أحمد فايق يكتب : لسة مصر ممكنة
رحلة فى «الأيام السينمائية بالجزائر» وسط مباراة كرة قدم وقصة حب عمرها 3 آلاف عام:
من معاناة ليبيا و14 ثورة فى أفريقيا وأمريكا:
طوال أكثر من أربع ساعات كنت أنتظر أن يعلن الكابتن عن قرب وصول الطائرة إلى مطار هوارى بومدين، فالطريق بدا لى شاقا، والطائرة تتأرجح كثيرا وتتمايل فى السماء مثلما تتمايل الدول العربية بين أحلام شعوبها وثورات لم تكتمل، لم أستطع أن أفهم كيف كان يأتى أمازيغ الجزائر إلى مصر قبل 3 آلاف عام برا، وكيف ذهب الإمبراطور رمسيس الثانى إلى أرض المغرب العربى بسيارته «الكارو» التى يجرها حصان، فقد حصلت على فرصة سفر لم ينلها قبلى ملوك مثل رمسيس وشيشناق والمعز لدين الله الفاطمى، حتى الرئيسان الراحلان جمال عبد الناصر وهوارى بومدين تبادلا المودة والحب بينهما فى رحلات بطائرات تبدو بالنسبة لنا قديمة، بعد المسافة بين مصر والجزائر لم يؤثر على البشر، فقد كان هناك خط مودة يمتد من أقصى المغرب العربى ويمر بليبيا وصولا إلى مصر، خط تسبب فى زواج الملك الأمازيغى «شيشناق» ذى الأصول الجزائرية من ابنة كليوباترا، وتسلمه مفاتيح حكم مصر، قبله كان رمسيس الثانى حاكما تقريبا على الجزء المكتشف من العالم، ومن بينه المغرب العربى.
لكن هذه المرة الجزائر بدت مختلفة، فالجميع كان ينتظر مباراتها الحاسمة مع بوركينا فاسو حتى تتأهل إلى كأس العالم بالبرازيل، فى المطار طلب منى الضابط تشجيع الجزائر فى المباراة، وكان هذا طلبا من جميع الجزائريين الذين قابلتهم، المدينة كانت تستعد لكى ترتدى أبهى ما لديها، ليس من أجل مباراة كرة قدم، لكنها إرادة الله التى منحت هذا الشعب الفرحة.. بعد معاناة طوال سنوات سواء مع المحتل الفرنسى أو الإرهاب الأسود الذين قتلوا ملايين من الأبرياء.
الأمطار انهمرت من السماء لتغسل الشوارع، وأمواج البحر تتراقص بقوة كأنها تحتفل مسبقا بالفوز فى المباراة، ففى فيلم «مارادونا» للمخرج الكبير أمير كوستاريتشا حينما سألوا مارادونا.. لقد أحرزت هدفا بيدك، فقال لهم إنها يدى أم يد الله، فقد كانت يد الله التى أذلت الإنجليز الذين ارتكبوا مذابح ضد الأرجنتين، 1988 قام بها الشباب الجزائرى، انتفاضة رفض الإسلاميين المشاركة فيها ثم قفزوا عليها، وحدثت تعديلات دستورية، وفاز الإسلاميون فى الانتخابات، إلا أن الجيش كانت له كلمة أخرى، وعاشت الجزائر فى إرهاب لم يتوقف طوال عشر سنوات، مات فيها ما لا يقل عن 200 ألف مواطن، تفجيرات واغتصاب وذبح واستخدم الإرهاب الأسود أبشع الطرق فى التعامل مع الجزائريين، فهم يضعون دائما المعادلة الشهيرة «إما أن أكون حاكما لك أو أقتلك»، والعسكر فى المقابل يضعونك فى المعادلة الصعبة وهى «إما أن تقبل بنظام ديكتاتورى أو ترضخ للإرهاب من الطرف الآخر».
هذه الأيام الصعبة عاشها الجزائريون مثلما عاشتها شخصيات فيلم «قبل الأيام» للمخرج كريم موسوى، الذى عرض فى الأيام السينمائية بالجزائر، المهرجان كان فرصة طيبة لكى أتخلص من التدافع السريع للأحداث فى مصر، فرصة للخروج من إحساس الإنهاك الـذى وصلنـــا، فالمصائــــب لا تتوقف، ونمر بإحباطات متوالية، فقد حلمنا يوما ما بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، ومنحنا القدر الإخوان والعسكر والفلول، لكن رؤية ما يحدث بالخارج ربما تجعلنا نشعر بهوان ما يحدث فى مصر، فقد نجحت الجزائر والكثير من الدول فى الخروج من الأيام السوداء إلى النور.
