تصريح جديد من شيخ الأزهر بشأن الطلاق الشفهي
قال الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، إن مِمَّا يتعلَّق بموضوع «الطَّلاق» في الإسلام ويمسُّه مَسَّا مُباشرًا مسألةُ الطَّلاق الشَّفهي أو «الإشهادِ على الطلاق» أو: «توثيقِ الطَّلاق» أو غير ذلك من الأسماء التي قد تتداخل معانيها وتحتاج إلى شيءٍ من البيان والتحديد.
وأضاف أن ما يُمكن قوله في هذا المقام هو: بيانُ ما وَرَدَ في أول سورة الطَّلاق مما يتعلق بهذا الشأن، فقد وردت في أوَّلِ آيتين من هذه السورة تكاليفُ في صيغة أوامر، تُــبَيِّن للمُسلِمين أنَّه: إذا عزم أحدهم على طلاق زوجته فعليه أنْ يُطلقَها في بدايةِ عِدَّتها، وفي طُهْرٍ لم يتماسَّا فيه، وأن يتَّقوا الله في ذلك، وألَّا يُخْرجوا المطلَّقاتِ من بيت الزوجية أثناء عِدَّتهن، وألَّا يَخرُجْن من تلقاء أنفسهن حتى تنقضي عدتهن، اللهم إلَّا في حالةٍ نادرة الوقوع، هي حالة اقتراف الفاحشة، اقترافًا بَيِّنًا واضحًا لا مجالَ فيه لشكٍّ أو اشتباه. ثم تُذكِّرهم الآية بأن هذه حدودٌ حدَّها الله تعالى، لا يجوز لمؤمنٍ أن يَتعدَّاها.
وأكد الطيب أن مَدارُ هذه الآية الأولى هنا هي على بقاء المطلَّقة في بيت الزوجية مع زوجها، والسِّرُّ في ذلك ما تنصُّ عليه الآية من رجاءِ أنْ يُحْدِثَ اللهُ تعالى من الأسباب -في فترة العِدَّة- ما عساه أنْ يحمل الزوجَ على تغيير رأيه في زوجته فيُراجعَها قبل أن تخرج من عِدَّتِها.. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ۖ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1].
وتابع شيخالأزهر أن الآية الثانية تأتي لتُبيِّن أنَّه إذا لم يحدثْ بينهما جديد، وأوشكت عِدَّة الزوجة على الانتهاء فليس أمام الزوج -شرعًا- إلَّا أحدُ أمرين: إمَّا أنْ يراجع زوجته بالمعروف، وإمَّا أنْ يُفارقها بالمعروف أيضًا، بأن يعطيها حقوقها، ويتركَها وشأنها من غير طلاق، وعلى الزوج حينئذٍ أن يُشْهِدَ شاهدي عدل على ما يتخذه من هذين الموقفين: الرجعة أو المفارقة: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطَّلاق:2-3]. وخُلاصَة ما في الآية الأولى والثانية من أحكامٍ تشريعيَّةٍ هو: الطَّلاق لأوَّل العِدَّة في الآية الأولى، ثم: الرجعة والإشهاد عليها في الآية الثانية.
