل طالب رقيب عليه هو السبب المباشر في هذه الكارثة، بل ووصلت المأساة إلى أولياء الأمور حيث أصبح كل ما يهم الأباء هو المجموع الذي سوف يحصل عليه أبنائهم في الثانوية العامة فيؤهلهم لكليات القمة غير أبهين بكيفية نجاح هؤلاء الطلبة عند إلتحاقهم بالجامعة (المهم يقعد الأستاذ عبده على القهوة مع زمايله يقولهم الدكتور ميدو إبني دخل كلية الطب وبقى لهلوبة في العمليات)!.
وترتفع ضحكة ميمي هانم وهي في صالون التجميل مع صديقاتها لتقول (نوني بنتي حبيبتي بقت هايلة في طب أسنان جامعة المريخ لدرجة أنها بقت بتعرف تطلع السوسة عن بُعد)!.
هذه هي المأساة يا سادة..فشل في فشل..لو أحسنوا تربيتهم لمنعتهم ضمائرهم من ممارسة فعل الغش في اللجان، ولو أحسنا تعليمهم لاستطاعوا أن ينجحوا بمجهودهم الذاتي..
والنتيجة هي: لا تربية ولا تعليم..(يعني التعادل صفر صفر)!.
المأساة الأكبر هي عدم وجود مُعلم يقوم بدوره، ولا مدرسة حكومية بها فصل دراسي فيه عدد معقول من الطلبة يسمح لهم جميعا بتلقي المنتج الدراسي والإستفادة منه..
فصول مكدسة بطلبة ينتقلون من مرحلة دراسية إلى أخرى بختم (ناجح) وعقل (راسب)!.
أتذكر وأنا طالبة في الثانوية العامة أنني ذهبت غاضبة إلى مشرف الدور في امتحان اللغة العربية أشكو المراقب الذي خرج وترك اللجنة وسمح للجميع بالغش بشرط عدم إصدار أي صوت!..وأتذكر يومها كيف هاج وماج زملائي من تصرفي هذا، وكانت حُجتي: "إنهم يضيعون حق من ذاكروا بحق".
ما زاد الطينة بلة هو ما جاء على لسان المشرف العام على كلية الطب جامعة الأقصر مُصرحا بأن طلاب مدارس اللغات كانوا أفضل في اللغة من طلاب المدارس الأميرية، حيث أن الجامعات ليس لديها الوقت اللازم لتأهيل الطلاب لغويًا أو الترجمة الحرفية لكل ما يدرسونه، ولأن دراسة الطب هي في الأصل باللغة الإنجليزية فقد وقعت الكارثة..
الحقيقة أنها مهزلة ذكرتني بمسرحية مدرسة المشاغبين ومدرسة النجاح التي لم ينجح فيها أحد، بقيادة المتر علام الملواني!.
في يوم ما سوف يتخرج هؤلاء الطلبة المتعثرون، بشكل أو بآخر، والأقرب أنه بآخر!..
أتصور وقتها إحدانا وقد ساقته أقداره إلى إحداهما في عيادته نشكو له ألما ونقول: "دكتور إلحقني المغص جوه في بطني" من المؤكد ودون أن أكون قارئة للغيب، أن أقصى علاج ممكن أن يكتبه هذا الطبيب الجهبذ لسيادتك (إذا ربنا كرمه وعرف يشخص المرض) هو.....كوب ينسون دافي!..
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب.
[email protected]