فى المشاهد الأولى للفيلم الوثائقى الليبى الطريق إلى تاغوراء «إخراج أشرف المشهراوي»، نرى «جويد سويب» الذى يعيش فى مدينة مصراتة، ويتذكر معنا كيف تم تعذيبه على يد كتائب القذافى والقادمين من مدينة طاغوراء، لينتقل بنا الفيلم إلى أزمة أكثر عمقا، وهى استغلال نظام القذافى لجهل بعض أبناء مدينة «تاغوراء» والإيحاء لهم بأن الوطن يسرق، فتورطوا فى أعمال عنف وقتل واغتصاب لأهالى مصراتة، ثم تتحول إلى ثأر بين ليبيا الجديدة وبين تاغوراء، سكان هذه المدينة من الأمازيغ أصحاب البشرة السوداء، وهذا جعل لون بشرتهم يتحول إلى لعنة عليهم، فمعنى أنك تمتلك بشرة سوداء فى ليبيا أنك كنت من كتائب القذافى التى قتلت وحرقت ونهبت واغتصبت مصراتة، رغم أن تاغوراء نفسها من المدن التى عانت تهميشا فى عهد القذافى، ولم يكن فيها مدرسة واحدة، وبعد نجاح الثورة تشتت أهل تاغوراء بين مدن بنغازى وطرابلس وسبها، ومعظمهم يعيشون الآن فى مخيمات إيواء «الحليس» فى بنى غازى.
ربما كنت واحدا ممن ضحكوا على خطاب القذافى الشهير «بيت بيت حارة حارة زنقة زنقة»، لكن وراء هذا الخطاب دماء سالت بين مدينتين وثأر راح فيه آلاف حتى الآن، ومئات من النساء تم اغتصابهن، فقد كان الخطاب إشارة لكل المدن المحيطة بالمدن الثائرة لفعل كل الأشياء الوحشية فيها، وتبدلت الأدوار بعدما قتل القذافى، وأصبحت تمارس المدن الثورية نفس القهر تجاه المدن المحسوبة على نظام القذافى، وفى حكى متواز سعى الفيلم لتقديم تجربة جنوب أفريقيا فى المصالحة من خلال سفير جنوب أفريقيا فى ليبيا، لكن الأسلوبية ضاعت فى السرد وجميع أدوات المخرج، وبدا الفيلم محاولة بدائية لعمل فيلم تليفزيونى يحمل موضوعا مهمًا، وبدا المخرج مراهقا فى حركة الكاميرا التى سعى بها لاستعراض العضلات والنتيجة فيلم بدائى، غابت فيه اللغة الواضحة، ولم يتعمق فى طرح الشخصيات رغم ثرائها.
وفى الفيلم التونسى «المعارض» للمخرج أنيس الأسود، تشعر بنفسك كأنك حاضر فى الثورة المصرية، من خلال الشخصية التى بنى عليها الأحداث، هو محمد الطاهر الخضراوى اليسارى المناضل الذى كانت لديه رؤية حالمة للأيام الأولى بعد رحيل «بن على»، فهو ينتمى لأسرة ناضلت ضد الاستعمار الفرنسى، وكان يحلم بالعدالة الاجتماعية، ومؤمن بالتجربة الديمقراطية، هو من أبناء قرية «القصرين» البسيطة، وانضم إلى الحزب الديمقراطى التقدمى، وخاض تجربة الانتخابات والدعاية وبداية الانتشار من القواعد الشعبية، وفى واليسـار لا يتاجر باسم الدين مثل الإخوان، كما أن بعض قيادات اليسار نفسها لا تقبل بالتجربة الديمقراطية، الفيلم تجربة ممتعة بالكاميرا مع هذا الشخص الحالم الذى يمر بفترة براءة ثورية، لكنها لم تحمل عمقا يجعلها تعيش لسنوات أخرى.
