د. رشا سمير تكتب: كتاب وسط البلد..حكايات الأماكن بعدسة حُراسها
لو روت الشوارع لكتبت تاريخ الوطن بألف قلم، وسطرت ملامح الأزمنة والأمكنة بريشة العاشق وليس المؤرخ.
لو سطرت الأزقة الحكايات لتشابهت العناوين واختلفت الرؤى، فكان الراوي العليم في كل فصل هو ذاك الجدار القابع عند بوابة الخروج.
لو تحدثت الأماكن لأصبحت كُتب التاريخ إعترافات وحكايات وسير لكل من جاء وكل من راح وحتى لمن عبروا السبيل.
فماذا لو صمتت الأفواه وجفت الأقلام، وفقط تحدثت الأماكن؟
هنا سترسم مصر معالم الدنيا بكل ما تملك من جمال وأصالة وفنون..
مصر المعابد، والشورع والدكاكين والأرصفة..
إن كل مكان في مصر له طابع خاص وحُراس، حُراس يحرسون تاريخها، يحملون الحِراب ويقاتلون من أجل عيون البهية.
قلب مصر النابض عبر التاريخ كان وسيظل هو منطقة وسط البلد..فهي الجمال المتفرد وإن إمتلكه الجميع.
مع مرور الوقت تغير وجه مصر، غابت شمس أماكنها وبهت لونها، بعد أن طالها يد الإهمال، لكن ظل هناك دائما حراس جندتهم هويتهم وافكارهم وخيالهم لينقذوا ما تبقى من تاريخ ويعيدوا رونق الألوان والمعاني.
هذا هو بالتحديد ما حاولت دار الشروق إحياؤه وتقديمه من خلال كتاب (وسط البلد: ما وراء الحكايات) بالتعاون مع شركة الإسماعيلية، في كتاب مصور ملون من القطع الكبير يقع في ١٨٠ صفحة حاملا بين ثناياه لقطات تحمل عشق مصر في كل زاوية من زوايا التصوير الخلاب الذي قام به ثلاثة من المصورين المحترفين..
الكتاب إستغرق في إعداده ثماني سنوات حتى خرج إلى النور، ما بين طرح الفكرة وتناولها والتدقيق من قبل دار الشروق في إخراج الكتاب بهذا الشكل الراقي الغني في تفاصيله.
بداية الحكاية:
البداية هي شركة الإسماعيلية وهي الشركة المعنية بشراء عمارات وسط البلد القديمة لإعادة ترميمها وإحياء التراث لإستخدامها من جديد، فالشركة لديها ٢٥ بناية تم إعادتها للحياة بعد الترميم.
إنها ببساطة محاولة لإصطحاب الماضي ليلتقي بالمستقبل، بنفس الخطوط والمعانى القديمة، من خلال جيل آمن بالحُلم في مبادرة لإحياء التراث المصري.
للاحتفاء بهذا المشهد الأيقوني لمنطقة وسط البلد، تم التعاون مع ثلاثة من أكثر المصورين موهبة في المجال، والمعروفين بشغفهم للتراث، حيث طرح كل فنان منهم تجربته مع وسط البلد من زاوية مختلفة وبرؤية جديدة..
الكتاب مقسم إلى ثلاث أجزاء، كل جزء تناوله بالعدسة أحد المصورين المبدعين بمقدمة ونص بسيط للفصل..في شرح بسيط، هي إذن كلمات على إيقاع عدسة التصوير..
عدسة كريم الحيوان بقلم سيد محمود:
إلتقط كريم الحيوان صورًا لرواد وسط البلد، وخاصة السكان الأكبر سنًا، الذين عاصروا تغير المشهد الإجتماعي في فصل بعنوان "حراس وسط البلد" وقدمه سيد محمود.
عدسة بيلو حسين بقلم نورا كحيل أخرس:
صورت بيلو حسين ببراعة المسارح والسينمات القديمة المنسية ذات المعمار الاستثنائي، في فصل بعنوان "برودواي وسط البلد" وقدمته نورا كحيل أخرس.
عدسة يحيى العلايلي بقلم هبة حبيب:
بمذاق مختلف إلتقط يحيى العلايلي صور مبهجة للمطاعم القديمة والجديدة، الكلاسيكية والحديثة، وكذلك أماكن الخروج والتنزه في وسط البلد، في فصل بعنوان "مذاق وسط البلد" وقدمته هبة حبيب.
