ورد في سفر الرؤيا.. ما هي أورشليم السماوية؟
أعطى الأنبا نيقولا أنطونيو مُطران طنطا والغربية للروم الأرثوذكس، ومتحدث الكنيسة الرسمي، ووكيلها للشؤون العربية تفسيرا لمصطلح أورشليم السماوية الوارد في الفصل 21 من سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي، أخر اسفار الانجيل.
وقال إنه في الآية (22) يقول يوحنا عن مدينة أورشليم المقدسة السماوية: "وَلَمْ أَرَ فِيهَا هَيْكَلًا". كلمة "هَيْكَلًا" وردت في النص اليوناني "ναὸν"، وهي مشتقة من الكلمة "ὁ ναὸς" الذي هو "الهيكل الداخلي" وليس هيكل أورشليم ككل. قوله هذا يعني أنه لم يعد هناك مكان مخصص للحضور المقدس الله الآب، أي هناك ضرورة لهيكل، ذلك كما في العهد القديم عندما كان الشعب الإسرائيلي في الصحراء ولم يكن هناك هيكل بل خيمة فقط، كما ذُكر في (رؤ 22:3) "هُوَذَا خَيِمَةُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَسَيُخَيِّمُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعُوبًا، وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلهًا لَهُمْ". ثم يقول هنا: "لأَنَّ الرَّبَّ اللهَ الْقَادِرَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، هُوَ والحَمَلُ هَيْكَلُهَا". الاسم "الحَمَلُ" ورد في النص اليوناني "τὸ ἀρνίον". إن هذا القول ليوحنا في الآية (22) يعني أن المدينة ككل هي هيكل (ναὸς)، ولا حاجة لهيكل فيها؛ لأن في الهيكل الأرضي يحل فيه مجد الرب. أما في الملكوت، أورشليم الجديدة العظيمة المقدسة، فالله الآب والحَمَل حاضران فيها معًا على الدوام، وهذا يُبين وحدة الجوهر بينهما.
في سفر الرؤيا كثيرًا ما يذكر الحَمَل مع الله الآب، كما في (رؤ 9:7) و(رؤ 4:14) و(رؤ 1:22).
في الآية (23) يقول يوحنا: "وَالْمَدِينَةُ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى الشَّمْسِ وَلاَ إِلَى الْقَمَرِ لِيُضِيئَا فِيهَا، لأَنَّ مَجْدَ اللهِ قَدْ أَنَارَهَا، وَالْحَمَلُ سِرَاجُهَا". قوله "لأَنَّ مَجْدَ اللهِ قَدْ أَنَارَهَا"، مثله ذُكر في الآية (11) بقوله: "لَهَا مَجْدُ اللهِ. نَيِّرُهَا". في الآية (23) يُجمع الله الآب والحَمَل- الله الابن، كما في الآية (22)، لأنه كما لا يُفصل السِراج عن النور هكذا الله الآب لا يُفصل عن الحَمَل- الله الابن؛ لأن المدينة تسير على سِراج الحَمَل والله الآب يُنير طريقها.
وفي الآية (24) يقول يوحنا: "وَتَمْشِي الْأُمَمُ بِنُورِهَا"، لأن نور مجد الله الآب أنار أورشليم السماوية بسِراج الحَمَل (الآية 23). الأمم هنا هم الشعوب غير المؤمنة بالله المثلث الأقانيم سواء من اليهود أو غيرهم. عبارة "تَمْشِي الْأُمَمُ"، وردت في النص اليوناني "περιπατήσουσιν τὰ ἔθνη". ثم يقول: "وَمُلُوكُ الأَرْضِ يَجِيئُونَ بِمَجْدِهِمْ وَكَرَامَتِهِمْ إِلَيْهَا"، هذا يُشير إلى أن ملوك الأرض أتوا إلى مدينة أورشليم المقدسة السماوية خاضعين لأن مجدها وكرامتها، اللذان هما مجد وكرامة كل من لله الآب والحَمَل، لا يقارن بمجدهم.
وفي الآية (25) يقول يوحنا: "وَأَبْوَابُهَا لَنْ تُغْلَقَ نَهَارًا، لأَنَّ لَيْلًا لاَ يَكُونُ هُنَاكَ"، وهذا يشير إلى عدم وجود أعداء، لأنه في الملكوت ليس هناك أعداء.
ثم يقول في الآية (26) عن ملوك الأرض: "وَيَجِيئُونَ بِمَجْدِ الأُمَمِ وَكَرَامَتِهِمْ إِلَيْهَا"، ذلك كما جاء هم "بِمَجْدِهِمْ وَكَرَامَتِهِمْ إِلَيْهَا".
