"عم محمد"يروي للشرق الأوسط تاريخ " البقشيش"..ويؤكد : البرلمان المصري ينتظر نوابا أكثر سخاء من "الإخوان" والسلفيين
«إذا زادت طلبات النواب عن شرب الحلبة والسحلب والشاي بالحليب فهذا يعني أن الدورة البرلمانية ستشهد الكثير من المعارك الفارغة، وقليلا من البقشيش للبوفيه (المقصف الداخلي الذي يقدم المشروبات والمأكولات الخفيفة)».. هكذا يلخص العم محمد، أحد قدامى العاملين في مبنى مجلسي الشعب والشورى في مصر، المؤشرات مع بداية كل دورة برلمانية.
ويتذكر عم محمد قائلا «مر علينا آلاف النواب، خلال السنوات الأربعين الأخيرة، لكن لا نتذكر منهم إلا القليل.. والنواب أنواع، وفي بداية كل دورة برلمانية نعرف كيف ستكون من خلال ما يطلبونه من طلبات. من يكثرون من شرب القهوة السادة والشاي السادة يعكسون نوعا من النواب الجادين، ومن يلجأون لشرب الحلبة والسحلب يكونون عادة من المتزمتين الذين يحبون إثارة المشاكل في القاعة».
وشعر عمال البرلمان من الجيل الجديد والجيل القديم، بمن فيهم من تركوا العمل وخرجوا إلى التقاعد، بالامتنان للشكر الذي وجهه لهم عمرو موسى، رئيس لجنة الخمسين لتعديل الدستور، في ختام أعمال اللجنة أمس، بعد أن استمرت أعمالها بمقر مجلس الشورى نحو ثلاثة أشهر. ويقول العم محمد إن هذه من المرات القليلة التي يتلقى فيها عمال البرلمان، من صغار الموظفين وعمال البوفيه وماسحي الأحذية، الشكر من فوق المنصة.. و«هذا يعبر عن سخاء إنساني وإدراك ممن يقومون بهذا الأمر لدور العاملين في البرلمان».
ومن أشهر العمال الذين عاشوا واستمعوا عبر مكبرات الصوت الداخلية لمعارك البرلمان منذ سنين العم رفعت، ماسح الأحذية، الذي تجده كل عدة دقائق وسط مجموعة من النواب الذين يبحثون أدق أسرار العمل البرلماني، ويكون عادة أول من يعرف اتجاهات الجلسة المقبلة ومواقف التيارات السياسية من مشروع قانون أو قرار أو غيره. ويحتفظ العم رفعت بكل ذلك لنفسه، ويفضل أن يحسب الحسابات ويراقب ويرى صدق توقعاته خلال المناقشات الحامية تحت قبة البرلمان، الذي يعود تاريخه إلى عام 1866.
ويقول عامل آخر يدعى أحمد، اعتاد تقديم المشروبات الباردة والساخنة للنواب منذ سنين، إن أسوأ فترات مرت على عمال البوفيه هي فترات رفع جلسات البرلمان في الإجازة السنوية التي تبدأ عادة من شهر يونيو (حزيران) حتى نوفمبر (تشرين الثاني)، أو في أوقات تعطيل عمل البرلمان كما حدث عدة مرات بعد «ثورة» 25 يناير (كانون الثاني) عام 2011.
ويجري تقديم المشروبات في بوفيه البرلمان الموجود في «البهو الفرعوني» في الطابق الأرضي بأسعار زهيدة، لكن النواب الأثرياء، من فئة رجال المال والأعمال، يدفعون بسخاء لتعويض الأجور الزهيدة التي يتلقاها هؤلاء العمال، خاصة أن معظم النواب يتلقون مكافآت كبيرة عن حضور الجلسات واللجان والسفريات الداخلية والخارجية.