مزاد الإبداع في صالة «كاتساروس»:
في تقليد مختلف لحفل إطلاق الكتب أو حفلات التوقيع، قامت دار الشروق بالتعاون مع شركة ((الإسماعيلية للاستثمار العقاري)) التي يمتلكها رجل الأعمال سميح ساويرس، ويديرها كريم شافعي، رئيس مجلس إدارة الشركة بدعوة لفيف من المبدعين والمثقفين والفنانين إلى حفل إطلاق هذا الكتاب الأنيق في مكان مختلف وخلاب هو صالة «كاتساروس» الحفل الذي تشرفت أن أكون أنا أحد حضوره.
صالة كاتساروس لمن لا يعرف هي صالة من أقدم وأشهر صالات المزادات في وسط البلد وبالتحديد في شارع جواد حسني، يرجع تاريخ نشأتها إلى ١٩٣٢ حيث سميت بإسم المالك الذي كان في بادئ الأمر استوديو لتصوير الأفلام وتحول الى صالة مزادات، كانت تدار من قبل يونانين هما كاتساروس وميخايليديس.
في تصريح خاص للاستاذ احمد بديرمدير عام دار الشروق عن تحمسهم لنشر الكتاب قال:
" أول حوار بيني وبين كريم الشافعي كان في نوفمبر ٢٠١٨، حينها كانت أول مرة نتحدث فيها عن كتاب "وسط البلد: ما وراء الحكايات"، وذلك وصولا إلى التصور النهائي حول الكتاب، الذي قررنا أن يكون ١٨٠ صفحة شهدوا جهدا كبيرا للانتهاء منهم، حيث بذل الفريق كله مجهود فوق العادة، فما جذبنا في هذا المشروع ليس" الكلاسيكية" وإنما هدف شركة الإسماعيلية الحضاري والعمراني والثقافي والتراثي والأثري الذي يتحدث عن الروح الموجودة في المباني والأشخاص والفنون التي تمارس فيها".
لم أفهم في البداية سبب إختيار المكان إلا بعد أن إرتحلت بين صفحات الكتاب، وعرفت أن صالة مزادات كاتساروس هي أحد حراس وسط البلد الذين إختارهم كريم الحيوان في الفصل الخاص به.
أيام مصر الذهبية:
بداية من الغلاف الأنيق الذي صممه هاني صلاح بصورة لصاحبها أحمد التهامي، تصطحبنا عين المصورين بكاميرا مختلفة إلى أماكن سكنتهم قبل أن يسكنوها فجاءت الصور خير من ألف حرف.
في بداية الكتاب إستوقفتني كلمة شركة الإسماعيلية وإهداء يقول:
" هذا الكتاب إهداء يفيض بالحنين إلى أيام مصر الذهبية"
الحقيقة أننا جميعا نحن إلى أيام مصر الذهبية، مصر الريادة والجمال والطوائف المتعددة التي تعايشت في سلام ومحبة.
وهذا ما أتفق فيه مع الكاتب سيد محمود الذي قدم الفصل الأول متحدثا عن هذه الظاهرة الهامة وهي الظاهرة التي تتميز بها القاهرة عن غيرها من المدن قديما، ظاهرة التعددية، وإنصهار المجتمع بكافة طوائفه في نسيج واحد، بدأ هذا النسيج في التفسخ بعدما غزا رأس المال الطفيلي مدينة القاهرة عقب تدفق المهاجرين الجماعي من الريف إلى المدينة، وعقب الخروج المنهجي للأجانب والأقليات المتمصرة، هنا تولدت فجوة بين قيم المدينة التقليدية من جانب وحاضرها من الجانب الآخر، أدى النضال من أجل رأب هذه الفجوة إلى ظهور مجموعة من المقاومين هم حراس وسط البلد كما لقبهم الكتاب وهم أمجد نجيب، هدى لطفي، صالة مزادات كاتساروس، جليلة القاضي، ماريليز دوس.