هل جربت أن تشاهد ابنك أو ابنتك يستمتعان باللعب على هواتف الجيل الثالث من المحمول؟
هل تعلم أهمية هذه الهواتف فى حياتنا الآن.. وهل تعرف المليارات التى يتم ضخها فى جيوب أصحاب هذه الشركات؟
بالتأكيد كل هذا معروف للجميع، لكن هل تعرف أن هناك 5 ملايين و400 ألف إنسان دفعوا حياتهم ثمنا كى تمتلئ جيوب أصحاب شركات تصنيع التليفون، وأن تشعر سعادتك بالارتياح والرفاهية، هذا حدث فى الكونغو تلك الدولة الأفريقية التى تدفع يوميا 1500 قتيل فى الصراعات المسلحة من أجل الثروات الطبيعية مثل «القصدير» و«النيكل» الذى يستخدم فى تصنيع المحمول، والذهب واليورانيوم والألماس، أبناء هذه الدولة الفقيرة يقتلون يوميا من أجل 12 شركة عالمية تتحكم فى مصيرهم، وتقتل أحلامهم.
هذه الحقيقية ستكتشفها سريعا حينما تشاهد الفيلم الأمريكى «ثقافة المقاومة» للمخرجة «إيرا لي»، الفيلم فى حد ذاته هو حالة مختلفة، فالمخرجة برازيلية من أصل كورى، وشارك فى عمل الفيلم مئات من النشطاء السياسيين على مستوى العالم، ينتمون لشبكة تسمى «ثقافة المقاومة»، هؤلاء يتظاهرون سنويا فى نفس التوقيت فى اليوم العالمى للسلام، ويقيمون فعاليات فنية ومهرجانات لمقاومة كل ما هو قاتل لبسطاء الكرة الارضية، فالعالم يحكمه رجال الأعمال، والأنظمة تخدم فقط مصالح الشركات الكبرى، والثروات يحتكرها نصف فى المائة من سكان الأرض، والبقية يتصارعون على 3% فقط من الثروات.
الفن هو أفضل طريقة للمقاومة، ففى التترات الأول نسمع موسيقى تمزج بين مختلفت ثقافات الأرض وغناء بمختلف اللهجات بداية من اللهجة الأصلية لسكان نهر الأمازون وحتى اللغة العربية، وتظهر على الشاشة مجموعة من الكلمات أصبحت تشكل ثقافتنا الآن وتتحكم فى حياتنا منها «إمبريالية.. الدم للجميع.. دولة الإرهاب.. جرافيتى.. هيب هوب.. راب.. رقص.. ملتى ميديا.. تعليم.. الماس الدموى.. فيديوهات.. أفلام.. احتلال.. فن.. ثقافة.. كوميديا.. كومكس».
هذه المفردات البسيطة شكلت وجدان الفيلم كله، وخلقت عالمه الذى نعيشه بكل تفاصيله، هو رحلة ممتعة فى أكثر من 14 دولة، بدأت فكرتها فى عام 2003 أثناء حرب العراق، حيث شعرت المخرجة أنها بحاجة للاكتشاف أكثر، ومن المشاهد الأولى نرى وقفات سلمية فى يوم السلام العالمى فى أكثر من دولة، فى سيراليون نرى أطفالا يعلقون لافتات مكتوبًا عليها «لا سلام بدون عدل»، فى أمريكا نرى مجموعة من المحتجين يتقدمهم رهبان بوذيون، ومشاهد أخرى لمتظاهرين فى أفغانستان واليونان والأرجنتين، ولافتات معلق عليها «لا سلام مع الدبابات والمسدسات».
فى دول حوض نهر الأمازون تدفع الشعوب حياتها من أجل شركات البترول الأمريكية التى ألقت 68 مليون متر مكعب نفايات سامة فى النهر، وقامت باقتلاع 20% من أشجار الغابات.
فى نيجيريا ثار أهل قرية «إيجو» ضد مافيا الغاز الأسماك والحياة فى دلتا نيجيريا، الأطفال يموتون يوميا بالسرطان، والفقر يحيطهم، قاوم أهل “إيجو” باستخدام كل الوسائل بداية بالموسيقى وحتى الصراع المسلح.
فى رواندا قتل مليون مواطن فى 100 يوم فى مذابح الهوتو ضد التوتسى، واغتصبت آلاف النساء، الآن يوجد 100 ألف مسجون بتهمة الإبادة الجماعية، ويعيدون البناء من خلال الاتحاد والمصالحة ومهرجان «فيسباد» الذى يجمع 300 فنان من 20 دولة أفريقية يدعون للتسامح بالرقص والموسيقى.
فى إيران تفضح فرق الراب مذبحة الهجوم الكيميائى على «حلبجة» التى قتل فيها 15 ألف كردى، وفى البرازيل يحارب الفنان الشهير كارلوس لتوف الشرطة والقمع بالرسوم الكارتونية، وفرقة موسيقية حولت البندقية الآلية إلى جيتار للعزف، والرصاص إلى أحمر شفاه للتجميل.