وأوضح الطيب أن هذه المسألة هنا جاءت بسؤالين محوريين تساءلهما الأئمَّة والعلماء: السُّؤال الأول هو: هل يتوجَّه الأمر بالإشهاد في الآية الثانية على الرجعة فقط، أو يرجعُ للوراء، فيتوجَّه أيضًا إلى «الطَّلاق» المذكور في الآية الأولى، وهذا السُّؤال لا يهمنا كثيرًا في هذه الحلقة. والسؤال الثاني: إذا قلنا: إنَّ الأمر بالإشهاد مُتوجِّهٌ على الطَّلاق في الآية الأولى، فهل يُراد به الأمرُ على سبيل الوجوب، بمعنى: أنَّ مَن يُطلِّق دون أن يُشْهِدَ اثنين ذوي عدلٍ على طلاقِه آثمٌ ومخالفٌ لأمر الله تعالى، ويكون طلاقه لاغيًا كأن لم يكن، أو يُراد به الأمر على سبيل الاستحباب فقط، وحينئذٍ لا يأثم المطلِّق دون إشهاد ويقع طلاقه؟
وأجاب الإمام الأكبر بإيجاز: أنَّ جمهرةَ علماء التفسير، وجمهرةَ أئمَّة مذاهب أهل السُّنَّة قاطبةً ذهبت إلى أنَّ الأمر بالإشهاد في الآية الثانية يتوجه على الطلاق في الآية الأولى ولكن على سبيل الاستحباب والندب، وليس على سبيل الوجوب واللزوم، وأنَّ مَن يُطلِّق زوجته دون إشهاد لا إثم عليه، وطلاقه واقع، إذ استكمل شروط الوقوع، وأهمها: ألَّا يكون الطَّلاق في حالة غضب أو حالة اضطرار.. وحُجَّة الجُمهور على ما ذهبوا إليه من وقوع الطَّلاق بغيرِ إشهادٍ أنَّه: «لم يُنقل عن النبي ﷺ، ولا عن أحدٍ من أصحابِه قول بأنَّ الإشهاد شرطٌ في الطلاق»، وهذا يدل على أنَّ الأمر بالإشهاد لم يكن على سبيل الوجوب بل هو على سبيل الندب.. وكذلك استدلُّوا بأنَّ الأمر بالإشهاد على الطلاق مثل الأمر بالإشهاد على البيع، في قوله تعالى في سورة البقرة: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، والإجماعُ منعقدٌ على أن الأمر هنا على سبيل الندب وليس على سبيل الوجوب، وإلَّا لوجب على مَن يشتري أو يبيع أي شيء، صَغُر أو كَبُر، أن يُحضر شاهدين، وإلَّا كان بيعه أو شراؤه باطلًا وكأن لم يَكُن، ولم يَقُلْ بذلك أحد، لأنه من باب التكليف بما لا يُطاق، وهو ما يتنافى مع قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقوله ﷺ: «إنَّ هذا الدِّينَ يُسْرٌ».
وأشار أنه قد خالف ما ذهب إليه جمهور أهل العلم فرقتان:
علماء الشيعة الجعفريَّة الذين ذهبوا إلى أنَّ الإشهاد شرطٌ في صِحَّةِ الطَّلاق، ويَلْزمُ ذلك أنَّ مَن يُطلِّق زوجته دون إشهاد فطلاقُه لاغٍ كأن لم يَكُن حتى ولو تكرر عشرات المرَّات.
والفرقة الثانية: هي فرقة الظَّاهريَّة التي ذهبت إلى أنَّ الإشهاد واجبٌ مأمور به في الآية الثانية من سورة الطلاق أمرًا على سبيل الوجوب في الطَّلاق وفي الرجعة، بمعنى: أنَّ مَن يُطلِّق دون إشهاد آثم ومُذنب، غير أنَّ ابن حزم، وهو من كبار أئِمَّة هذا المذهب، يؤكِّد على أنَّ المُطلِّق بغير إشهاد، وإن كان آثمًا، إلَّا أنَّ طلاقه صحيح ويقع، ويمثِّل لذلك بالصلاة في الأرض المغصوبة؛ فإنها تقع صحيحةً وإنْ كان صاحبها قد ارتكبَ إثمًا بصلاتِه فيها. يقول ابن حزم في كتابه «مراتب الإجماع»: «ولا نعلم خلافًا في أنَّ من طلَّق ولم يُشْهِد أنَّ الطَّلاق له لازم، ولكن لسنا نقطع على أنَّه إجماع».
وتابع: ثم جاء من بعدِه ابن تيمية، وقطع بأنَّ الإجماع منعقد على أنَّ وجوب الإشهاد في الآية الثانية متوجه على الرجعة فقط، ولا يتوجه على الطَّلاق في الآية الأولى، يقول ابن تيمية رحمه الله في فتاواه: «وقد ظنَّ بعضُ الناسِ أنَّ الإشهاد هو على الطلاق، وظنَّ أنَّ الطلاقَ الذي لا يُشْهَد عليه لا يقع، وهذا خلافُ إجماع السَّلَف وخلاف الكتاب والسُّنَّة، ولم يَقُلْ به أَحَدٌ من العلماءِ المشهورين.. فإن الطلاقَ أُذِنَ فيه أوَّلًا، ولم يُؤمَر فيه بالإشهاد، وإنما أُمِرَ بالإشهاد على الرجعة، حين قال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2]، والمراد بالمفارقة في الآية إخلاءُ سبيل الزوجة إذا مضت العِدَّة.. وهذا ليس بطلاق ولا برجعة ولا نكاح، فعُلِمَ أنَّ الإشهادَ إنَّما هو للرجعة».