الصورة في الآيتين (23 و24) مستعارة من سفر إشعياء النبي عن أورشليم، بقول الرب: "أَمَّا عَلَيْكِ فَيُشْرِقُ الرَّبُّ، وَمَجْدُهُ عَلَيْكِ يُرَى. فَتَسِيرُ الأُمَمُ فِي نُورِكِ، وَالْمُلُوكُ فِي ضِيَاءِ إِشْرَاقِكِ. اِرْفَعِي عَيْنَيْكِ حَوَالَيْكِ وَانْظُرِي. قَدِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ. جَاءُوا إِلَيْكِ... لاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكِ وَقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّهُ قَدْ مَجَّدَكِ" (إش 2:60-4و9). وبقول الرب: "لاَ تَكُونُ لَكِ بَعْدُ الشَّمْسُ نُورًا فِي النَّهَارِ، وَلاَ الْقَمَرُ يُنِيرُ لَكِ مُضِيئًا، بَلِ الرَّبُّ يَكُونُ لَكِ نُورًا أَبَدِيًّا وَإِلهُكِ زِينَتَكِ. لاَ تَغِيبُ بَعْدُ شَمْسُكِ، وَقَمَرُكِ لاَ يَنْقُصُ، لأَنَّ الرَّبَّ يَكُونُ لَكِ نُورًا أَبَدِيًّا... وَشَعْبُكِ كُلُّهُمْ أَبْرَارٌ. إِلَى الأَبَدِ يَرِثُونَ الأَرْضَ" (إش 19:60و21). ويوحنا يعطيها يعطيها معنى جديد، كما سبق القول أن أورشليم السماوية التي "تَمْشِي الْأُمَمُ بِنُورِهَا"، "مَجْدَ اللهِ قَدْ أَنَارَهَا، وَالْحَمَلُ سِرَاجُهَا". والأمم ليسوا غير اليهود بل هم اليهود وغيرهم.
كما أن الصورة في الآية (25) "وَأَبْوَابُهَا لَنْ تُغْلَقَ نَهَارًا" وفي الآية (26) "وَيَجِيئُونَ بِمَجْدِ الأُمَمِ وَكَرَامَتِهِمْ إِلَيْهَا"، مستوحاة من سفر إشعياء النبي بقول الرب عن أورشليم: "وتُفتح أبوابكِ دائمًا. نهارًا وليلًا لا تُغلق. ليؤتي إليكِ بغنى الأمم وتُقاد ملوكهم" (إش 11:60). لأنه كما سبق القول، يوحنا عنده رؤية نبوية خاصة فهو بعد معاينته للرؤى يأخذ صورًا معروفة من العهد القديم ويعيد صياغتها، بمعنى أدق يعيد ولادتها بصيغة وروح مسيحية.
الصورة في الآيات (24، 25، 26) هي صورة الحج الأخروي الكبير إلى أورشليم، التي أصبحت المكان الروحي لجميع الملوك والشعوب. {كلمة "أخروي"، باليونانية "εσχατολογική"، تعني ما هو متعلق بالعالم الآتي وبمصير الإنسان ما بعد الموت}.
ثم يقول يوحنا في الآية (27): "وَلَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلاَ مَا يَصْنَعُ رَجِسًا وَكَذِبًا، إِّلاَّ الْمَكْتُوبِينَ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الحَمَلِ".
"الدناسة" و"النجاسة" يقابلهما الطهارة، ولهما معنيان، الأول: معنى روحي، كما سمع بطرس الرسول حينما كان في غيبةٍ صوتًا قائلًا له عن الطهارة والنجاسة: "مَا طَهَّرَهُ اللهُ لاَ تُنَجِّسْهُ أَنْتَ" (أع 9:11-14). والثاني: معنى أخلاقي، كقول بطرس الرسول لمن معه من اليهود عن كُرنيليوس الروماني الأممي: "أَرَانِي اللهُ أَنْ لاَ أَقُولَ عَنْ إِنْسَانٍ مَا إِنَّهُ دَنِسٌ أَوْ نَجِسٌ" (أع 28:10). قول يوحنا هنا "مَا يَصْنَعُ رَجِسًا"، يعني "صانعوا الرجس" أي "الرجسون". وقوله "مَا يَصْنَعُ... كَذِبًا"، يعني "صانعوا الكذب" أي "الكذبة". وهذان الإثنين ذُكِرا في (رؤ 8:22) مع غيرهم الذين قيل فيهما هناك "فَنَصِيبُهُمْ فِي الْبُحَيْرَةِ الْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ".
في الآية (27) "الْمَكْتُوبُونَ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الحَمَلِ"، هم الغالبون الذين ذكروا في (رؤ 5:3) بقول المسيح: "مَنْ يَغْلِبُ فَذلِكَ سَيَلْبَسُ ثِيَابًا بِيضًا، وَلَنْ أَمْحُوَ اسْمَهُ مِنْ سِفْرِ الْحَيَاةِ، وَسَأَعْتَرِفُ بِاسْمِهِ أَمَامَ أَبِي وَأَمَامَ مَلاَئِكَتِهِ".