والبهو الفرعوني مكان شاسع تلتقي فيه جماعات من النواب من كل الاتجاهات، ومن خلاله يمكن المرور عبر باب صغير، بين مجلسي الشعب والشورى. ومن هذا الممر، يتناقل عمال المجلس جيلا بعد جيل قصة إطلاق أحد المشتبه في علاقتهم بتنظيم جماعة الإخوان المسلمين النار على أحمد باشا ماهر، رئيس الوزراء المصري عام 1945، لأسباب تتعلق بموقف مصر من دول الحلفاء والمحور عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية. ويجلس عم رفعت بجوار الممر نفسه ممسكا الفرشاة والأصباغ وحوله مجموعات من الأحذية، بينما النواب يتناقشون على المقاعد حفاة في انتظار انتهائه من عمله.
ومنذ أعلن قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح السيسي تعطيل عمل مجلس الشورى وصرف أعضائه الـ270، ظل المجلس خاويا إلا من أعضاء لجنة الخمسين لصياغة الدستور الجديد. ومن قبله، أي منذ عهد المجلس العسكري السابق، الذي أدار المرحلة الانتقالية بعد سقوط نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، كان قد جرى تعطيل عمل مجلس الشعب أيضا وصرف أعضائه الذين يزيدون على 500 نائب، معظمهم من الإسلاميين. ويحمل غالبية العمال ذكريات غير طيبة عن بخل غالبية أولئك النواب «المتزمتين.. وكان بعضهم لا يشرب غير كوب واحد أو اثنين من الشاي بالحليب، ويدفع خمسة جنيهات (أقل من دولار) وينتظر الباقي».
وتنفس العمال الصعداء حين بدأت لجنة الدستور العمل داخل مقر البرلمان على الرغم من العدد القليل لأعضائها، وهم خمسون أساسيون وخمسون احتياطيون، بالإضافة إلى نحو خمسين من الإعلاميين الذين يغطون عمل اللجنة. وبث هذا العمل النشاط في جنبات مقر البرلمان، وجعل أبخرة القهوة والشاي تتصاعد مجددا وسط زجاجات المرطبات، وكان معظم الأعضاء يسددون ثمن المشروبات مضاعفا، لأن قيمتها في الحقيقة أقل مما هو موجود خارج بوفيه البرلمان.
وباختتام اللجنة لأعمالها أصبح غالبية العمال يشعرون بالحزن، وينتظرون إجراء الانتخابات البرلمانية حتى يعود مجلس الشعب على الأقل خلال الشهور الثلاثة المقبلة لتعود الحياة لكي تنبض من جديد بين جدران المبنى الضخم الواقع على شارع قصر العيني وسط القاهرة.
وعبر موسى، وهو يختتم أعمال لجنة الخمسين أمس، عن الحميمية التي جمعت كل من أسهموا في إنجاز دستور مصر، من فقهاء في القانون والدستور وممثلين لفئات اجتماعية مختلفة، وكذلك عمال البوفيه في مقر البرلمان، وذكر بالاسم العم رفعت ماسح الأحذية.
ويقول العم محمد، الذي شهد آلاف الوقائع في مجلسي الشعب والشورى حين كان يعمل هنا منذ نحو أربعين سنة، إن النواب الإسلاميين، بمن فيهم من رجال أعمال، كانوا مشهورين بالتقتير والبخل، وأحيانا لا يسددون حساب المشروبات. ويتذكر العم محمد أن هذه العادة ظهرت في البرلمان في أواخر السبعينات حين سمح الرئيس الراحل أنور السادات بدخول عدد كبير من النواب الإسلاميين البرلمان. ثم تكرر الأمر حين دخل برلمان 2005 - 2010 نواب «الإخوان» الـ88. وعادت الظاهرة نفسها في أول برلمان يحظى فيه النواب الإسلاميون من إخوان وسلفيين بالأغلبية بعد «ثورة» يناير 2011. ويضيف «لا أذكر أنه قام أي برلماني من الإسلاميين أو غير الإسلاميين بتوجيه الشكر لعمال البوفيه أو لماسح أحذية النواب، مثلما فعل السيد عمرو موسى أمس».