وأكد شيخ الأزهر أن هذا الرأي هو الذي اعتمده علماء أهل السُّنَّة في هذه المسألة، وهو عدمُ اعتبار الإشهاد في وقوع الطَّلاق. ثم وصل الأمر إلى هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف التي ناقشت الموضوع مناقشة تفصيليَّة على مدى ستة أشهر، ثم أصدرت بيانها للناس في يوم الأحد الثامن من جمادى الأولى عام ألف وأربعمائة وثمان وثلاثين، الموافق الخامس من فبراير عام ألفين وسبعة عشر، وكان أهم ما ورد في بيانها هو:
أوَّلًا: وقوع الطلاق الشَّفهي المستوفي أركانَه وشروطَه دون اشتراط إشهاد أو توثيق.
ثانيًا: يجب على المطلِّق في كل الأحوال والظروف أن يسارع إلى توثيق طلاقه فَوْرَ وقوعِه؛ حِفاظًا على حُقوقِ المطلَّقة وحقوق أبنائها.. ونصَّ بيان الهيئة الموقَّرَة على أنَّ: «من حقِّ وليِّ الأمر شَرَعًا أن يَتَّخِذَ ما يلزمُ من إجراءاتٍ لسَنِّ تشريعٍ يَكفُل إيقاعَ عقوبةٍ تعزيريَّةٍ رادعةٍ على مَن يمتنع عن التوثيق أو يماطل فيه؛ لأنَّ في ذلك إضرارًا بالمرأة وبحقوقها الشرعيَّة».
ثالثًا: تحذير المسلمين من الاستهانة بأمرِ الطَّلاق، والتَّسَرُّع في هدم الأُسْرَة، وتشريد الأطفال والأولاد، وتعريضهم للضَّياع والأمراض الجَسَديَّة والنَّفْسِيَّة والخُلُقيَّة، وأنه إذا استُنفِدت كلُّ وسائل الإصلاح، وتحتَّم الفِراق، وقرَّر الزوجان الطَّلاق؛ فعلى الزوج أنْ يلتزم -بعد طلاقه- بالتَّوثيق أمام المأذون دُون تَراخٍ؛ حِفظًا للحقوق، ومَنعًا لظُلْم المطلَّقة.. كما اقترحت الهيئة أن يُعادَ النَّظرُ في تقدير النَّفقات التي تترتَّبُ على الطَّلاق بما يُساعد المطلَّقة ويُعينها على حُسْنِ تربيةِ أولادها.
واختتم شيخ الأزهر حلقته بأن خُلاصَة الأمر أنَّ هيئة كِبار العُلماء تُشجِّع على توثيق الطَّلاق، وتُطالب بسَنِّ قانون يُلزم الزوج بالتوثيق، ولكن لا تستطيع الهيئة أن تفتي بأن الطَّلاق المستوفيَ للشروط إذا صدر من الزوج دون إشهاد أو توثيق لا يقع، وكأنَّه لم يكن، بل ترى أن هذا الرأي مخالف لما استقرَّ عليه جمهور فقهاء أهل السُّنَّة، بل جمهور المسلمين.. وأنَّ مذاهب الفقه التي يجري عليها العمل في أقطار أهل السُّنَّة، والتي تُدرَّس في الأزهر منذ أكثر من ألف عام وحتى اليوم ليس فيها هذا الرأي.
وقال شيخ الأزهر بعد عرض ما جاء في بيان هيئة كبار العلماء: ونحن نرى أننا إذا أردنا أن نُناقشَ هذا الأمر، ونصل فيه إلى رأي جديد شرعًا؛ فإنَّه لا مفرَّ لنا من عقدِ مؤتمرٍ عالميٍّ جامع، يضمُّ علماء متخصصين ممثلين لدول العالم الإسلامي، يجتمعون فيه ويناقِشون وينتهون إلى رأيٍ يصبح هو الرأي المعتمد بالإجماع أو الأغلبية. إذْ من المعلوم أن ما ثبت بالإجماع لا يتغيَّر إلَّا بإجماعٍ مُماثل.
جاء ذلك خلال الحلقة الثانية والعشرين من برنامجه الرمضاني «الإمام الطيب» الذي يعرض علي الفضائية المصرية في تمام الساعه 5مساءا.