موت المسرح:
ننتقل إلى واحد من أهم فصول الكتاب وهو بعنوان (برودواي وسط البلد) تشرح لنا فيه المصورة بيلو حسين كيف أنها قامت بعمل مشروع بدأته في عام ٢٠١٥ أسمته (موت المسرح) وهو فكرة نبعت من عشقها للمسرح وحزنها على ما آلت إليه مسارح مصر، بعدسة العاشق وليس الفنان إنطلقت تعدو في شوارع وسط البلد وتطرق الأبواب بسؤال واحد:
" دلوني على المسارح المغلقة؟! "
فمعظم هذه المسارح كانت مغلقة أو مهجورة، تتسائل بيلو وأتسائل معها: لماذا تُركت كل هذه الأماكن الجميلة ليطويها الإهمال؟
إنه تاريخ مصر الذي يسرقه منا الإهمال فلماذا نغض أبصارنا عن تلك الحقيقة المُفجعة؟!.
على سبيل المثال دار سينما ومسرح قصر النيل اللذان هما من أقدم وأعرق دور العرض في العالم العربي والتي إفتتحها جمال عبد الناصر في أوائل الخمسينيات غرقت في ظلام دامس، وصمت طال مقاعدها فلم يعد تصفيق الجمهور يُسمع.
صناعة السينما بقلم كحيل:
الحقيقة إن المقدمة البسيطة البليغة التي كتبتها نورا كحيل أخرس عن السينما والمسرح في مصر التي كانت، مقدمة أسعدتني، فقد تحدثت عن صناعة الأفلام المصرية التي كانت لمصر فيها الريادة، فاللغة المصرية التي يتقنها كل العرب أساسها صناعة السينما التي إحتلت البيوت العربية،
شرحت كحيل قصة حضور الأخوان لوميير إلى مصر في بداية القرن التاسع عشر وهي القصة التي ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة، وكيف كلفا وقتها آلكسندر بروميو بتسجيل بعض المقاطع لحياة المدينة في البلاد، وهكذا أصبح كوبري قصر النيل على سبيل المثال أحد المواقع الأيقونية المخلدة في أعمال الأخوين لوميير.
كتبت كحيل عن أهمية منطقة وسط البلد في صناعة السينما والتصوير قديما، وكيف أن الأوبرا الخديوية كانت عاملا مشتركا لأغلب أفلام السبعينيات.
وتحدثت أيضا بدقة عن أهم دور العرض في ذاك الوقت مثل سينما كوزموس، ديانا، بيجال، راديو، ريفولي، وديانا وكريم (فيمينا) وأهميتها في صناعة تاريخ فني له محتوى هام.
وختاما كلمة المحرر:
ينتهي الكتاب بكلمة المحرر زينيا نيكولسكايا وهي مصورة فوتوغرافية روسية تأثرت بالبنايات القديمة بمدينة سانت بطرسبرغ، وهو ما جعلها تربط في صورة ذهنية ذكية تلك الصورة بصورة البنايات القديمة بمصر، ومن ثم تقرر إنجاز مشروع توثيقي عن هذا التشابه والقصور المنسية.
تقول زينيا عن عملها في هذا المشروع الثقافي:
" أثناء زيارتي للقاهرة لأول مرة، كان لدي شعور دائم بأنني كنت هنا من قبل، فالمدينة بدت مثل سانت بطرسبرغ مأهولة بالغرباء".
إستعانت دار الشروق بهذه السيدة الفريدة من نوعها لتقوم بتحرير كتاب فريد من نوعه، وفي نهاية الكتاب أو ختام صفحاته تروي لنا المحررة تجربتها مع التصوير الفوتوغرافي وإرتباطه بالتاريخ.
تختتم المحررة كلمتها بسطور مُعبرة تقول فيها:
" إن مبادرة كتاب (وسط البلد: ما وراء الحكايات) هي الأولى من نوعها، ونأمل أن تكون إنطلاقة لتقليد جميل..حتى في زمن الإنستاجرام لم يزل حلم كل مصور أن ينشر كتابا حقيقيا، شيئا ملموسا يمكن الرجوع إليه مرات ومرات، يأمل هذا الكتاب في أن ينشئ أرضية مستدامة لخطاب التصوير الفوتوغرافي وأن يساعد في حفظ التراث البصري الإستثنائي لوسط البلد"
تحية لكل صُناع هذا العمل الأدبي الثقافي الفني المتميز..
تحية من القلب لمن حلموا ولمن آمنوا بالحلم ولمن عملوا على تحقيقه.